في ضوء العلاقات الدولية، وفي ظل بحث الدول عن مصالحها، يمكن ملاحظة تشكّل وتمظهر أسس أولية لبناء علاقات أكثر اعتمادية، وأكثر تميزا ومنفعة لكل الأطراف، تتبلور من وقت لآخر. وهذه حالة صحية وذات مشروعية في السياسة الدولية. صحيح قد نرى في الخطاب السياسي لهذا الطرف الدولي ضد طرف آخر، كماً هائلا من الوعيد والتهديد بالعقوبات وإعادة التقييم، لكن كل هذه مفاهيم يغلب عليها الطابع الإعلامي والبحث عن الإثارة.
ففي العلاقات الدولية ليست هناك إلا المصالح، ومن تكون له مصلحة معك، أنت تبحث أيضا عن مصلحتك معه، إذن كيف يمكن أن تُقرأ الاندفاعة الجديدة في العلاقات السعودية ـ الصينية؟
قيل الكثير عن التطور الجديد الذي حصل في العلاقات بين الرياض وبكين، البعض اعتبرها ردود أفعال على سياسات سلبية صدرت من الولايات المتحدة تجاه السعودية، بينما اعتبرها آخرون سياسة مدروسة من قبل الطرفين، فقد أشارت بعض التحليلات إلى أن مبعث ذلك هو التهديدات التي أطلقها الرئيس الأمريكي بايدن، بإعادة تقييم علاقات بلاده مع السعودية. مضافا إليها تحذيرات الكونغرس الأمريكي للرياض بتفعيل مشروع قانون «نوبك»، لذلك لم يكن أمام الأخيرة إلا الرد على أسلوب الخطاب السياسي الامريكي غير الودي، بالارتماء في أحضان الصين. لكن يبدو أن هذا الاستنتاج غير ملائم، ولا يأخذ بنظر الاعتبار التحركات السياسية الواجبة، في ظل تباشير تشكل نظام دولي جديد. صحيح بدت زيارة الرئيس الصيني الأخيرة للرياض وكأنها تتوافق مع هذا الاستنتاج، لكن العناصر المكوّنة للزيارة، وبُنية الزيارة لتكون بالدرجة الأولى قمة لبلدين يتمتعان بثقل كبير في آسيا، ثم لتكون قمة خليجية صينية يفرضها الطموح الصيني في علاقات متميزة مع الخليج، وأخرى قمة عربية صينية. كل هذه تعطي تصورا آخر مغايرا تماما لتلك التحليلات. فلو بحثنا في المصالح المشتركة بين الرياض وبكين، نجدها تفرض وبقوة توجههما نحو بعضهما بعضا. فبكين تولي أهمية بالغة لمنطقة الخليج العربي باعتبارها منطقة نفوذ لها، وهذا النفوذ يتنامى اقتصاديا وتجاريا، كما تشكل منطقة مهمة لأمن الطاقة لها، لذلك فالسياسة الصينية بالتوجه نحو هذه المنطقة تعتبر جزءا من مشروع طريق الحرير، الذي تبناه الزعيم الصيني الحالي منذ عام 2013. أما بالنسبة للسعودية فهناك توجه نحو الشرق، باعتبار أن موازين القوى بدأت تميل أكثر في هذا الاتجاه، لأنها الأكثر استهلاكا للطاقة والتجارة، والأكثر ازدهارا أيضا، فالصادرات السعودية إلى الصين كبيرة، وتجاوز الميزان التجاري بين البلدين 100 مليار دولار، كما توجد مشاريع اقتصادية بين الصين والشركات السعودية بأكثر من 40 مليار دولار في الصناعات الثقيلة، أيضا هنالك استثمارات سعودية في حقلين نفطيين في الصين، كل ذلك يدل على وجود توجهات سعودية نحو الشرق، والدافع في ذلك هو الرغبة في تنويع مصادر دخلها، وأيضا في نظام تسلّحها. ففي عهد الرئيس السابق ترامب تم التلاعب بورقة الأمن والنفط، التي تحكم العلاقة السعودية الأمريكية، عندما تم الإعلان عن أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى نفط الخليج. هنا بدأت الرياض بالتفكير جديا بمسألة تنويع السلاح وتنويع السلة الاقتصادية أيضا، وقد عزز هذا الموقف الرئيس الحالي جو بايدن، بسبب العديد من السياسات التي لم تعد مُقنعة لأحد، والتي أسقطت فكرة الاعتماد الأوحد على أي قوة في العالم، حتى لو كانت هي القطب الأوحد. وقد عبر الرئيسان الروسي والصيني سابقا عن هذا التوجه السعودي، عندما قالا إن الرياض تروم تنويع مصادر اقتصادها، ونحن من سيدعمها، ومرحبين في الوقت نفسه بها كي تكون عضوا في مجموعة «بريكس». وهذا يعتبر تطورا كبيرا ومهما للغاية، فانضمام الرياض إلى هذه المجموعة يضفي عليها طابع اللاعب العالمي، كما يعني عمليا استبدال علاقاتها مع واشنطن القائمة على معادلة الطاقة مقابل الأمن، بعلاقات دولية مبنية على الاحترام والمنافع المتبادلة، من دون إملاءات، في عالم يتجه نحو التعددية القطبية. ويتوقع خبراء الاقتصاد أن تستطيع السعودية تنويع شركائها الاقتصاديين من خلال انضمامها إلى «بريكس». وإذا ما جرى التخلي عن نظام البترو- دولار واستخدام العملات المحلية في التبادل التجاري في هذا التجمع الاقتصادي، فإن الريال السعودي يمكن أن يصبح من عملات الاحتياط العالمي.
