صدر مؤخراً عن دار “الملتقى” في تركيا، الكتاب الأهم للراحل الأستاذ محمد خليفة، ضمن 331 صفحة من القطع الكبير، فكان من الكتب المهمة، ضِمن مسألة التعاطي مع الحالة الاحتلالية الروسية لسورية، عَبْر الغوص والتنقيب عن أساسيات الفعل العسكري الروسي الموجَّه إلى سورية، وماهية هذا المشروع الروسي المنبعث من فكرة الغزو بحد ذاتها، حيث تمكن الراحل من الدخول إلى تلافيف المسألة الخطيرة التي اشتغل عليها الروس منذ دخولهم إلى الجغرافيا السورية أواخر عام 2015، مَن يقرأ الكتاب يدرك كُنْه العمق في التحليل السياسي الذي أمسك به الأستاذ محمد خليفة، وهو الصحافي والكاتب العتيق والمدرك لماهية الثورة السورية والتحركات الدولية ضدها لإعادة قيامة النظام الأسدي المجرم من جديد، بعد أن كاد أن ينهار عام 2013.
جاء الروس لإنقاذه، كما كان قد جاء قبلهم الفرس بمشروعهم الفارسي الطائفي لسورية والمنطقة برُمّتها. لنفس المسألة على حساب الشعب السوري الضحية. الكتاب حاول وعَبْر مقالاته المجموعة بين دفَّتيه وهي التي سبق ونشرت في الفترة بين أيلول/ سبتمبر 2015 وتشرين أول/ أكتوبر 2016 المضيّ في أبحاثه ومقارباته ليكون دليلاً أساسياً وتاريخياً لكل مَن يريد أن يطلع على ماهية الدور الروسي وأخطاره على سورية بقضّها وقضيضها.
قدم للكتاب السيد حسن صبرا رئيس تحرير مجلة (الشراع) اللبنانية، وكذلك السيد محمد حمود مدير تحرير موقع (المدار نت) اللبناني، حيث قال صبرا في تقديمه: “محمد خليفة لم يقرأ الغزو الروسي لسورية في توقيته فقط، بل يكاد يكون هو ملهم كل ما كتبه الإعلام الغربي وقاله ساسته عن الغزو الروسي لأوكرانيا “.
بينما قال حمود: “حرص الكاتب على تظهير موقف نظام بوتين الرافض لحريات الشعوب وكيفية تعامله مع المعارضة السورية منذ البدايات”.
عن العوامل الدينية والتاريخية للغزو الروسي لسورية والمحددات الأخرى التي دفعت بوتين لغزو سورية يقول الراحل محمد خليفة: “هناك من عزاه لطموحات الرئيس بوتين لإعادة تأهيل بلاده إلى مركز القطب الدولي المنافس للولايات المتحدة “. “وهناك من رأى السبب في تمسك العسكريين الروس بموطئ قدمهم الأخير في المياه الدافئة للمتوسط بواسطة القاعدة العسكرية على الساحل السوري، وهناك من أشار إلى العلاقات الإستراتيجية الخاصة التي تربط الدولتين منذ ستين سنة ومصالح الروس في الشرق الأوسط”. لكن السيد خليفة يذهب إلى ما هو في نظره أعمق من ذلك حيث قال: “لا بد من البحث عن البعد أو الجذر الديني في السياسة الروسية الحالية تجاه سورية” وتساءل “هل يلعب العامل الديني هنا دوراً مهماً في حسابات القيادة الروسية وهي ترسم سياساتها السورية؟ وما هي هذه الحسابات؟ وهل لروسيا إستراتيجية معادية للإسلام؟ ثم تحدث طويلاً عن الدور الروسي ضِمن سياسات الضبط والهيمنة على الجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة أو ضمن ما كان يُسمى الاتحاد السوفياتي، وقبل ذلك حاول التنقيب في التاريخ الحديث والقديم للروس في مواجهة الإسلام في جُلّ المحيط الإقليمي لروسيا.
وقد اعتبر أن سياسات بوتين الحالية تجاه المسلمين في المنطقة تتلاقى بل وتشبه إلى حد كبير سياسات الإمبراطورية الروسية تجاه هذه الشعوب، حيث كانت قد اتسمت بعدة محددات:
– الإفراط في القتل بلا تمييز بين المقاتلين والمدنيين اعتماداً على سياسة الأرض المحروقة.
– تهجير السكان المسلمين جماعياً وتفريغ مدنهم ونقلهم إلى الجبال.
– تقسيم بلدان القوقاز لإضعاف عناصر اللحمة العرقية والثقافية بين شعوبها.
ويشير إلى أن نفس هذه السياسة قام بها بوتين عبر تدمير المدن تدميراً كاملاً للقضاء على حواضن الثوار وتهجير السكان جماعياً ونقلهم إلى مدن بعيدة وغيرها من السياسات المشابهة.
ثم عاد إلى القول: إن ما يميز سياسة بوتين الحديثة أنه أقام تحالفاً وطيداً مع إيران على قاعدة العداء المشترك للإسلام الأصولي السُّني.
ويرى خليفة أن موسكو صاغت رؤيتها للثورة السورية منذ البداية بناء على مفاهيم أيديولوجية تتقدم على حساب المصالح المادية. كما مارس حروب التجويع والحصار والإبادة دون أي اعتبار للمعايير الإنسانية أو لمفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان.
