لم تغب الولايات المتحدة يوماً عن منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن ورثت الإمبراطوريتين الغربيتين العريقتين الفرنسية والبريطانية، اللتين خرجتا منتصرتين من الحرب، لكن محطمتين، وبدأت دورة التاريخ تقدّم القوتين العظميين اللتين هزمتا النازية، فتشكل عالم ثنائي القطبية ساد حتى 1991 وانتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي وخروجه من الخريطة الجغرافية السياسية للعالم.
سادت الولايات المتحدة العالم وترسّخ وجودها أكثر في الشرق الأوسط بعد زوال منافسها التقليدي.
أغلب حروب الولايات المتحدة الخارجية كانت في منطقتنا العربية الحرب العراقية – الإيرانية، تحرير الكويت، وفي حقبة الحرب على الإرهاب خاضت حربين في العراق وأفغانستان، ما يشكّل تعبيراً عن أهمية المنطقة الجيوسياسية لها.
وكانت متدخّلة في الشأن السوري منذ اليوم الأول للثورة السورية، حتى لو ادعت غير ذلك، فأحياناً عدم التدخل المباشر والمراقبة عن بعد والتدخل عند الضرورة يكون هو التدخل الذي تمليه عليها سياستها في المنطقة.
في ظل انتفاء حاجة الولايات المتحدة للنفط المستخرج من المنطقة، ومع هيمنتها المطلقة على المياه الزرقاء وطرق التجارة العالمية، رأى بعضهم أنّ الولايات المتحدة لم تعد بحاجة للتموضع البري على اليابسة، وأسهم انصراف الولايات المتحدة الى إنشاء تحالف إيكوس مع بريطانيا وأستراليا في المحيط الهادي بوجه الصين وانسحابها من أفغانستان وتعديل طبيعة وجودها العسكري في العراق، وإلحاق الهزيمة الرئيسية بداعش في سوريا والعراق، أسهم كل ذلك في تعزيز الرأي القائل بأنّ أيام الولايات المتحدة في سورية ليست بعيدة، وكان الرئيس ترامب بقراراته الارتجالية بالانسحاب أكثر من مرّة من سورية والتراجع عن ذلك ووصف سورية والمنطقة كلها بالصحارى أو الرمال المتحركة ولا جدوى من التمركز فيها.
طمع الروس والإيرانيون بوراثة الوجود الأمريكي في سورية وإملاء الفراغ، وانتظروا طويلاً ولكن ذلك لم يحدث ويبدو أنّه لن يحدث.
قبل الغزو الروسي لأوكرانيا كان يرى بعضهم التموضع الأمريكي في سورية حرماناً لروسيا من إعلان انتصارها في الحرب السورية، ومعاقبتها على عدم الوصول لتسوية سورية مستدامة بين أطراف الصراع، ولكن بعد الغزو الروسي تغيّر المشهد تماماً، حيث أصبح بتر الوجود الروسي خارج روسيا من بديهيات الصراع القائم بينهما وبالتالي سيعود الاهتمام الأمريكي إلى سورية ليس من أجل حل مأساتها الإنسانية وإنّما من باب الصراع مع الغريمين الإيراني والروسي وإلحاق الهزيمة بهما، خاصة في ظل موت الاتفاق النووي مع إيران والتحالف العسكري بين الإيرانيين والروس الذي برز في الساحة الأوكرانية وهذا التحالف مُرشّح للتوسّع أكثر وأعمق، وبالتالي ستكون سورية إحدى ساحات الصراع الآن المرتبطة مباشرة وبشكل وثيق بالحرب في أوكرانيا.
لم يُغير الأمريكان قواعد الاشتباك مع الروس في سورية ولم يعملوا على مُضايقتهم لكنهم حريصون على عدم ازدياد نفوذهم، وطالما يخسرون في أوكرانيا فلا داعي للضغط عليهم في سورية، ولو كانوا يربحون في أوكرانيا لكان ممكن أن نرى العكس في سورية.
