رابعًا: أهم الدروس المستخلصة من تجارب العدالة الانتقالية
تظل دراسة التجارب العالمية والعربية، فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية، مسألة مفيدة، بل ضرورية لاستخلاص الدروس والعبر من جهة، والاغتناء بنماذج عملية بما لها وما عليها من جهة ثانية. وليس الهدف من ذلك تقليد هذه التجارب أو استنساخها، بقدر الإفادة منها، خاصة تجنّب الأخطاء التي وقعت فيها، إذ إنّ لكل تجربة خصوصيتها، ولكل بلد ظروفه وتحدياته ومشكلاته. لكنّ الاطلاع على التجارب السابقة ومقاربتها من زاوية نقدية، تسلّح التجربة السورية الجديدة وتغنيها بالمعرفة، من خلال الانفتاح على تجارب الغير، بعيدًا عن الانغلاق أو التقوقع على الذات، لأنّ التمسك بالخصوصيات لا يلغي المشتركات والقواعد العامة التي تشكل معايير ذات أبعاد إنسانية جامعة.
وإذا كان البعض يرجع أصول العدالة الانتقالية إلى محاكمات ” نورمبيرغ “، التي لاحقت مجرمي الحرب في ألمانيا النازية بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّ ملامحها برزت بصورة أكثر نضجًا وتطورًا خلال أواسط سبعينيات القرن الماضي. ولا شك أنّ أجواء الحرب الباردة كان لها تأثير سلبي كبير في مسار تطور العدالة الانتقالية، نظرًا إلى حالة الاستقطاب الحاد التي خلّفتها، وما تمخض عنها من تهميش لكثير من الأولويات والقضايا الدولية الحيوية، في أبعادها السياسية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية. ولكنّ تجارب العدالة الانتقالية قد انتعشت في عدد من دول العالم، عقب سقوط جدار برلين في عام 1989، وما تلاه من تحوّلات سياسية وحقوقية عمّت الكثير من الدول في مختلف مناطق العالم.
لقد اختار سياسة العدالة الانتقالية أكثر من 40 هيئة للحقيقة والمصالحة منذ سبعينيات القرن الماضي، واستطاعت أن تحقق الحد الأدنى من أهدافها، والقبول بها عن طريق: هيكلة المؤسسات الأمنية، وسياسة إعلامية انتقالية نظّمت وأدارت النقاش العام حول القضايا الرئيسية أثناء المرحلة الانتقالية، ورؤية سياسية واضحة لضرورة نزاهة واستقلالية القضاء. وتاريخيًا، مرت تجربة العدالة الانتقالية بأربع مراحل (1): أولاها، في أوروبا الغربية، وشملت اليونان بعد الانقلاب على حكم العقداء في العام 1974، والبرتغال بعد انقلاب عام 1974 الذي قضى على الديكتاتور سالازار، وإسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو في العام 1978.
وثانيتها، التي شملت جنوب أفريقيا، فحين فاز المؤتمر الوطني الأفريقي في العام 1994، قرر المساءلة من دون ثأر أو كيدية، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر، والتعويض. كما شملت جزءًا من أميركا اللاتينية (الأرجنتين وتشيلي ونيكاراغوا…). وثالثتها، شهدت أهم التجارب في العدالة الانتقالية، في تجربة أوروبا الشرقية. حيث هناك أربع تجارب: بولونيا وهنغاريا، وقد اتسمتا بالسلمية والسلاسة، وحققتا ما يسمى ” فقه التواصل “، إذ انتقل جزء من السلطة إلى المعارضة، وأُجريت انتخابات نزيهة وشفافة. وتشيكوسلوفاكيا، التي انجرّت خلف ” فقه القطيعة “، إلا أنها استعادت الوعي بضرورة ” فقه التواصل “، فحققت بذلك انتقالًا سلميًا. أما رومانيا، فقد اتسمت بالقطيعة، في أشد صورة قتامة. وهو ما حدث أيضًا – إلى حد ما – في ألمانيا الديمقراطية. كما شهدت تجربة يوغسلافيا صراعات دموية، سواء تعلق الأمر بمجازر البوسنة والهرسك أو بكوسوفو ومناطق أخرى. ورابعتها، تجربة المنطقة العربية في المغرب وتونس.