يعرج الراحل خليفة في غير مكان من كتابه على رؤية بعض المؤرخين والساسة الروس والأوروبيين لشخصية بوتين حيث يراه البعض: “قائداً تاريخياً مسكوناً بروح روسيا العظمى، ويسعى لإحياء عظمتها التي فقدتها على المسرح الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو في نظر هؤلاء رجل إصلاحي وديمقراطي يُخرج بلاده من عصر الانغلاق إلى عصر الانفتاح، ويُحدث نهضتها وصناعتها”.
كما يرى خليفة أن البوتينية تتبنّى مفاهيم محددة في الحكم نابعة من تراث روسيا السياسي القيصري والشيوعي والأرثوذكسي الشرقي المعادي للديمقراطية الغربية، التي لا يناسبها في الحاضر والمستقبل.
ويتوقف مع رؤية في البوتينية من منظار مؤرخ أمريكي اسمه (والتر لاكيور) حيث يرى أن البوتينية في نظر لاكيور “تعكس فلسفة النظام الاستبدادي الذي تسيطر عليه جماعات المصالح الضيقة، ويمارس السلطة بطريقة رأسية صارمة أي بواسطة أوامر عُليا من رأس الهرم إلى أسفل”.
يحاول الكتاب تحديد قواعد ومؤسسات النظام البوتيني من خلال ما يلي: إن السلطة ليست للشعب وديمقراطية الغرب لا تناسب روسيا، وبوتين أطلق على نموذجه اسم (الديمقراطية السيادية). وأن الدولة لا بد أن تكون قهرية، والإعلام لا بد من أن يكون مُسيطَراً عليه، وأهمية التركيز على شخصية بوتين على أنه القائد المنقذ، ثم إطلاق شعارات شعبوية تخدم التوجهات الأيديولوجية، ثم إثارة مشاعر العداء والكراهية ضد أعداء الخارج. وإعادة بناء قوة روسية التقليدية، وتأجيج المشاعر القومية الروسية، والعودة إلى سياسة الأحلاف العالمية.
في نظرة البوتينية إلى الربيع العربي يرى خليفة أن القيادة الروسية رأت في ثورات الربيع العربي منذ انطلاقتها ومنها سورية مؤامرات أمريكية. والبوتينية في الشرق الأوسط تعني تثبيت أنظمة عسكرية أقلاوية تعتمد على نخب عسكرية وبيروقراطية ومالية فاسدة. ويخلص خليفة إلى القول: “البوتينية نظرية قومية معادية للغرب تقليدياً وتسعى إلى بناء سياج عالمي يحميها من رياح الغرب”. ويعود خليفة في أكثر من فصل إلى القول: “الروس كالأفعى يمكن أن يخلعوا جلودهم، ولكنهم لن ينزعوا أنيابهم السامة، وعلينا الكف عن انتظار (غودو) الروسي لأنه لن يأتي أبداً لأن الذين يحكمون القيصرية الروسية هم من أحفاد (راسبوتين)”.
وللأستاذ خليفة نظرة واضحة للعلاقة الروسية الأمريكية بما يخص الواقع السوري، حيث يشير إلى أن الاتفاقات بينهما تبين “أن الروسي ما زال هو الذي يُمسك بذراع (الأمريكي الضرير) ويقوده عَبْر المنزلقات السورية الخطرة، ويزداد تحكُّماً بالعملية السياسية كنتيجة منطقية لسيطرته الميدانية، ومن الطبيعي أن يفرض شروطه على كل الأطراف”. ويبدو أن هذه القاعدة الاستشرافية الخليفية ما زالت تحمل إمكانية قولها وصلاحها بعد كل الذي مر وجرى تحت الجسر من مياه آسنة ومالحة.
ويعرج خليفة على الفيتوات الروسية التي أعاقت الكثير من القرارات الأممية التي كان يُفترض أن تغير مسارات كبرى في المسألة السورية فيما لو كانت قد صدرت، حيث يشير إلى أن هذه الفيتوات قد أضافت فيها روسيا إلى سجلها دلائل جديدة على عدوانيتها ومناوأتها للشعب السوري وللعالم، دفاعاً عن الإرهاب غير المسبوق لنظام الأسد وإيران، ولإرهابها هي بعد تدخُّلها المباشر في الجغرافيا السورية.
ويخلص خليفة عَبْر كتابه القيِّم إلى القول “السياسة الروسية سياسة تتسم بالخطورة، والعنف والرجعية والروح الإمبريالية لأنها تستخدم التوسع والهيمنة كأي سياسة إمبريالية تقليدية، أي بالاعتماد على القوة فقط”.
الكتاب الذي بين أيدينا قيّم وعميق في طرحه السياسي التحليلي المبكر، وهو كما قال عنه مَن قدم للكتاب الكاتب السياسي السوري وشقيق الراحل السيد عبد الرحيم خليفة: “كان الراحل قد جمع هذه المقالات ونسقها في كتاب واحد، كما هو موضح في المقدمة التي كتبها بنفسه وشرح فيها تفاصيل تتعلق بهذا النوع من الكتب”. رحم الله الصديق العزيز محمد خليفة فقد ترك بين أيدينا كتاباً يُعتبر مرجعاً مهماً لكل مَن يحاول قراءة المشهد السوري بعد التدخل الاحتلالي الروسي في سورية.
المصدر: نداء بوست