يمثل المشهد السوري الراهن مقدمة شبه مؤكدة لانهيار شامل للوضع، حيث يعجز نظام الأسد عن توفير أساسيات الحياة اليومية لسكان المناطق التي يسيطر عليها من غذاء ودواء ووقود وخدمات، وهو عاجز عن تلبية الاحتياجات العامة للمجتمع السوري، وصولاً إلى عجزه عن تشغيل أجهزته الوظيفية في إدارة شؤون السلطة والمجتمع، بل إن عجزه في هذا الجانب وصل إلى المؤسسة الأمنية – العسكرية، التي تمثل عصب النظام وقوته، وتحمي وجوده، والأمثلة في كل ما سبق أكثر من أن تعدّ وتحصى.
ورغم أن للنظام سرديتَه عن أسباب خراب الوضع، بأنها نتيجة مؤامرة خارجية على النظام، وأنها تجد من الإرهابيين والمتطرفين أدوات لها، إضافة إلى ساعين للاستيلاء على السلطة، فإن هذه السردية، لا تقوى على الصمود أمام حقيقة، أن سبب الخراب هو النظام وسياسته، التي بدأت مع خيار الحل الأمني – العسكري في مواجهة ثورة 2011، وتصاعدت مع جهده في عسكرة الصراع، وفتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية لإخضاع السوريين وإعادتهم إلى حظيرة النظام، ولإن نجحت تلك السياسة في بقاء النظام، فإنها كرّست تبعيته للقوى الداعمة من إيرانيين وروس، وقادت إلى تدمير قدرات الدولة والمجتمع، وتسببت بمزيد من ضعف وتردي النظام نفسه.
وبخلاف كل الحالات السابقة، فإن إيران وروسيا حليفي نظام الأسد، يترددان في التقدم لمساعدة النظام على تجاوز الوضع الراهن، ولا يكمن سبب ذلك فيما يواجهه كل واحد من الطرفين من تحديات داخلية – خارجية فقط، بل أيضاً لإحساسهما وفق ما يرشح من نقاشات وتقديرات تتواصل في كواليس طهران وموسكو، بأن النظام عدا أنه يستولي على المساعدات، ويسرقها النافذون فيه، فإنه لا يملك أي قدرة على معالجة المشاكل، بل هو لا يعترف أصلاً بالمشاكل، وبالتالي، فإن سياسة الحليفين ستكون في حدود دنيا في المرحلة المقبلة، وهي ستخضع للتقييم في ضوء أهداف ومصالح كل منهما، التي تتقاطع في أكثر من مجال ومكان، كما في مثال سوريا؛ لأن علاقات الطرفين قديمة وقوية وشاملة مجالات كثيرة.
وللحق، فإن واقع الحال السوري، يدفع القوى الإقليمية المتدخلة والمهتمة بالوضع السوري إلى إعادة ترتيب سياستها السورية، كما يدفع القوى الدولية إلى تقييم الوضع، واحتمالات تطوره واتجاهاته في السياق ذاته، وكلها تفاصيل يمكن أن تغيير خرائط القوة والصراع، الربح والخسارة في الحالة السورية، خاصة أن كل اللاعبين والراغبين في دور بسوريا وحولها، يسعون ويجهدون نحو تحسين أوراقهم.
أولى القوى الإقليمية المهتمة إيران، وهي الأكثر حضوراً وتدخلاً في سوريا، وتشكل بوجودها العسكري – الأمني مع الميليشيات التابعة لها السند الرئيس للنظام، وقوة التغيير في بنى المجتمع السوري، وخاصة في تشييع المجتمع وخلق تنظيمات موالية لها داخله، وهي الداعم الاقتصادي الرئيسي، حيث زادت مساعداتها للنظام عن أربعة وعشرين مليار دولار في العقد الماضي.
ولعل من الطبيعي، أن تشعر إيران بالقلق مما يظهر في المشهد السوري، وأن تسعى لجعل التطورات المحتملة تصبّ في قناة مصالحها، وفي هذا تأتي الزيارة المرتقبة للرئيس الإيراني إلى سوريا، لكن تحقيق هكذا إنجاز مرهون بسياسات القوى الإقليمية الأخرى والقوى الدولية المؤثرة، وسط مجموعة من عوامل لا تتصل مباشرة بالموضوع السوري، أبرزها تصاعد ثورة الإيرانيين ضد حكم الملالي.