ومن التجارب الأفريقية الجديرة بالدراسة واستخلاص دروسها يمكن أن نذكر: تجربة رواندا التي شهدت بين عامي 1991 و1994 حربًا أهلية بين المكونين الرئيسيين الهوتو والتوتسي، مما أسفر عن مقتل حوالي مليون رجل وامرأة وطفل. ولكنها بعد انتهاجها العدالة الانتقالية والتحوّل الديمقراطي أصبحت من بين الاقتصادات العشرة الأكثر نموًا في عام 2013. وكذلك تجربة غانا في العام 2002، حيث شُكِّلت لجنة المصالحة الوطنية، وحُدِّدت مدة اشتغالها بسنة واحدة، للتحقيق في الانتهاكات التي شهدتها منذ استقلالها في العام 1975، وإعادة الاعتبار إلى الضحايا وتقديم تعويضات مالية إليهم، وبلورة مجموعة من التوصيات التي تدعم الإصلاح السياسي والتشريعي والأمني، لتجاوز هذه الانتهاكات في المستقبل. وفي العام نفسه، شهدت سيراليون مصالحة وطنية، بعد تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة لمدة سنتين، حيث بلورت مداخل كفيلة بإعادة الاعتبار إلى الضحايا وبتحقيق توافق مجتمعي.
وعلى المستوى العربي، شكلت هيئة المصالحة والإنصاف، التي أُنشئت بالمغرب في العام 2003، تجربة سعت إلى ردِّ الاعتبار إلى ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وطي صفحات مؤلمة من تاريخ المغرب المستقل، وتوفير شروط ملائمة لتحوّل ديمقراطي، تحت سقف الملكية الدستورية. وفي سياق تأصيل ممارسات المصالحة المغربية، يمكن الإشارة إلى ما يلي (2):
1 – عودة الوعي: في البداية، مثّلت المصالحة خلال فترة حكم الملك الحسن الثاني لحظة عودة الوعي لدى الحاكم المستبد، الذي يعترف بأنه مارس العنف، لكنه يرى أنّ له الحق كملك في أن يرتكبه.
2 – إصلاحات المستبد ” العادل “: ارتبطت المصالحة برزنامة الإصلاحات التي قادها ملك جديد (محمد السادس) ذو تصوّرات جديدة لكيفية تدبير المُلك.
3 – ضرورات التنمية: تهدف معالجة الماضي العنيف إلى تحقيق الشروط السياسية الملائمة للتنمية الاقتصادية، عن طريق التصالح مع الماضي.
4 – الوعد بالانتقال الديمقراطي: عُدّت التجربة غير منحصرة في المصالحة مع الماضي فحسب، بل ممتدة كي تهيئ لشروط الانتقال الديمقراطي.
ولا شك كان لحراك الشعب المغربي في 20 شباط/فبراير 2011، في سياق ربيع الثورات العربية، الأثر الكبير في تفعيل بعض توصيات الهيئة. وقد كان إنشاء الهيئة ضمن سياق اعتماد مقاربة توافقية، انطلاقاً من اعتبارين (3): أولهما، في كون اعتماد المقاربة الجذرية من شأنه أن يعمّق الفجوة بين مكوّنات المجتمع، ويؤثّر بالسلب على مسلسل الانتقال الديمقراطي، باعتباره مسلسلًا يستوجب وجود حدٍّ أدنى من التوافقات والتفاهمات بين مختلف القوى المجتمعية. وثانيهما، يتجسد في كون الإغلاق النهائي لملف الانتهاكات ربما لا يتحقق من دون إنصاف الضحايا وذويهم، من جهة، وإحداث تصالح بين المغاربة وماضيهم، من جهة أخرى. ولكن، وُجِّهت عدة انتقادات إلى عمل الهيئة، من حيث قصر المدة التي اشتغلت فيها والمحددة بسنة واحدة، بما ظلت معها العديد من الملفات خارج التسوية، وعدم اعتماد تحديد المسؤوليات، وعدم تقديم اعتذار رسمي إلى الضحايا، إضافة إلى عدم تعاون مجموعة من الأجهزة الحكومية والأمنية فيما يتعلق بتقديم المعلومات والوثائق.
وفي تونس، تم تشكيل وزارة خاصة بخصوص حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011. وفي أوائل سنة 2013 وافق المجلس الوطني التأسيسي على تشكيل الهيئة المستقلة للحقيقة والكرامة، التي تتمتع بشخصية معنوية واستقلال مالي وإداري، وتتكون من عدد من الفاعلين في الشأن العام والخبراء وممثلي الهيئات المدنية الحقوقية وضحايا المرحلة السابقة.
