كان المفكر والأكاديمي الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد، مثقفًا مشتبكًا. وقد تواجد في الغرب، وفي الولايات المتحدة بشكل أساسي، في فترة هيمن فيها السردان؛ الاستشراقي والصهيوني، على المشهد الفكري الغربي. كان المثقفون المستشرقون الأميركيون، واليهود الصهاينة وأنصارهم من اليمين المسيحي الصهيوني، يحتكرون المنابر الإعلامية ومنصات الخطاب، ولا يفسحون أي مساحة لسرد بديل. كما أسهمت المنظمات الصهيونية الكثيرة، باستخدام الأموال بسخاء، في كسب النفوذ على القرار السياسي الأميركي الرسمي، من خلال الإنفاق على الحملات الانتخابية لأعضاء مجلسي الكونغرس. وفي المقابل، عمل الصوت الصهيوني العالي، مستقويًا بروايتي “الهولوكوست” و”معاداة السامية”، بإغلاق كل المنافذ على الصوت الفلسطيني وإسكاته، وإفساد المناسبات التي يدعى فيها الفلسطينيون أو أنصارهم إلى الحديث.
مع ذلك، تمكن إدوارد سعيد، من بين آخرين من ذوي الفكر المشابه، من فرض صوته باستخدام تميزه الأكاديمي وقوة حجته وعلو صوته كناقد أدبي وثقافي متعدد الاهتمامات. وقدم أطروحات سارت في عكس الاتجاه السائد عن الشرق عمومًا وعن السرد الفلسطيني بشكل خاص. وكان عليه أن يفتح طريقًا بيئية يديرها الصهاينة بالكامل، مليئة بالعوائق والألغام. وبذلك، أسهم في التأسيس لخطاب بديل منافس ومزود بأدوات الدعم التاريخي والمنطقي واستدعاء الحقائق. وقد جعلت طريقة العرض من الصعب على منظري الصهيونية مقاومة السرد الآخر الذي كان سعيد من مؤسسيه، ولذلك هاجموه وحاولوا محاصرته حيثما أمكن. وعلى سبيل المثال، أطلقت عليه “عصبة الدفاع عن اليهود”، المنظمة التي يصنفها مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي إرهابية، عليه وصف “نازي”، وأضرم أحد أفرادها النار في مكتبه في جامعة كولومبيا. كما صرح سعيد نفسه بأنه كان يتلقى تهديداتٍ بالقتل هو وعائلته طيلة حياته. ووصفه الناقد اليهودي الأميركي المتطرف، إدوارد ألكسندر، بـ”بروفيسور الإرهاب”.
مع ذلك، أثمر الجهد الشاق، وإنما الدؤوب، الذي بذله سعيد وبقية المدافعين عن حقوق الإنسان والمستضعفين، وفلسطين بوصفها أبرز قضية حقوقية وإنسانية، في تغيير المشهد، كما يبين كاتبان يعلقان على رسالة سعيد المنشورة أدناه.
على الرغم من النجاحات اللافتة التي حققها سعيد في جهده لاختراق المساحات الفكرية المحتلة، وتمكنه من وضع رؤاه المغايرة عن “الشرق”، والحكاية الفلسطينية في العالم، فقد ظل يشعر بالسخط من تناقضات “المثقفين” الغربيين من المستشرقين والصهاينة، الذين اشتغلوا على تشويه الصورة العربية والفلسطينية. كان يستغرب تنكر هؤلاء لمهمة المثقف التنويرية، بتجاهلهم الحقائق، والتعتيم عليها، أو تزويرها، لصالح رؤية أحدية بـ”حقيقة” واحدة. وكان هؤلاء النافذون الذين يحتكرون المنصات والمنابر، يلحقون الضرر بجزء كبير من البشرية بإسكاتهم وتولي مهمة تصويرهم بطرق تبرر اضطهادهم. ومن ذلك تسويق الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني على أنها جهد ديمقراطي تقدمي للإجهاز على “الإرهاب” العربي، وشراء التعاطف مع “قضية اليهود” من الرأي العام الأميركي والغربي. وبدفع من الاحتقان الذي تراكم في نفسه من خبرته مع هؤلاء “المثقفين” الأدعياء -اليهود منهم بشكل خاص- كتب رسالة مفتوحة، شرح فيها تناقضاتهم وأعاد بسط الحقائق المعروفة، وعبر عن المعاناة التي يصنعونها للشعب الفلسطيني بتواطئهم في قمع روايته وتسفيه قضيته.
