أن تعرف روسيا أنها تقاتل بحكم الأمر الواقع حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا هو شيء، واحتمال أن تتصاعد الحرب بطريقة دراماتيكية إلى حرب مع بولندا هو شيء آخر مختلف تماماً.
* * *
المشكلة مع الحرب في أوكرانيا هي أنها كانت كلها مسألة دخان ومرايا، حيث حقيقة الموقف محجوبة أو محاطة بالتضليل والمعلومات غير ذات الصلة. وقد اتخذت الأهداف الروسية المتمثلة في “نزع السلاح” و”نزع النازية” من أوكرانيا مظهرا سورياليا، بينما الرواية الغربية القائلة إن الحرب تجري بين روسيا وأوكرانيا، حيث القضية المركزية هي المبدأ الويستفالي للسيادة الوطنية، تتلاشى تدريجيا تاركة الفراغ.
ثمة إدراك اليوم بأن الحرب تدور في الواقع بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، وأن أوكرانيا لم تعُد دولة ذات سيادة منذ العام 2014، عندما قامت وكالة المخابرات المركزية والوكالات الغربية الشقيقة -في ألمانيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا والسويد، إلخ- بتثبيت نظام دمية تابع في كييف.
لمحات نهاية اللعبة
الآن، يبدو ضباب الحرب آخذا في الانحسار، وخطوط المعركة تصبح مرئية. على المستوى الرسمي، بدأت مناقشات صريحة حول نهاية اللعبة. ومن المؤكد أن مؤتمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي عقده عن طريق الفيديو مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن في موسكو يوم الجمعة قبل الماضي، واجتماعه مع الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في سان بطرسبرغ يوم الأحد التالي، أصبحا اللحظة الحاسمة. ويقف النصان من المؤتمرين معا ويحتاجان إلى قراءتهما معا.
ما من شك في أن مسؤولي الكرملين قد صمَّموا الحدثين بعناية، وكان الهدف منهما هو نقل رسائل متعددة. في هذه الآونة، تمتلئ روسيا بالثقة نتيجة الهيمنة على جبهة القتال -بعد أن سحقت الجيش الأوكراني و”الهجوم المضاد” لكييف الذي انتقل إلى النظر في مرآة الرؤية الخلفية. لكن موسكو تتوقع أن إدارة بايدن قد تكون لديها خطة لحرب أكبر في الذهن.
في اجتماع مجلس الأمن، رفع بوتين “السرية” عن التقارير الاستخباراتية التي تصل إلى موسكو من مصادر مختلفة، وتشير إلى تحركات لإدخال قوة استكشافية بولندية إلى غرب أوكرانيا. وقد وصفها بوتين بأنها “وحدة عسكرية نظامية جيدة التنظيم ومجهزة لاستخدامها في العمليات” في غرب أوكرانيا “للاحتلال اللاحق لهذه الأراضي”.
لعبة خطرة
في الحقيقة، ثمة تاريخ طويل من النزعة الانتقامية البولندية. وقد تحدث بوتين، وهو نفسه طالب متحمس للتاريخ، بشيء من الإسهاب عن ذلك. وبدا وكأنه يكظم الألم حين قال إنه إذا أذعنت سلطات كييف لهذه الخطة البولندية-الأميركية، “كما يفعل الخونة عادة، فهذا شأنهم. لن نتدخل”.
لكن بوتين أضاف: “إن بيلاروسيا هي جزء من دولة الاتحاد، ويعني شن عدوان على بيلاروسيا عدوانا على الاتحاد الروسي. وسوف نرد على ذلك بكل الموارد المتاحة لنا”. وحذر بوتين من أن ما يجري الآن على قدم وساق هو “لعبة خطيرة للغاية، ويجب على واضعي مثل هذه الخطط التفكير في العواقب”.
يوم الأحد، في اجتماعه مع بوتين في سان بطرسبرغ، التقط لوكاشينكو خيط المناقشة، وأطلع بوتين على عمليات الانتشار البولندية الجديدة بالقرب من حدود بيلاروسيا -على بعد 40 كيلومترا فقط من بريست- والاستعدادات الأخرى الجارية، مثل افتتاح ورشة لإصلاح دبابات “ليوبارد” في بولندا، وتفعيل مطار في رزيسزو على الحدود الأوكرانية (على بعد حوالي 100 كيلومتر من لفوف) لاستخدام الأميركيين الذين ينقلون الأسلحة والمرتزقة، إلخ.
وقال لوكاشينكو: ”إن هذا غير مقبول بالنسبة لنا. إن فصل غرب أوكرانيا وتقطيع أوصال أوكرانيا ونقل أراضيها إلى بولندا هو أمر غير مقبول. إذا طلب منا الناس في غرب أوكرانيا ذلك، فسوف نقدم الدعم لهم”. وتابع: “إنني أطلب منكم (بوتين) مناقشة هذه المسألة والتفكير فيها. وبطبيعة الحال، أود منكم أن تدعمونا في هذا الصدد. إذا نشأت الحاجة إلى مثل هذا الدعم، إذا طلبت منا أوكرانيا الغربية المساعدة، فسوف نقدم المساعدة والدعم للناس في غرب أوكرانيا. إذا حدث هذا، فسندعمهم بكل طريقة ممكنة”.
وكما كان متوقعا، لم يرد بوتين -على الأقل، ليس في العلن. ووصف لوكاشينكو التدخل البولندي بأنه بمثابة تقطيع لأوصال أوكرانيا واستيعابها “بالقطعة” في حلف شمال الأطلسي. وكان لوكاشينكو صريحا: “هذا العمل مدعوم من الأميركيين”. ومن المثير للاهتمام أنه سعى أيضا إلى نشر مقاتلي مجموعة “فاغنر” لمواجهة التهديد الذي تتعرض له بيلاروسيا.