إنّ التجربة التونسية في العدالة الانتقالية تبدو قريبة من التجارب التي غلّبت منطق المصالحة على العدالة، وقد تحدثت سهام بن سدرين، رئيسة هيئة ” الحقيقة والكرامة “، عن خمس خصوصيات تونسية في تجربة العدالة الانتقالية (4):
1 – العدد الكبير للملفات، إذ احتفظت الهيئة بما يفوق 65 ألف ملف لضحايا، ينتمون إلى مختلف الأجيال والجهات والانتماءات السياسية والنقابية، وقد شكلت النساء ما يفوق ربع عدد ملفات الضحايا.
2 – المقاربة الاستماعية، إذ عقدت الهيئة ما يفوق 50 ألف جلسة استماع، وثّقتها سمعيًا وبصريًا.
3 – الربط القانوني بين الفساد والاستبداد، على امتداد أكثر من ستة عقود.
4 – آلية التحكيم والمصالحة، خاصة في ملفات الفساد المالي التي لم يرافقها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، إذا أعرب المتهمون على رغبتهم في إعادة المبالغ المنهوبة، والاعتذار وطلب الصفح.
5 – مقاربة النوع الاجتماعي، أي الضحايا المباشرين من النساء، فضلًا عن أمهات الضحايا وزوجاتهن علاوة على أبنائهن وبناتهن.
أما لماذا نجح الانتقال الديمقراطي في بلدان وفشل في أخرى، فهناك أربعة عوامل أساسية (5): الفضاء الديمقراطي الإقليمي المؤثر، والمستوى الثقافي والتعليمي العالي الذي تتمتع به شعوب هذه الدول، وضعف العامل الديني في التدافع السياسي، وإدراك السلطات، في غالبية هذه البلدان، أنّ التغيير أضحى حتمية تاريخية، وأنّ عليها التنازل خضوعًا لاشتراطات التاريخ وحركيته الدائبة. وعندما لا تتوفر أهم هذه العوامل فإنّ الفشل سيكون مصير التجربة، كما هو الحال في العراق ونيجيريا.
لقد علّمتنا كل تجارب العدالة الانتقالية الناجحة، عبر العالم، أنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسار الانتقال السياسي، كما أنها تعتمد – بشكل رئيسي – على توفّر الإرادة السياسية والرؤية لدى كل اللاعبين والقوى السياسية على الأرض، وشعورها بأنّ الاستقرار، الأمني والسياسي، يتطلب إطلاق عملية العدالة الانتقالية، التي يشعر الضحايا معها أنّ المسؤولين عن ارتكاب الجرائم بحق أبنائهم وبناتهم سيمثلون أمام العدالة، وأنّ زمن الإفلات من العقاب والمحاسبة قد انتهى.
خامسًا: أهداف العدالة الانتقالية في سورية بعد التغيير
تهدف العدالة الانتقالية إلى إطلاق المصالحة المجتمعية الشاملة، لكي تتمتع الأجيال المقبلة ببيئة اجتماعية سليمة، غير مشوّهة بأحقادٍ أو مساعٍ للثأر. كما أنها المدخل اللازم لنجاح عملية الانتقال الديمقراطي، والاعتراف بضحايا الفترة السابقة ولمنع تكرار ما حدث. كما تهدف إلى ” إنصاف ضحايا النظام الاستبدادي وتجاوزات قادته، خاصة خلال الثورة السورية، وتعويضهم عما أصابهم من أذى ” (6).
إنّ هدف ومنهجية مؤسسات العدالة الانتقالية في سورية المستقبل هو السعي إلى بلوغ العدالة الشاملة، أثناء مرحلة الانتقال السياسي من الشمولية إلى الديمقراطية، ومعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان، ومساعدة الشعب السوري على الانتقال، بشكل مباشر وسلمي وغير عنيف، بهدف الوصول إلى مستقبل أكثر عدالة وديمقراطية. وذلك من خلال توخّي القضاء هدفًا مزدوجًا: المحاسبة على جرائم الماضي، ومنع الجرائم الجديدة من الوقوع، وفق استراتيجية تعتمد إعادة بناء وطن للمستقبل، يتسع لجميع مكوّنات الشعب السوري، قوامه احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون.