وإزاء المشاريع المتصارعة على سورية وهي مشروع الحلّ الأممي الذي تتبنّاه وتدعمه الولايات المتحدة والغرب والعرب ومشروع حلّ أستانة الذي تتبنّاه الدول الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا) وتعمل على تطبيقه على الأرض، برز الاهتمام الأمريكي أكثر بسورية، بحيث يمكن أن نقول عادت الولايات المتحدة للملف السوري بقوّة. وإذا رصدنا ما يدور على الأرض من مؤشرات عودتها فيمكن أن نلاحظ:
- الرفض الأمريكي القاطع لأية عملية عسكرية تركية في مناطق نفوذها، وهذا الرفض بالطبع أغضب أنقرة كثيراً ودفعها لأخذ خيارات قد لا تكون ترغب بها وهي التنسيق الكامل مع الشريكين في أستانة.
- المسعى الأمريكي لإصلاح الأوضاع الداخلية في مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية بإعطاء الاهتمام لمشاركة عربية أكثر بالسلطة والثروة وإنهاء التهميش الخدمي والتجهيل التعليمي الذي مارسته كوادر قنديل بحق السكان العرب، وبروز عدم رغبة الولايات المتحدة بالاعتماد على شريك واحد محلّي على الأرض حيث لم تكن الولايات المتحدة راضية عن إفشال كوادر قنديل المتحكمة في قرار قسد ومسد للحوار الكردي – الكردي والبناء عليه لفتح آفاق لحوار عربي كردي بين سكان تلك المنطقة. كما أنّ الولايات المتحدة ليست راضية على عدم تلبية قسد لرغباتها وذلك بالذهاب بعيداً أحياناً بالتنسيق مع النظام السوري والروس، وتعليق مشاركتها في عمليات الحرب على داعش بين الفينة والأخرى واستعمال ذلك كورقة ابتزاز.
وبمتابعة الخطوات الأمريكية على الأرض يبرز لنا الاجتماع الذي جرى مؤخراً مع أحمد علوش “أبو عيسى” قائد لواء ثوار الرقة مع ضباط أمريكان دون حضور ممثلين عن قسد.
وما تسرّب عن الاجتماع استعداد الولايات المتحدة لإعادة إحياء لواء ثوار الرقة ودعمه مالياً ولوجستياً، والعمل على إيصال عديده لخمسة آلاف عنصر كمرحلة أولى، لإنشاء قوّة عربية معتدلة تبسط نفوذها على محافظة الرقة (التي تضم غالبية ساحقة من العرب)، ويمكن نشر عناصر منهم على خطوط التماس مع الجيش الوطني أو في مناطق حدودية أخرى مع تركيا، كتطمين للحليف التركي من عدم وجود قوات قسد التي تصنّفها أنقرة بالإرهابية.
- بعيداً عن استمرار تدفّق السلاح الأمريكي على المنطقة تمّ رصد رغبة أمريكية ببناء قاعدة عسكرية أمريكية في اللواء 17 شمال مدينة الرقة وبناء قاعدة أخرى جنوب المدينة عند جسر الرشيد على نهر الفرات.
- أيضاً تم إعلان النيّة عن عودة أمريكية إلى منطقتي منبج وعين العرب (خراب عشق) بعد أن تم الانسحاب منها في نهايات العام 2019 وتمّ تسيير دوريات أمريكية مع قوات قسد في عين العرب، كرسالة أمريكية للروس الذين يتفاوضون مع الأتراك على انسحاب قوّات قسد من تلك المناطق وعودة قوات النظام اليها مقابل تخلّي أنقرة عن عمليتها العسكرية، بمعنى أنّ هذه المنطقة تخضع للنفوذ الأمريكي ولا مجال للتفاوض بشأنها بين الروس والأتراك.