خلاصة القول هي أن بوتن ولوكاشينكو عقدا مثل هذه المناقشة علنا في الأساس. ومن الواضح أن كليهما تحدث على أساس مدخلات استخباراتية. إنهما يتوقعان نقطة انعطاف في الأمام.
أن يدرك الشعب الروسي جيدا أن بلده يقاتل بحكم الأمر الواقع حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا هو شيء، واحتمال أن تتصاعد الحرب بطريقة دراماتيكية إلى قتال مع بولندا -جيش الحلف الذي تعتبره الولايات المتحدة أهم شريك لها في أوروبا القارية- هو شيء آخر تماما.
من خلال الإسهاب في الحديث عن النزعة الانتقامية البولندية التي لها سجل مثير للجدل في التاريخ الأوروبي الحديث، ربما حسب بوتين أنها قد تكون هناك في أوروبا، بما في ذلك بولندا نفسها، مقاومة للمكائد التي قد تجر حلف شمال الأطلسي إلى حرب قارية مع روسيا.
وبالمثل، يجب أن تكون بولندا مترددة أيضا. ووفقا لمجلة “بوليتيكو”، يبلغ قوام الجيش البولندي حوالي 150 ألف جندي، منهم 30 ألفا ينتمون إلى قوة دفاع إقليمية جديدة، “جنود في عطلة نهاية الأسبوع يخضعون لـ30 يوما من التدريب، تليها دورات تنشيطية”.
مرة أخرى، لا تتَرجم قوة بولندا العسكرية إلى نفوذ سياسي في أوروبا لأن القوى الوسطية التي تهيمن على الاتحاد الأوروبي لا تثق في وارسو التي يسيطر عليها “حزب القانون والعدالة” القومي، الذي أضر تجاهله للمعايير الديمقراطية وسيادة القانون بسمعة بولندا في جميع أنحاء الكتلة.
وفوق كل شيء، لدى بولندا سبب للقلق بشأن موثوقية واشنطن وحكمة الاعتماد عليها. ومن الآن فصاعدا، وفي ما ينطوي على مفارقة، سيكون مكمن قلق القيادة البولندية ألا يعود دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة في العام 2024. فعلى الرغم من التعاون مع البنتاغون بشأن حرب أوكرانيا، ما تزال القيادة البولندية الحالية لا تثق في الرئيس جو بايدن -تماما كما يفعل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
تحذير للغرب
على هذا الأساس، سيكون من المنطقي أن يُنظر إلى قعقعة السيوف التي يطلقها لوكاشينكو ودرس بوتين عن التاريخ الأوروبي باعتبارها تحذيرا مسبقا للغرب بهدف تشكيل نهاية للعبة في أوكرانيا على النحو الأمثل لخدمة المصالح الروسية. ففي نهاية المطاف، لن يكون تقطيع أوصال أوكرانيا أو التوسع الذي لا تمكن السيطرة عليه للحرب خارج حدودها في المصلحة الروسية.
لكن قيادة الكرملين ستأخذ في الاعتبار الاحتمالات الطارئة المتمثلة في أن حماقات واشنطن النابعة من حاجتها الماسة إلى حفظ ماء الوجه من هزيمة مذلة في الحرب بالوكالة، قد لا تترك خيارا للقوات الروسية سوى عبور نهر الدنيبر والتقدم على طول الطريق إلى حدود بولندا لمنع احتلال غرب أوكرانيا من قبل ما يسمى “مثلث لوبلين”، وهو تحالف إقليمي ذو توجه خبيث مناهض لروسيا، يضم بولندا وليتوانيا وأوكرانيا، تم تشكيله في تموز (يوليو) 2020 ودعمته واشنطن.
تلقي اجتماعات بوتين المتتالية في موسكو وسانت بطرسبرغ الضوء على التفكير الروسي فيما يتعلق بثلاثة عناصر رئيسية لنهاية اللعبة في أوكرانيا. أولا، ليس لدى روسيا أي نية لتنفيذ غزو إقليمي لغرب أوكرانيا، لكنها ستصر على أن يكون لها رأي في كيفية ظهور الحدود الجديدة للبلاد وكيفية تصرف النظام المستقبلي، مما يعني أنه لن يُسمح بوجود دولة معادية لروسيا.
ثانيا، لا تشكل خطة إدارة بايدن لانتزاع النصر من بين فكي الهزيمة في الحرب بداية مناسبة، حيث لن تتردد روسيا في مواجهة أي محاولة مستمرة تبذلها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لاستخدام الأراضي الأوكرانية كنقطة انطلاق لشن حرب متجددة بالوكالة، مما يعني أن استيعاب أوكرانيا بطريقة “الوجبة المقطعة” في حلف شمال الأطلسي سيبقى ضربا من الخيال.
ثالثا، وهو الأهم، لن يتردد الجيش الروسي المتمرس في القتال والمدعوم بصناعة دفاعية قوية واقتصاد قوي في مواجهة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي المتاخمة لأوكرانيا إذا تعدت على المصالح الأساسية لروسيا، مما يعني أن مصالح روسيا الأساسية لن تكون رهينة للمادة 5 من ميثاق الناتو.
*إم. كيه. بهادراكومار M.K. Bhadrakumar: دبلوماسي هندي سابق. كان سفيرا للهند في أوزبكستان وتركيا.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Glimpses of an Endgame in Ukraine
المصدر: (إنديان بانشلاين)/ الغد الأردنية