دعونا نتساءل: ما الذي يجعل الأنظمة الديمقراطية في أوربا وأميركا على هذه الدرجة من الاستقرار؟ لماذا لاتشهد بريطانيا أو فرنسا انقلابات عسكرية أو عودة لمرحلة الديكتاتوريات؟
أيضا: لماذا كان من السهل على الأنظمة العربية فرض الاستبداد وكأنه الحالة الطبيعية للحكم؟
لماذا تحول حزب البعث من حزب يؤمن بالديمقراطية الى حزب يقول بحكم الحزب الواحد دون معارضة تذكر؟
ما أزعمه هو أن التقاليد الديمقراطية في بلدان مثل بريطانيا وفرنسا قد ترسخت الى الحد الذي لم يعد بالامكان الخروج عليها، وأن ذلك الرسوخ جاء مترافقا مع مؤسسات للحكم ودساتير وحياة سياسية محكومة بالحريات العامة والخاصة، وأخيرا بدرجة من النمو الاقتصادي والتقدم والرفاهية .
ليست الديمقراطية الغربية كاملة، فهي مازالت تحابي الطبقات الغنية في المجتمع وتعبر عن مصالحها، كما أنها تبعد الطبقات المتوسطة والفقيرة عن الامساك بمقاليد الدولة بينما تستخدم فئات منها لمصالحها الطبقية، لكن تلك الديمقراطية على عيوبها ونقائصها مازالت الديمقراطية الوحيدة التي برهنت عن قابليتها للحياة والاستمرار، وفي مقابل ذلك فان كل حديث عن الديمقراطية الاشتراكية أو الديمقراطية الشعبية قد أسقطته التجربة التاريخية الانسانية حتى اليوم. ولا يعني ذلك بالطبع أنه ليس بالامكان ايجاد ديمقراطية أعلى من الديمقراطية الغربية (البورجوازية) لكن ذلك بحاجة لإجابة تقدمها التجربة الانسانية لم يحسمها التاريخ بعد.
وفي هذه العجالة فان ما أسعى اليه هو بالتحديد علاقة الديمقراطية بالثقافة الديمقراطية ولايمثل ذلك جوهر المسألة الديمقراطية، كما أنه لا يستهلكها لكنه يشكل جانبا أساسيا في تلك المسألة.
بالنسبة لشعوب مثلنا، خارجة في الأمس القريب من أعماق التاريخ، محملة بميراث ثقيل من القيم والمفاهيم التي سادت منذ نهاية العصر العباسي وبقيت تكرر نفسها في دوائر مغلقة تنقلها تدريجيا نحو الأسفل، فليس من السهل الانتقال بقفزة واحدة نحو ثقافة مرتبطة بآخر منجزات الفكر الغربي الذي أصبح عالميا بصورة متزايدة.
المسألة ليست في وجود نخب مثقفة انفتحت على العالم ولكن بالتحديد في فعالية تلك النخب وسط مجتمعاتها وقدرتها على نقل العقل الجمعي لتلك المجتمعات من حالة الاستسلام للمفاهيم الموروثة الى الخروج على تلك المفاهيم واعادة النظر بها.
منذ بداية التاريخ الحديث بعد تفكك الدولة العثمانية شهدنا محاولات خجولة لفهم الديمقراطية الغربية وزراعتها في البيئة العربية، ولعل أكثر تلك المحاولات جدية كانت الديمقراطية السورية بين أعوام 1954-1958، أما الديمقراطية اللبنانية فقد نشأت منذ البداية مشوهة بالطائفية وبقيت كذلك حتى اليوم، لكن وللانصاف فان ما يكتب لها هو إتاحتها لهامش من الحرية في وقت غاب مثل ذلك الهامش عن المنطقة العربية بكاملها.
الثقافة الديمقراطية بمعناها الواسع لاتقتصر على الهيئات الحاكمة (الرئاسة، الوزارات، المجلس النيابي) لكنها تمتد الى الحريات العامة، بما في ذلك حرية التعبير والاختلاف، حرية الصحافة والنشر والاعلام، حرية الاجتماع والتظاهر وتشكيل الأحزاب والنقابات والهيئات الاجتماعية، وكذلك أيضا حرية الاعتقاد الديني. واحترام الخصوصية الفردية. واستقلال القضاء.
لايوجد اي معنى للديمقراطية السياسية بغياب الحريات العامة، بل ستتحول بغياب تلك الحريات الى مسخ لايصلح سوى كقناع كريه للاستبداد، فالمجلس النيابي سيتحول الى هيئة من المصفقين المهرجين، والوزارات ستتحول الى واجهة لأوامر أجهزة الأمن والقوى الخفية المتحكمة، والانتخاب سيتحول الى مهرجان للتزوير واصطناع شرعية للديكتاتورية، وما من هيئة الا وسيكون بالامكان ايجاد مسخ لها لايساوي شيئا في قيمته الحقيقية بما في ذلك النقابات والأحزاب.
