يبدو أن الأزمة السورية تدخل فصلها الأخير على خلفية انتهاء البعد العسكري للثورة وأفول الفصائلية وانغلاق آفاق الأعمال العسكرية والثبات النسبي لخطوط التماس واكتمال تنفيذ التفاهمات الأمريكية الروسية السابقة (إنهاء الفصائل المسلحة والقضاء على الإرهاب)، ومن ثم التفاهمات الروسية التركية، ويعزز ذلك ما فرضته جائحة كورونا من مناخ عالمي يتجه نحو تبريد النزاعات المسلحة والبحث عن حلول وتفاهمات تحفظ للقوى الإقليمية والدولية المتدخلة الحد الأدنى من المصالح وتتيح لها استراتيجية خروج مناسبة، ترجمه طرح مشروعا قرار في مجلس الأمن بشأن وقف جميع النزاعات المسلحة في العالم.
وخلافاً لما جرى في لبنان عشية الحرب الأهلية لا يمكن تجميد النزاع السوري وتثبيت خطوط التماس لسنوات طويلة، فذلك يقتضي الحفاظ على النظام في دمشق وعلى كيان المعارضة في الشمال وكيان الإدارة الذاتية الكردية وجميع هذه الكيانات تحمل داخلها من التناقضات والأمراض المستعصية ما يجعل فناءها محتوماً وقريباً. وقد بدأت ملامح إنهاء البعد العسكري تتوضح، ولا سيما في الشمال السوري حيث بدأت تركيا إعادة تشكيل الفصائل المتواجدة ضمن أطر تنظيمية مختلفة وتشكيل مؤسسات أمنية فتحت باب انتساب الشباب إليها، ما يعني أن الأتراك سيتولون بصورة غير مباشرة الإشراف على هذه المناطق سياسياً وإدارياً واقتصادياً حتى مع رفع أعلام النظام السوري وتواجد حرس حدوده وفقاً لاتفاق أضنة موسع.
وتتزايد مؤشرات الاقتراب من صيغ ممكنة للحل يوماً بعد يوم، حيث تتضافر العوامل المحلية والإقليمية والدولية في هذا الاتجاه. ففي حين لم نسمع أي مسؤول روسي يعلن أن قوات بلاده ستبقى في سوريا، ينبري الممثل الأمريكي الخاص جيمس جيفري قائلاً إن جميع القوات الأجنبية ستخرج من سوريا عدا القوات الروسية مبررا ذلك بوجودها التاريخي، وحين أظهر الأسد شيئاً من العناد بشأن الاتفاق الروسي – التركي وفتح الطريق M4 زار وزير الدفاع الروسي شويغو دمشق لحمله على إلغاء الاعتراضات، بالإضافة إلى ما يجري من تقليص شيء من الوجود الإيراني لصالح الروس في بعض المناطق، وتزامن ذلك مع ضعف تأثير طهران في العراق بمجيء حكومة الكاظمي وإعلان استعدادها لتبادل الأسرى مع الولايات المتحدة دون شروط، ما يشي بتفاهمات روسية إيرانية مع رضا أمريكي وعودة الحديث عن بدائل للأسد، ومهما كانت هذه البدائل ستبقى روسيا الراعي الرئيسي والأساسي للحل السياسي وتنفيذه لاحقاً.
يترتب على روسيا وفق هذا المنظور مسؤولية تهيئة الأطراف التابعة لها أي إيران والنظام وهو ما يجري الآن سواء إعلامياً من خلال الهجمة الإعلامية المتبادلة بين روسيا والنظام مؤخرا والتي استهدفت شخص الأسد نفسه، أو من خلال ما يجري من ترتيبات ميدانية مع الجانب الإيراني. وتعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تهيئة الأجواء من الجانب التركي والمعارضة السورية وحلفائها الكرد لخلق البيئة الملائمة لخارطة طريق لحل الأزمة السورية. فما هي ملامح الحل السياسي الذي سيولد من هذا المخاض العسير؟
في ظل التعقيد الذي يكتنف الأزمة السورية فإن هذا السؤال يستتبع جملة من التساؤلات، هل سيجري تجميد الصراع حتى موعد انتخابات 2021 وانتخاب رئيس جديد أم ستطرح صيغة مجلس سيادي يضم مدنيين وعسكريين على غرار السودان، أم سيظهر النموذج العراقي أكثر مناسبة ليتم اعتماد محاصصة غير مدسترة ترضي جميع الأطراف، أم أن هناك في الجعبة الروسية كرزاي سوري على شاكلة التجربة الأفغانية؟
لا شك بأن روسيا لن ترضى بالبعد الإسلامي للنظام العتيد، حتى ولو سلمت بنفوذ تركي غير رسمي على الشمال وتنصيب بعض الشخصيات الموالية لتركيا ضمن السلطات المحلية والإدارية هناك. وسيقتصر الوجود الإيراني على الأبعاد السياسية والدينية والاقتصادية. وسيمنح الكرد لا مركزية إدارية فضفاضة تحول دون تبلور كيان كردي بحيث ترضي أنقرة وتلبي شيئاً من الطموحات القومية الكردية. وتظل إسرائيل المستفيد الأكبر من كل ما يجري حين تضمن أن كل شيء هادئ على الجبهة الشمالية لوقت مديد وتتعاظم فرصها في ضم الجولان السوري المحتل.
ستحتاج أي صيغة يتوافق عليها اللاعبون الإقليميون والدوليون إلى واجهة سورية لشرعنتها، والمرشح الأول لذلك هو اللجنة الدستورية، باعتبار أنها تضم النظام والمعارضة والمجتمع المدني. وهذا ما يفسر اهتمام الأطراف الدولية مؤخراً بهذا الجسم على حساب المؤسسات السياسية الأخرى المعنية بالحل والتفاوض وعلى رأسها هيئة التفاوض السورية. إن مرارة التجربة السورية على ضفتي النظام والمعارضة تدفع إلى الأمل بانخراط كوادر سورية من رجالات السياسة والعسكريين والقانونيين تحمل هم الشعب وتبتعد عن تجار الحرب أو مرتزقة السياسة وتسعى لئلا تكون سوريا المستقبل رهناً لإرادة الآخرين فقط
المصدر: بروكار برس