من طرائف الانتخابات التشريعية، التي تجري في تونس اليوم أن عشرة مرشحين فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد قبل إجراء الاقتراع، لأنهم المرشحون الوحيدون في دوائرهم. ومن طرائفها أيضا أن المجلس الجديد لن يتمكن من الاجتماع رسميا لأداء اليمين إلا في آذار/مارس المقبل، لأن السلطات مُجبرة على تنظيم انتخابات فرعية لملء المقاعد الشاغرة. وإذا كان المُرشحون المُحتملون من وجوه النخبة يشعرون بأن الانتخابات شأنٌ لا يعنيهم، فكيف بالمواطن الغارق في صعوبات معيشية يومية؟ ولم يقتصر العزوف على استنكاف كثيرين من الترشح لعضوية المجلس الجديد، وإنما شمل أيضا قطاعات واسعة من المواطنين، الذين لم يولوا أدنى اهتمام إلى العملية الانتخابية، إذ استمرت الحياة عادية تماما في المدن التونسية، طيلة الأيام المخصصة للحملة الانتخابية. ويُفترض أن تسفر هذه الانتخابات عن اختيار 160 عضوا يُؤلفون البرلمان الجديد، الذي سيحلُ محل برلمان 2019 بعدما ألغاه سعيد، في إطار الاستحواذ على السلطات التشريعية، واضعا دبابة في مدخله الرئيسي.
ويجوز القول إن هذا البرلمان هو برلمان قيس سعيد، الذي قرر هذه الانتخابات من دون أن يطالب بها أحدٌ، وهيأ لها الأجهزة اللازمة التي تأتمر بأوامره وبمرجعية قانونية على المقاس. ومع أن رئيس الجمهورية لا يملك، ظاهريا، حزبا يدعمه، فإنه فصل قانونا انتخابيا يُساعد أنصاره فقط على الفوز بمقاعد في البرلمان الجديد، مع حظر تأليف قوائم حزبية أو ائتلافية. وسيكون الاقتراع على أساس الأفراد، في ظل مقاطعة هيئات مراقبة الانتخابات المحلية والدولية، ومنها «جمعية بوصلة» ذات الخبرة الطويلة في هذا المجال. أما «الهيئة العليا المستقلة للانتخابات» التي سبق أن أشرفت على خمسة انتخابات رئاسية وتشريعية بين 2011 و2019 من دون أن يُشكك أحد في عملها، فتم قلع أظافرها على نحو جعلها رديفا للسلطة السياسية بالكامل. أكثر من ذلك، استحوذت «الهيئة المستقلة» التي لم يبق لها من الاستقلالية إلا الاسم، على مشمولات هيئة دستورية أخرى هي «الهيئة العليا للإعلام السمعي والبصري» التي راقبت تعاطي وسائل الإعلام مع المرشحين في انتخابات 2014 و2019.
مجلس تأسيسي منتخب
تنبني هذه المنظومة السياسية الجديدة على دستور خطه سعيد بنفسه وحبرهُ بريشته، وجعل التونسيين يُصوتون عليه في استفتاء عام، يوم 30 حزيران/يونيو الماضي، تجاوزت فيه نسبة العزوف 90 في المئة. واعتُبر اعتماد ذلك الدستور انقلابا أبيض على دستور 2014 الذي تمت صياغتُهُ تحت سقف مجلس تأسيسي منتخب، وبعد الاستماع إلى مئات الخبراء في مجالات مختلفة، فضلا عن الاطلاع على تجارب الانتقال الديمقراطي في بلدان عدة. وتقول عضو المجلس التأسيسي ناديا شعبان إن كل التونسيين الذين أرادوا المشاركة في ذلك المسار أُعطيت لهم الفرصة، بمن فيهم من تظاهروا ومن اعتصموا ضد «التأسيسي» لذلك ترك كل هؤلاء بصمتهم في مشروع الدستور. وأجبرت ضغوط المجتمع المدني لجنة الصياغة على أخذ الملاحظات والاعتراضات في الاعتبار، وهو ما حصل في البنود المتعلقة بحقوق المرأة على سبيل المثال.
على العكس من ذلك، جمع الرئيس الحالي جميع السلطات بين يديه، فهو رئيس السلطة التنفيذية، وهو المُشرع بواسطة المراسيم، كما أن صدامه مع القضاة في أعقاب حل المجلس الأعلى للقضاء ومعاودة تشكيله، مكنه من إحكام قبضته على المؤسسة القضائية. لكن في المقابل لا يسمح دستورُهُ بمراقبة أداء الرئيس أو محاسبته، مانحا إياه حصانة مطلقة مدى الحياة، أي حتى بعد انتهاء ولايته، وهي حصانة لم يتمتع بها أي رئيس من الرؤساء الأربعة السابقين.
من هنا اعتبرت غالبية المحللين السياسيين الحكم الحالي حكما فرديا استبداديا، يستند على رؤية محافظة ووصائية على المجتمع وعلى الدولة، إذ أن رئيس الحكومة في دستور سعيد هو موظف سام لدى رئيس الجمهورية. بهذا المعنى تُشكل منظومة سعيد ارتدادا إلى ما قبل ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011 التي يعتبرها هو ثورة مضادة ويُؤرخ، بدلا منها، بيوم انطلاق الانتفاضة، من مدينة سيدي بوزيد يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010. وهذا سرُ اختياره الذكرى الحادية عشر لتلك الانتفاضة ميقاتا لإجراء الانتخابات التشريعية اليوم الأحد. لكنه رفض بالمقابل إجراء انتخابات رئاسية مُتزامنة معها، وقوض بمراسيمه، جميع المؤسسات الدستورية، التي أنشئت قبل صعوده إلى سدة الرئاسة، والتي اعتُبرت علامات على درب الحرية. ويتفق الخبراء السياسيون على أنه وضع بين هلالين المكاسب التي تحققت طيلة عشر سنوات، على طريق الانتقال الديمقراطي، والتي شكلت تجربة فريدة في العالم العربي.