وهناك أيضا مع الحريات العامة سيادة القانون، فالحريات العامة بدون سيادة القانون تتحول الى فوضى وهذا ما شاهدناه في لبنان حيث اتسع نسبيا هامش الحريات العامة (سابقا) لكن في ظل انحسار سيادة القانون، وأدى ذلك الى نشوء دول ضمن الدولة وبالطبع فان شرط سيادة القانون يتطلب استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية استقلالا تاما.
لاينبغي الانكار أن قيم الثقافة الديمقراطية هي في الأساس قيم غربية، لكنها أصبحت قيما عالمية بمقدار ما أصبحت الحضارة الغربية عالمية أيضا، ولافائدة من محاولة تعريب الديمقراطية فالنتيجة لن تكون أفضل من الديمقراطية – الشعبية التي حصلنا عليها في الدول الاشتراكية ولم تكن سوى رداء شفاف للديكتاتورية وأسوأ من ذلك وأشد تخلفا وبؤسا ما حصلنا عليه من تجربة القذافي وأنظمة البعث السوري والعراقي حين تم مسخ الديمقراطية – الاشتراكية فحصلنا على مسخ المسخ للديمقراطية.
تأتي الممانعة في تمثل الثقافة الديمقراطية لدى المجتمع من الثقافة المجتمعية التقليدية وهي مزيج من القبلية والطائفية والفهم الجامد للإسلام. ويتطلب التغلب على تلك الممانعة جهدا ثقافيا منهجيا، كما يتطلب تجديدا للفكر الاسلامي يخرجه من حالة الجمود والتشدد.
الديمقراطية ليست غريبة عن الروح العربية التي تقدس الحرية وتكره الظلم والاستبداد، وهي أيضا ليست غريبة عن روح الاسلام الذي أعلن لأول مرة المساواة التامة بين البشر على اختلاف لونهم وعنصرهم بل وأقر معارضة الحاكم بالطرق السلمية ومبدأ العقد الاجتماعي (في خطبة أبو بكر: إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فان أحسنت فأعينوني، وان أسأت فقوموني).
والديمقراطية السياسية هي أقرب أساليب الحكم للاسلام وليست الديكتاتورية ولا الحكم المطلق.
اذن لاينبغي وضع الديمقراطية في مواجهة الاسلام، وإذا كانت الديمقراطية تتطلب علمانية الدولة فان العلمانية ذاتها يجب أن تخضع للمناقشة، فالعلمانية المعادية للدين لايمكن أن تكون مقبولة في مجتمعنا، وبالتالي فربط الديمقراطية بذلك النوع من العلمانية سوف يؤخر تمثل الديمقراطية ويبعدها عن روح المجتمع.
وكي لايبقى حديثنا مبتورا فلا يمكن تجاهل أن الثقافة الديمقراطية قد انحسرت في سورية في ظل الاستبداد الذي استقر منذ 1963 وحتى اليوم، فكيف يمكن للثقافة الديمقراطية الانتشار في بيئة تعاديها ثقافة الدولة بكل مؤسساتها؟
لقد وضعت الديمقراطية الى جانب البورجوازية والاقطاع، وتكفل التيار الاسلامي التقليدي بوضعها الى جانب الكفر والتغريب أيضا.
هكذا تم القضاء على أفضل ميراث للتجربة السياسية السورية بين 1954-1958 , وذهبت تلك الثقافة الوليدة أدراج الرياح.
وفي عام 2011 ومع الربيع العربي كنا في الطريق لاستعادة تلك الثقافة لكن اغتيال الحركة الشعبية السلمية على يد النظام واغتيالها ثانية على يد الحركات المسلحة والتي اتخذت المفاهيم المتشددة كايديولوجية ووضعت الديمقراطية هدفا للتدمير كعدو يماثل النظام الذي تحاربه كل ذلك قضى على أي سياق لنشر الثقافة الديمقراطية واعادة احيائها في قلب المجتمع وليس بين مجموعات المثقفين المعزولة.
واليوم فقد انتهت تلك المرحلة ، وكما هو الأمر دائما فالفشل يعيد الاحترام لاستخدام العقل ونقد الذات والانفتاح على الأفكار الأخرى وربما تكون الفرصة متاحة اليوم لاعادة الاعتبار للثقافة الديمقراطية ليس فقط كطريق للتغيير السياسي ولكن كبديل وحيد يتمتع بالقدرة على الاقناع والانسجام مع العصر وفتح الطريق نحو الأمام ، نحو مستقبل أكثر اشراقا واستقرارا ، لكن ذلك لا يمكن أن يأتي دون جهد ، ولا أقصد بذلك فقط النضال السياسي الديمقراطي ولكن أيضا وعلى نحو لايقل أهمية النضال الثقافي لتعميق المفاهيم الديمقراطية في المجتمع .