وإذا كانت مفاهيم وآليات العدالة الانتقالية تعتبر ضرورة ملحة للبلدان والشعوب التي شهدت تغييرًا وتحوّلًا جذريًا لأنظمتها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإنّ الأمر، بالنسبة لسورية، يعتبر أكثر إلحاحًا، فهي بأمس الحاجة إلى الأخذ بتلك المفاهيم، وذلك لجملة من الأسباب والمبررات الموضوعية، يقف في مقدمتها طبيعة ومنهجية السلطة العائلية التي حكمت سورية طوال 50 سنة، والتي انفردت بأفعال وتوجّهات وأساليب لم يشهد التاريخ المعاصر لها مثيلًا، ليس في نهجها القمعي والتسلطي فقط، بل في كيفية إدارة شؤون الدولة ومؤسساتها، والنهج الأيديولوجي الفاشي المغلق الذي اصطبغت به تلك المؤسسات والمجتمع عمومًا. والسبب الآخر الذي يحتم على سورية تبنّي مؤسسات العدالة الانتقالية وتطبيق مفاهيمها، يكمن في حجم ونوعية التركة الثقيلة التي ستورّثها سلطة الاستبداد للشعب السوري، وهي من الثقل بحيث سيبقى ظهر سورية ينوء بها لسنوات عديدة. ومن هنا تأتي أهمية بناء مؤسسات العدالة الانتقالية لمعالجة كل مخلّفات الماضي، باعتبارها إحدى الوصفات العلاجية لكيفية التعامل مع مخلّفات سلطة النظام البائد، خاصة انتهاكات حقوق الإنسان.
كما أنّ أهم ما يواجه عملية التحوّل الديمقراطي في سورية هو ضرورة إجراء حوار وطني شامل، حول كيفية التعامل مع الماضي في إطار العدالة الانتقالية، بحيث يتم كل شيء بإشراف الدولة مع إشراك مؤسسات المجتمع المدني، بما يؤدي إلى رفع الوعي القانوني وتعزيز الثقافة الحقوقية بأهمية التعامل – إنسانيًا وقانونيًا – مع الماضي بطريقة تجنّب المجتمع السوري ردود الفعل، بالانتقام أو الثأر أو الكيدية أو تغذّي عوامل الكراهية والحقد والضغينة. ولكي تنجح مهمة العدالة الانتقالية والقائمون عليها، فلا بدَّ من تحديد فترة زمنية لتتبع المهتمين بانتهاكات جنائية خطرة، وللبحث عن الحقيقة والعمل على تعويض الضحايا وجبر الضرر، المادي والمعنوي، وتحقيق مصالحات حقيقية وإجراء إصلاحات مؤسسية شاملة، قانونيًا وقضائيًا وأمنيًا.
من المفترض بالعدالة الانتقالية أن تتحرى سلسلة إصدار الأوامر ومحاسبة الذين أصدروا الأوامر بالقتل، ومن ثم تتناول الأفراد الآخرين والعناصر الذين، وإن شاركوا في القمع، فقد فعلوا ذلك تنفيذًا للأوامر أو خوفًا من انتقام قادتهم. إنّ العدالة الانتقالية هي في مصلحة الضحايا المدنيين والمجتمع بأسره، فتحقيق هذه العدالة قمين بإعادة دمج هؤلاء الأفراد بمجتمعهم، واعترافهم بأفعالهم يساعدهم في إعادة احترامهم لنفسهم، وحتى قبولهم بالعقوبة في حال وقوعها سيمكّنهم من التحرر من العبء الهائل الذي سيحملونه إلى آخر العمر. وأخيرًا فإنّ مصالحة حقيقية مع المجتمع ستنهي عقودًا من القمع والاضطهاد والخوف.
ويمكن إدراج ثلاث ضرورات ومبررات للكشف عن الحقيقة (7):
1 – رغبة الضحايا وعائلاتهم، حيث كانت الأسئلة تتواتر: لماذا تم كل ذلك؟ من المسؤول؟ لماذا وقعت كل تلك الانتهاكات والتجاوزات؟ أين الحقيقة؟ في أي أماكن تم دفن الضحايا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المشروعة والإنسانية.
2 – الرغبة في عدم طمس الماضي، فالماضي أساس الحاضر والمستقبل، ولا بدَّ من توحيد وتوثيق الذاكرة، ولا بدَّ أيضًا من معرفة تفاصيل ما حدث لكيلا ننسى.
3 – الرغبة في معرفة الحقيقة كاملة بكل عناصرها، والسؤال: هل يمكن معرفة كل شيء؟ هل بإمكاننا إدراك ما حصل بتقادم السنين؟ ربما يرغب بعض صنّاع القرار مثل ذلك، مثلما يذهب البعض ممن أرادوا النسيان، لكنّ تجارب العديد من البلدان – حتى الآن – لم تتوصل إلا إلى نتائج محدودة.