لقد شعرت الرياض بأن من حقها البحث عن مصالحها في ضوء خططها الطموحة للاعتماد على النفس، وأن هذه المصالح بدت أكثر فاعلية مع بكين وموسكو، خاصة بعد أن تخلت واشنطن عن التزاماتها مع الرياض. كما أنها ترى أن السوق الدولية للبحث عن الأمن والسلاح موجودة لدى الصين وروسيا، رغم أن التقنية الأمريكية مهمة جدا وتتفوق في هذا المجال. لكن عندما ترفض الولايات المتحدة تزويد السعودية ودول الخليج بنوعيات محددة من السلاح، فإنها لا بد من أن تذهب إلى أطراف دولية أخرى للحصول عليه، أو ما يقاربه من حيث الفاعلية. كما أن هنالك جزئية مهمة جدا غابت عن العلاقات السعودية الأمريكية، وهي جزئية الاحترام أو النظرة اللائقة لكل طرف. وهذا الموضوع أزعج صانع القرار السعودي والخليجي أيضا، لذلك ربما الثقافة الآسيوية أو فكرة العقيدة في السياسة الخارجية، هي الأكثر تلاؤما مع الذهنية السياسية في المنطقة العربية. لكن السؤال الأهم هو هل ستحُل الصين محل الولايات المتحدة كحليف للرياض؟
نظرية القوس والسهم في العلاقات الدولية تقول، كلما شددت وتر القوس إلى الخلف ينطلق السهم إلى الأمام بأبعد مسافة، بمعنى أن العلاقات الدولية كلما كانت عميقة الجذور بين طرفين، كانت آفاقها المستقبلية ذات مديات بعيدة، لذلك فإن ثمانية عقود من العلاقات السعودية الأمريكية لا يمكن بأي حال من الأحوال استبدالها بعلاقة أخرى لسببين: أولا لا يمكن وصف الصين بأنها البديل المتاح، لأنها لا تملك ما تملكه الولايات المتحدة وتستطيع منحه للسعودية. ثانيا، لا توجد قناعة لدى صانع القرار السعودي بأن الصين هي الهدف، بل هي خيار يمكن الحصول من خلاله على أشياء كثيرة سياسية واقتصادية. وإذا ما قرأنا في بنود الثورة الاقتصادية التي يروم تحقيقها صانع القرار في الرياض، تأتي واشنطن في مقدمة من يساعدون في تحقيق هذه الثورة، لأنها الاقتصاد الأول في العالم الذي يتمتع بالإمكانات والقدرات والنفوذ والقدرة على توفير ما تتطلبه الثورة الاقتصادية السعودية. أيضا الصين لن توفر الأمن ولن تتدخل في هذا الملف، بينما واشنطن تعطي الحماية حتى إن تكن الحماية للرياض ليست بالمفهوم القديم المرتبط بالنفط. الآن الحماية شكل آخر. كما أن السعودية باتت قوة إقليمية وهي في حاجة إلى السلاح الأمريكي الذي هو أساس تسليحها.
فهل بات صانع القرار السعودي يعتقد أنه لا بد من إشعار الولايات المتحدة بأن هناك بديلا؟ وهل هذا أسلوب جديد للتعامل مع واشنطن؟ ربما فأسلوب القوة وإصدار الأوامر التي كانت تستخدمها واشنطن مع السعودية ودول الخليج، لم تعد مُرعبة أو مُقنعة كما كانت في السابق. والأساس في ذلك هو وجود لاعبين أقوياء على الساحة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وأمنياً هما الصين وروسيا.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
المصدر: القدس العربي