من أعقد الأسئلة التي تواجه جماعة ما، أو دولة، وأخطرها، هو سؤال الهوية: من نكون؟ وماذا يميزنا عن الآخرين؟ وهو السؤال الذي بالإجابة عنه تعرف الأمة؛ وتتحدد شخصيتها؛ وتتضح معالمها.
منذ انطلاقة الثورة السورية المباركة والحديث يكثر ويتصاعد عن “سوريتنا”؛ مترافقا مع حالة اعتداد بالنفس والشخصية، و”التنظير” لكينونة خاصة، منفصلة عن محيطها الذي تركها تواجه منفردة أعتى طغاة التاريخ، وأشرس حروب الإبادة الممنهجة، والتدمير المنظم والشامل؛ تركوا من قبل من يفترض أنهم أبناء الدم الواحد والمصير المشترك؛ وحاملي ذات قسمات الهم والتطلعات المشروعة؛ الحاضرة والمستقبليّة.
في الحديث عن “سوريتنا” يقع خلط بين الهوية والأمة والدولة؛ فصحيح أن الكيان السوري اليوم هو دولة قائمة بذاتها؛ لها حدودها وسيادتها؛ بغض النظر من أين استمدّت مشروعيتها، وكيف تشكلت. وربما بالبحث والواقع؛ مؤجل أو غير مطروح، الحديث عن “أمة واحدة” لأسباب عديدة أهمها ما فعله النظام على مدى عقود طويلة باسم الأمة الواحدة وقضاياها؛ إلى درجة أوصلت الكثيرين للحديث عن انفكاك عن محيطنا وقضاياه؛ والانشغال بهمومنا الذاتية و”سوريتنا.
الدولة كيان سياسي على بقعة جغرافية معينة تمارس مجموعة من الأنشطة التي تهدف إلى التقدم والازدهار لأفرادها وكيانها؛ والأمة مجتمع طبيعي من البشر يرتبط بعضها ببعض بوحدة الأرض والأصل والعادات واللغة من جراء الاشتراك في الحياة وفي الشعور الاجتماعي. وليس بالضرورة أن تتمكن الأمة من تجسيد كيانها في دولة واحدة وتحمل هوية واحدة. وهناك العديد من الأمم والهويات التي لم تتماثل وتتطابق لتحقيق أحلامها ووجودها في كيان واحد….
الهويات الوطنية للأمم والشعوب تخضع إلى عمليات تفاعل وانصهار معقدة وتاريخية طويلة، ولا تتشكل بين ليلة وضحاها؛ تتداخل فيها عوامل الجغرافيا والدين والثقافة؛ فهي باختصار الذات، وكل ما يشكل شخصية الفرد من مشاعر وأحاسيس. ومن هنا لا يمكن الحديث عن هوية سورية مستقلة، بعيدا عن الهوية الجامعة للمنطقة، التي تبلورت عبر مئات السنين، وخضعت لاختبارات عديدة في سؤال المصير والوجود، حتى أصبحت مميزة ومعرف بها لحملتها، وتميزهم؛ وهي ليست هنا سوى الهوية العربية – الإسلامية..
الهوية السورية؛ هوية طارئة وحديثة العهد؛ لا يمكن القول بوجود سمات خاصة لها؛ وخصائص مشتركة؛ تميزها عن جوارها ومحيطها؛ وهو ما يشكل جوهر وجود وشخصية مجتمع ما؛ أو دولة بعينها؛ انطلاقا من أن الهوية هي الخصوصية والذاتية؛ وثقافة الفرد ولغته وعقيدته وحضارته وتاريخه. وهي جزء لا يتجزأ من منشأ الفرد ومكان ولادته، حتى ولو لم يكن أصله من نفس المنشأ.
“سوريتنا” والتي بدأ الحديث عنها منذ ما قبل الثورة؛ ربما تكون حلا لواقع معقد؛ متشابك ومتداخل؛ مع بروز النزعات “الأقلاوية” التي تهدد بانفراط الكيان السوري” التاريخي” ؛ لكنها لا يمكن أن تشكل هوية وطنية جامعة ومستقلة بذاتها، بعيدة عن التأثر والتأثير في محيطها، وتشكلت بمعزل عن الهويات الأخرى في المنطقة عبر مئات السنين؛ وتعاقب الأجيال؛ وحركة التاريخ.
حتى أقليات المجتمع السوري التي تتغنى بهوياتها الخاصة؛ لا يمكن القول بأنها ذات سمات خاصة وصفات مشتركة منعزلة ومنفصلة عن عموم المجتمع، ومنغلقة على ذاتها؛ لتكون هوية خاصة تميزها. وماهناك من تباينات صغيرة وفروق بسيطة، لاتصل لدرجة الافتراق والبعد عن الهوية العامة للمجتمع والدولة، وماهو موجود دليل غنى وحيوية لهذه الهوية؛ التي تشكلت وقامت على أساسها واستقرت بها أحوالها.
ما في داخل المشهد من تناقضات؛ لا يكون حلها إلا سياسيا؛ عبر الاعتراف والإقرار بالمواثيق الدولية وعلى رأسها شرعة حقوق الإنسان العالمية؛ وهي لا تتنافر مع أن سوريتنا تحمل طابعا عاما؛ عربيا -إسلاميا لا علاقة له بالإيديولوجيا واستخداماتها؛ والنظام وممارساته.
الهوية الوطنية؛ مثل قضايا أخرى كثيرة، يجب أن تخرج من حيز التنافس والصراع السياسي بين القوى والتيارات السياسية فهي مسألة حاضر ومستقبل؛ كما هي قضية وجود. ومن حقنا أن نفخر بعد عامين من الثورة “بسوريتنا” ولكن هذه ليست منفصلة عن حقائق أخرى لم تلد مع النظام – العصابة لتنتهي معه.
المصدر: الأيام
تاريخ النشر 19 آذار 2013