في سورية، مسار العدالة والمسائلة ” ليس فقط في مصلحة الضحايا المفترضين في جانب الثورة والمعارضة والمدنيين الذين قتلتهم آلة النظام ودمّرت بيوتهم، وألقت بهم إلى البطالة والتشرّد. إنها أيضًا في مصلحة الشريحة الكبرى من آلة القمع ذاتها، خاصة تلك التي لم تكن مقتنعة بكل ما ارتكبته من جرائم وأفعال منكرة ” (8).
إنّ معظم السوريين أصبحوا يرون اليوم أنّ ” معالجة كل ما حصل في الماضي، القريب والبعيد، يجب أن يشكل الأساس في أية تسوية للمأساة السورية، وهم يعتقدون أنه لن يتحقق السلام الحقيقي من دون تحقيق العدالة، وتحقيق العدالة لا يتم بغير معالجة الماضي. ويعتقدون أيضًا أنّ العدالة هي الطريق الوحيد للانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام ” (9). لا يريد أغلبية السوريين تعليق المشانق، ولا يرفضون العفو عن بعض الحالات، إذا كان هذا العفو سيمنع سقوط المجتمع السوري ثانية في الهاوية التي ما لبثوا قد خرجوا منها، بعد أن ضحّوا بدماء ودموع كثيرة.
وفي الواقع لا تتأتى المصالحة بمجرد كشف الحقيقة، ما لم يتم نهج مجموعة من التدابير والإجراءات المواكبة، فمثلًا لا تُخفى أهمية الجانب الاقتصادي في نجاح العدالة الانتقالية، إذ هناك ” علاقة تربط تحقيق العدالة الانتقالية بتحقيق التنمية، على مستوى توفير شروط الاستقرار واحترام القانون اللازمين لها ” (10).
وقد حدد الخبراء السوريون المشاركون في مشروع اليوم التالي لـ ” دعم الانتقال الديمقراطي للسلطة في سورية ” مجموعة أهداف أساسية للعملية الانتقالية، منها (11):
- تطوير وتعزيز هوية وطنية جديدة.
- تعزيز روح الوحدة الوطنية بين مختلف مكوّنات المجتمع السوري المتنوع.
- بناء توافق وطني حول القيم والمبادئ الأساسية للشعب السوري، بالإضافة إلى العمل على عقد اجتماعي جديد بين الدولة والشعب.
- الهوامش
1 – عبد الحسين شعبان، ” منعطفات الواقع والفكر العربييْن “، حوار عبد الحق لبيض وجمال بن دحمان، بيروت، الآداب، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
2 – محمد جبرون وآخرون، المرجع السابق، ص ص 410 – 412.
3 – كمال عبد اللطيف، ما بعد الثورات العربية/زمن المراجعات الكبرى، في إدريس لكريني وآخرون، المرجع السابق، ص 520 – 521.
4 – أوردها المهدي مبروك، ” عن مسار العدالة الانتقالية في تونس “، العربي الجديد، 16 كانون الأول/ديسمبر 2018.
5 – عبد الحسين شعبان، ” العدالة الانتقالية وخصوصيات المنطقة العربية “، الإمارات العربية المتحدة، الخليج، 29 شباط/فبراير 2112.
6 – المجلس الوطني السوري، المرحلة الانتقالية لسورية الجديدة: الإدارة السياسية والعدالة الانتقالية والأمن والاقتصاد، اسطنبول 1 نيسان/أبريل 2012، ص 7.
7 – عبد الحسين شعبان: ” المساءلة والحقيقة في بعض تجارب العدالة الانتقالية “، الإمارات العربية المتحدة، الخليج، 23 أيار/مايو 2012.
8 – وائل السواح، ” العدالة الانتقالية للضحايا… ولكنْ أيضاً للمنتهكين “، لندن، الحياة، ٢ كانون الأول/ديسمبر 2012.
9 – ميشيل شماس، المرجع السابق.
10 – إدريس لكريني، المرجع السابق، ص 515.
11 – مشروع اليوم التالي، المرجع السابق، ص 8.
(*) – محاضرة/أونلاين في المؤتمر الأول للباحثين السوريين في العلوم الاجتماعية، في الفترة من 15 إلى 17 كانون الثاني/يناير 2021.