في هذه الرسالة، التي ظلت غير منشورة منذ كتبها سعيد في العام 1989 إلى أن نشرتها مجلة “تيارات يهودية” Jewish currents، التي تصدر في الولايات المتحدة في شهر أيلول (سبتمبر) من هذا العام، “يدعو سعيد نظراءه اليهود إلى اتخاذ موقف ضد انتهاكات إسرائيل لحقوق لفلسطينيين”، كما يقول محرر المجلة، بيتر بينارت.
وكان سعيد قد كتب هذه الرسالة المفتوحة لينشرها. لكن محيطين به أشاروا عليه بأن صيغتها أكثر حدة من أن يمكن نشرها، لأنه سيفتح عليه أبواب الجحيم. ويعلق الكاتبان، نوبار هوفسبيان وبيتر بينارت، في العدد نفسه من “تيارات يهودية”، على ظروف كتابة الرسالة وأسباب عدم نشرها، كما يعرضان التغيرات التي طرأت على المشهد الفكري اليهودي في الولايات المتحدة وتعامل منافد الإعلام الليبرالية الأميركية مع المسألة الفلسطينية في الوقت الذي مر منذ كتابة الرسالة حتى الآن. وتنشر “الغد” ترجمة رسالة سعيد، التي نُشرت لأول مرة مؤخرًا، إضافة إلى تعليقي هوفسبيان وبينارت عليها، في أربع حلقات.
إدوارد سعيد* – (تيارات يهودية) 21/9/2022
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
رسالة إدوارد سعيد
كثيرًا ما سمعت الحاخام آرثر هيرتزبرغ Arthur Hertzberg [1] يقول إن قضية إسرائيل بالنسبة لليهود الأميركيين هي نوع من دين علماني. وكما لو ليؤكد ذلك، يوثق صحفي “نيويورك تايمز”، توماس فريدمان Thomas Friedman، الذي نشأ في مينيابوليس، في كتابه الأخير عن فترات عمله كمراسل صحفي في بيروت والقدس، جوانب من الأهمية الاستثنائية التي احتلتها إسرائيل ما بعد العام 1967 في التكوين الفكري والثقافي للشباب اليهود من جيله: الفخر، والتماهي الفكري والثقافي مع إسرائيل كدولة قوية، والاهتمام المتجدد باللغة العبرية والماضي اليهودي. ومع ذلك، منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية [2]، حدث تغيير في وضع إسرائيل بين اليهود الأميركيين: بالنسبة للعدد القليل من الفلسطينيين في الولايات المتحدة، كان هذا التغيير واضحًا تمامًا، على سبيل المثال، في التصوُّر الجديد المشوش لصعوبات إسرائيل التي لم تُحل في الأراضي المحتلة، والمعاملة التي يتلقاها الفلسطينيون من العسكريين والمستوطنين، والمفهوم الكامل لوجود دولة يهودية ديمقراطية في بيئة عربية وإسلامية غير مضيافة.
بطبيعة الحال، تعني مخاطبة المثقفين اليهود الأميركيين كمجموعة، افتراض أن ثمة عددًا كبيرًا من الأفراد هم أكثر تجانسًا وتماسكًا مما هم عليه في الواقع. ومن المؤكد أن هناك تلك الاختلافات الجديّة التي مكنت بعض المثقفين من مناقشة السلام والمصالحة مع الفلسطينيين علنًا، وثمة آخرون (مثل إيرفينغ كريستول Irving Kristol [3] في صحيفة “وول ستريت جورنال”، عدد 21 تموز (يوليو)) [4]، الذين يلخص لهم عنوان كريستول “من يحتاج إلى السلام في الشرق الأوسط؟” موقف المماطلة الذي يتخذه أناس يريدون أن يتغير الوضع الراهن المروع بأقل قدر ممكن. ومع ذلك، أعتقد أنني محق في اعتقادي بأنه بالنسبة لليهود الأميركيين للأفراد، وكذلك مختلف المعسكرات التي ينقسمون إليها، فإن حقيقة إسرائيل في أواخر العام 1989 أصبحت ثيمة قوية وشاغلاً مشتركًا؛ وهو ما يسمح لي بمخاطبتكم بشكل جماعي في وقت تخوض فيه إسرائيل، باسم الشعب اليهودي، معركة مع الشعب الفلسطيني؛ صراعًا لدي قناعة بأنه يمكنكم بالتأكيد التأثير فيه، إن لم يكن إنهاؤه.