قد لا يكون تغيير قائد جيش مغاوير الثورة في قاعدة التنف واستبداله بقائد جديد مع تغيير اسم القوّات إلى قوات سورية الحرّة، عملاً إدارياً أو روتينياً بل يصبّ في تغيير مهام تلك القوّات، ويمكن للولايات المتحدة ضم تلك القوّات إلى قوّات عربية أخرى منتشرة في البادية السورية (جيش العشائر)، مع لواء ثوار الرقة وبعض القوات العربية الأخرى من مجلس دير الزور العسكري أو مجلس منبج العسكري، لتكوين قوّات أرضية محلية موثوقة للتحالف الدولي عندما تحين ساعة الحرب على الميليشيات ذات التابعية الإيرانية في المنطقة والعمل على السيطرة على معبر البوكمال لقطع الشريان البري الهام الرابط ببن محور إيران الإقليمي.
خاصّة أنّ القوّات في قسد أعلنت عدم استعدادها لمحاربة الميليشيات ذات التبعية الإيرانية
- لا أريد الغوص في قانون قيصر فهو يتيح للولايات المتحدة التدخّل وفرض عقوبات قاسية على المفاصل التي تدع النظام السوري واقفاً على قدمية وتضع فيتو سياسي واقتصادي وأخلاقي أيضا على من يُفكّر بإقامة أي علاقة معه.
ما سأشير إليه قانون هام تمّ إقراره بمجلسي الكونغرس الأمريكي وتمّ ربطه بقانون إقرار ميزانية الدفاع الأمريكية وينتظر توقيع الرئيس بايدن عليه ليصبح قانوناً يُلزم مؤسسات الدولة الأمريكية وأدواتها التنفيذية بتطبيقه.
وما يُميٍّز هذا القانون هو التفريق بين النظام السوري ونظام الأسد، وهو ما يشي بسياسة الإدارات الأمريكية المستقبلية، حيث يُعتبر النظام السوري شريكاً بمفردات الحل السياسي كهيئة الحكم الانتقالي واللجنة الدستورية وغيرهما، بينما نص القانون على اعتبار الأسد بشخصه مع نواته الصلبة المحيطة به كصانعي ومروّجي للمخدرات في الإقليم والعالم ونشر السموم فيهما، وأشار القانون إلى أنّ المخدّرات التي تُهرّب من سورية وصلت إلى أوربة، وما مسألة وصولها إلى الولايات المتحدة ماهي إلا مسألة وقت.
وهذا يشير إلى تهديد نظام الأسد للأمن القومي للولايات المتحدة، ويُمهل القانون الإدارة الأمريكية فترة 180 يوم لإعطاء الخطط لتفكيك شبكات تصنيع وتهريب تلك السموم.
وهذا يتطلب وضع خطط من الأجهزة الأمريكية المختصة (كأجهزة المخابرات وأجهزة تتبع للبنتاغون) ويتطلّب ذلك متابعة من تلك الأجهزة عبر أدواتها وعملائها للمعامل وشبكات التهريب ويتطلّب ذلك الانتشار على الأرض السورية في الجنوب السوري وفق ما تمليه المصلحة.
ووضع خطط للتعاون مع الأجهزة الأردنية وغيرها من دول الجوار، حيث قد تتطلب عملياتها ضرب المعامل وقتل أو اعتقال أفراد الشبكات وربما يصل الأمر إلى الأسد نفسه كما حصل مع إسكوبار ونورييغا وقتله أو اعتقاله وسوقه للعدالة الأمريكية، وقد يتم الاعتماد على قوى سورية محلية مناوئة للنظام، موجودة على الأرض كتلك القوى التي سلمت الولايات المتحدة بقايا جثة ما قيل إنّها لزعيم تنظيم داعش تمّ قتله مؤخراً في حوران، حيث تم إخراج الجثة وتسليمها للأمريكان، وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على الاهتمام الأمريكي المتزايد بالمنطقة.
تشير تلك المعطيات الميدانية والسياسية إلى عودة أمريكية أكبر للانخراط بالملف السوري، ومحاولة كتابة السطر الأخير في المشهد السوري.
المصدر: نينار برس