القوة الثانية هي تركيا، التي تحتل الموقع المقابل لإيران في خندق الصراع في سوريا وعليها، وتملك تركيا أوراقاً متعددة. إذ فيها أكبر تجمع سوري في الخارج بواقع نحو أربعة ملايين نسمة، وهي مسؤولة بشكل ما عن أكثر من أربعة ملايين آخرين، يقيمون في مناطق السيطرة التركية شمال غرب، ولديها تأثير قوي على التشكيلات المسلحة في المنطقة من جيش وطني إلى «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً)، إضافة إلى تأثيرها على كتلة المعارضة الرئيسية، وخاصة الائتلاف الوطني. وكله يضاف إلى وجود عسكري تركي، كرّسته أربع عمليات عسكرية واسعة في الشمال السوري خلال السنوات الماضية، ويضم نحو مائة وعشرين ألف جندي موزعين على أكثر من مائة وعشرين قاعدة ونقطة عسكرية، تتوزع فيها وحولها آلاف الآليات والأسلحة، بينها منظومات دفاع جوي وراجمات صواريخ.
وتركيا بحجمها السوري بين أكثر الأطراف الإقليمية سعياً إلى تعزيز مكانتها عبر انفتاح على نظام الأسد، وتوظيف هذا التوجه علناً في ثلاث نقاط لا تتصل مباشرة بالموضوع السوري تعزيز علاقاتها مع موسكو، وإسكات المعارضة التركية قبل المعركة الانتخابية الكبرى، وفتح بوابة تشارك مع الأسد في محاربة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) الموالية لحزب العمال الكردستاني.
القوة الإقليمية الثالثة، تمثلها المجموعة العربية ومركزها في الخليج، ولإن كانت ذات قوس واسع في النظر إلى الموضوع السوري وما حوله، فإنها متقاربة في الاهتمام به، وخاصة لجهة تخفيف تداعياته الإنسانية والسياسية مع وجود مئات آلاف السوريين المقيمين في الخليج، وهي مهتمة أيضاً بوقف الحرب وتعافي سوريا عبر حل سياسي، يعيدها إلى محيطها.
إن العامل الأكثر تأثيراً على موقف المجموعة العربية في الموضوع السوري، هو وجود إيران وسياساتها في سوريا في إطار انتشار إقليمي واسع، يشمل العراق ولبنان واليمن، يمثل أخطاراً متعددة الأبعاد؛ مما يجعل مساعي محاصرة إيران وصولاً إلى إخراجها من سوريا جزءاً من مواجهة الانتشار الإيراني في الإقليم، حيث يمثل وجودها وسياساتها في الإقليم مصدر تهديد لاستقرار الخليج وعموم المنطقة، وقد شهدت العواصم العربية، ولا سيما في الخليج مؤخراً لقاءات واجتماعات، كان الموضوع السوري محورها، ولا تزال تتواصل.
القوة الرابعة في دائرة الاهتمام الإقليمي بالوضع السوري، هي إسرائيل، والتي قضت سنوات العقد الماضي بين حالتي: الحياد في موضوع إيران طالما كانت أبعد عن خط وقف إطلاق النار في الجولان، وإعلان معارضة اقتراب الإيرانيين وأدواتهم، وخاصة «حزب الله» من الحدود، وصولاً إلى جعلهم في قائمة أهداف العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، والتي من الواضح أنها توسعت نحو معارضة وجود إيران بكل أشكاله في الجنوب السوري، وهذا يشكل نقطة تقاطع مع موقف الولايات المتحدة، التي دعمت وتابعت في الفترة الأخيرة تنسيقاً عسكرياً مع إسرائيل، يتصل مع احتمالات مواجهة عسكرية إسرائيلية – إيرانية.
أربع قوى إقليمية تتقارب وتتباعد في مواقفها وسياساتها وعلاقاتها في الموضوع السوري وحوله، وتعيد ترتيب مواقفها وسياساتها لضمان مصالحها، وكله يجري تحت أعين القوى الكبرى المعنية ومشاركتها أحياناً، وسط تفاعل محدود الأثر لسلطات الأمر الواقع: نظام الأسد و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) شمال شرقي وقوى المعارضة السياسية والمسلحة و«هيئة تحرير الشام» في الشمال الغربي.
بقي أن يقال، إن السوريين الذين يكويهم الفقر والغلاء والبطالة وانهيار قيمة العملة، وفقدان المواد والخدمات الأساسية للحياة اليومية، وفي ظل المخاوف والتهديدات الأمنية التي يمثلها نظام الأسد وسلطات الأمر الواقع في شمال شرقي وغرب سوريا، هم العامل الأهم، فيما يمكن أن يؤثر على المشهد السوري، ويحدث فيه تغييرات كبرى إذا تحركوا ورفعوا أصواتهم، وقرروا ألا يكونوا مجرد منفعلين بالوضع، بل فاعلين فيه.
المصدر: الشرق الأوسط