من هنا ابتعدت النخب عن رئيس الجمهورية، الذي لم يكن بدوره متحمسا لمد جسور الحوار معها، كما تأزمت علاقاته مع الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني، ما أدى إلى تآكل القاعدة الاجتماعية للنظام.
استغنى سعيد عن النخب «التجمعية» (نسبة إلى حزب الرئيس الراحل زين العابدين بن علي) وحارب الليبراليين وتهجم على اليساريين وخاصم تيار الإسلام السياسي واستعدى النساء. غير أن أنصاره يلجأون إلى نقد حصاد الحكومات السابقة لنزع الشرعية عنها، بُغية تبرير جميع الخيارات والإجراءات التي اتخذها، بما في ذلك قرار الانتخابات التشريعية المبكرة اليوم. وصحيح أن إطاحته بحكومات الأحزاب، وآخرها حكومة المشيشي، المدعومة من «حركة النهضة» لاقت ترحيبا عفويا من رجل الشارع، ولعبت بعض وسائل الإعلام دورا خفيا في إبراز سلبيات الأوضاع طيلة العشرية (2011-2019) التي كانت تنعتها بـ»عشرية الخراب» على اعتبار أن سعيد هو من سيُعيد البناء.
استثمار خيبة الأمل
والمؤكد أن أداء الأحزاب طيلة تلك الفترة غلب عليه الجشع المالي والانتهازية السياسية، وأنها عقدت تحالفات غير مبدئية جعلت الناس العاديين لا يفهمون ما يجري حولهم. وصحيح أن الفريق الذي كان حول سعيد استطاع، قبل أن ينفرط عقدهُ، أن يستثمر خيبة الأمل العامة، وما ولدته من غضب، لتعبيد الطريق أمام سعيد، نحو قصر قرطاج. غير أنه لم يستطع المحافظة على ذلك الرصيد، فأهدره بنفسه في سلسلة من الخطب والزيارات الميدانية، التي أماطت اللثام عن نقاط ضعفه وفشله القيادي.
من هنا يُبرر المؤيدون لسعيد موقفهم بقرف التونسيين من صور الاشتباكات بين النواب في البرلمان، وتعطُل عمل مكتب المجلس، بسبب وجود رئيس «حركة النهضة» راشد الغنوشي على رأسه، إذ سرعان ما تحولت جلسات البرلمان إلى فوضى عارمة جراء الصدامات بين الكتل الحزبية، ما أقنع قطاعات واسعة من المقترعين في انتخابات 2019 بترجيح سعيد على منافسه نبيل القروي الذي اقترن اسمه بشبكات الفساد. ومن ثمة حصل سعيد على المشروعية التي سمحت له بالصعود إلى سدة الرئاسة. لكن هذه المشروعية تآكلت جراء الوعود الفضفاضة التي لم يعد يصدقها التونسيون. وساهمت انتقادات الأحزاب والمجتمع المدني في خلق هوة بين النظام الجديد والقطاعات التي ساندته في البداية. ومن تجليات هذه القطيعة أن 200 شخصية عامة أصدرت بيانا حول المرسوم 54 الصادر في 13 أيلول/سبتمبر الماضي طالبت فيه بحماية الحريات، وخاصة حرية التعبير ما شكل مؤشرا على خسارة سعيد لأية حظوة بين المثقفين. كما أنه خسر مصداقيته لدى النقابيين أيضا، لاسيما بعد الجدل الذي دار بين أعضاء الحكومة واتحاد العمال حول التفاوض مع صندوق النقد الدولي، إذ اعتبر النقابيون أن الحكومة تتلاعب بالمفاوضات وتعتمد الازدواجية في خطابها مع اتحاد الشغل ومع الدائنين الدوليين.
هبات اجتماعية؟
ومع الارتفاع غير المسبوق لمعدل التضخم، مُتجاوزا 9 في المئة وهي النسبة الأعلى منذ أكثر من 30 عاما، وغلاء الأسعار المتصاعد، لا يُستبعد أن تتحرك الجبهة الاجتماعية، وسط عجز مجلس النواب الجديد عن إيجاد حلول للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، باعتباره جزءا من المشكلة وليس من الحل. وفي هذا الإطار انتقد الأمين العام لاتحاد العمال نور الدين الطبوبي الحكومة «التي تعتمد المخاتلة وأفكارها مملاة عليها من الخارج … .حكومة لا تتحاور حول أي شيء إلا بعد الرجوع إلى صندوق النقد الدولي …حكومة تريد ضرب (منظومة) الدعم والقطاع العمومي» حسب ما قال الطبوبي.
وتردد أن صندوق النقد الدولي اشترط توقيع الرئيس سعيد على الاتفاق المالي، الذي توصل له الطرفان من أجل إقراض تونس 1.9 مليار دولار. لكن خبراء اقتصاديين استبعدوا أن يقبل ذلك، ورجحوا أن يُفوض لرئيسة الحكومة التوقيع على الاتفاق، ما قد يُؤدي إلى إرجاء صرف القرض. وهذا التأجيل، إن حصل، سيؤجج هبات اجتماعية على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية، أسوة بانتفاضات سابقة، أشهرها انتفاضة كانون الثاني/يناير 1984، المعروفة بـ«انتفاضة الخبز».
المصدر: القدس العربي