لم يحدث في أي وقت من الأوقات في الصراع المستمر منذ قرن بين الفلسطينيين واليهود أن كان الصراع على الأرض، والحقوق الوطنية والمصير السياسي، أكثر حدة أو جدية مما هي الآن. بالنسبة للفلسطينيين -على الرغم من أنني لا أملك تفويضًا للتحدث باسم أحد سوى نفسي، وسأحاول التعبير عن مشاعري ومشاعر العديد من الفلسطينيين الذين أعرفهم شخصيًا- كانت هذه الفترة هي الأكثر أهمية في تاريخنا بعد الحرب. كانت هناك المقاومة غير المميتة بشكل عام، والمبدئية، ضد احتلال الانتفاضة نفسها؛ كانت هناك التغيرات الزلزالية العديدة التي طرأت على الجسم الاجتماعي الفلسطيني منذ بدء الانتفاضة: التحسن الكبير في وضع المرأة؛ القدر الأكبر من التماسك والرؤية السياسية؛ الزيادة الهائلة في منسوب احترام الذات التي صاحبت طرد الخوف؛ والتعبئة الملهمة للموارد الفلسطينية لمساعدة الانتفاضة، في وقت كاد فيه “الأصدقاء” (العرب، على رأسهم) والأعداء يعتادون اللامبالاة في التعامل مع قضية فلسطين؛ وقبل كل شيء، كان ذلك التنازل التاريخي الذي تم التوصل إليه في اجتماع “المجلس الوطني الفلسطيني” في الجزائر العاصمة في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) [5]. في ذلك الاجتماع تم رسم الأرضية السياسية لما تحقق بشكل أكثر وضوحًا بعد ذلك -الاعتراف بإسرائيل، وتقسيم فلسطين الانتدابية إلى دولتين، وقبول قراري الأمم المتحدة 242 و338،[6] ونبذ الإرهاب، في مسعى رسمي إلى إنهاء الصراع عن طريق التفاوض السياسي، وليس عن طريق العنف.
يمكن تقديم بعض هذه الأشياء بطريقة ملموسة أكثر وشرح معناها الحاسم وبالغ الصعوبة بالنسبة للعديد من الفلسطينيين وإعطاؤها محتوى أكثر إنسانية، إذا قمتُ بترجمتها إلى مادة تجربتي الخاصة. مثل معظم أبناء المجتمع المنفي، أنا لست من الضفة الغربية أو غزة. لقد ولدت في القدس الغربية في منزل عائلي تحتله الآن عائلة يهودية أوروبية (أو عائلات)؛ ولدَت أمي في الناصرة وترعرعَت هناك وفي صفد، اللتين أصبحتا بلدات إسرائيلية منذ العام 1948. وقد عشت حياة محظوظة للغاية، ولكن، حرفيًا، كان كل فرد من أفراد عائلتي، من جهة الأم والأب، لاجئًا متأثرًا بشكل سلبي -وفي العديد من الحالات كارثي- بفقدان الممتلكات والمواطنة والحقوق السياسية، الذي صاحب تدمير المجتمع الفلسطيني في العام 1948؛ وفقَد أحد أفراد عائلتي الكبيرة حياته بطريقة عنيفة بسبب الصراع. وأن يكون المجلس الوطني الفلسطيني (الذي كنت عضوًا فيه) وياسر عرفات [7] قد استطاعا أن يقبلا معًا ورسميًا بدولة -ليس في أقل من 25 % من فلسطين السابقة فحسب، ولكن أيضًا في ذلك الجزء من الأرض على وجه التحديد الذي ليس منطقتنا الأصلية، هو بالتالي تضحية كبيرة بأبعاد هائلة.
عندما يتحدث اليهود عن إسرائيل كمكان يعودون فيه إلى الوطن، فإنكم تسمحون بأن يكون لكلمتهم “الوطن” وقع على الآذان الفلسطينية يشبه الموت. أنا لا أقلل من شأن ما هو بالنسبة لليهود مشكلة قديمة العهد من التغريب والاضطهاد والمنفى، ولكن يجب عليكم أيضًا أن تفهموا الفورية الجارحة بالنسبة لنا عندما نشاهد وطننا وهو يتحول -حرفيًا- إلى وطن أحد آخر، وبلده، حتى بينما يستمر عدد القتلى الفلسطينيين -الذين يُقتلون بالرصاص والضرب والاختناق- على يد إسرائيل على مدى العقود الخمسة الماضية في الازدياد، بحيث أصبح الآن بالآلاف التي لا تعد ولا تحصى. خلال الانتفاضة وحدها، تخطت الحصيلة حاجز الـ600 شخص. وهكذا، فإن ما تقرر في اجتماعات “المجلس الوطني الفلسطيني” في الجزائر العاصمة لا يقل كثيرًا عن بتر الذات الوطنية، الذي يجري فعله بوعي، و، كما أود أن أصر، بشجاعة لصالح السلام وقدر صغير من العدالة لأمة محرومة، مهضومة الحق كثيرًا وتعاني. لقد عرف الفلسطينيون من جيلي فلسطين كبلد ذي أغلبية عربية، ولو أنه بلد يسيطر عليه البريطانيون، و، بالنسبة لنا، تسلل إليه واخترقه تدريجيًا اليهود الأوروبيون، الذين بدا أنهم قادمون -على الرغم من كل احتجاجاتهم النظرية- إلى أرض عرفوها بشكل أساسي من خلال الدين والأيديولوجية. إن التمزق الكارثي المفاجئ الذي جلبه إعلان أرض ووطن كانا لنا ذات مرة ليكونا دولة إسرائيل اليهودية هو شيء لا يمكن تجاهله بازدراء، لأن حتميته أثرت على كل فلسطيني.
هذه حقائق، وهي تتطلب فهمًا لا يقل عن فهم ماضيكم الذي طالبتم به، أنتم كيهود، العالم. أنا لا أقول إنه لا ينبغي تفسير الحقائق، بل أقول فقط إنه لا ينبغي تفسيرها في تناقض مع روحها ومعناها الحقيقي. ومع ذلك، لا أعتقد أن من المبالغة القول إنه تم، مع استثناءات قليلة فقط، ربط الدعم اليهودي الأميركي لإسرائيل من العام 1948 فصاعدًا (وخاصة بعد العام 1967) بشكل حتمي بتجريد الشعب الفلسطيني من إنسانيته، وتجاهله، وبعد منتصف السبعينيات، شيطنة الشعب الفلسطيني. وفي هذه العملية المهمة للغاية، وبالنسبة لنا (بما أننا كنا هناك لنشاهدها وهي تحدث) الإقصائية بشكل مروع، لعب المثقفون اليهود الأميركيون دورًا حاسمًا.
الحقيقة هي أن ما يهم هنا ليس تصفية الحسابات، ولا سرد قائمة بالتفاصيل. صحيح، كبداية، أننا كعرب ومسلمين وغير غربيين لم نتمكن قط من امتلاك وصول إلى الخطاب السياسي والثقافي لأوروبا أو أميركا، ولا نحن أتقناه تمامًا. ولكن، حتى مع ذلك، ما كان يجب أن نكون قد ظهرنا خلال فترة ما بعد العام 1948 فقط كـ”عرب” مجهولي الهوية والوجوه، وقتلة، وأعداء، خاضعين لسلسلة كاملة من التشويهات غير الجذابة والمتكررة آليًا وبلا توقف (اللاعقلانية، التعصب، كراهية البشر، والهمجية الصرفة). ومع ذلك، ظهرنا كذلك، إذا لم تكن هذه كلمة قوية كثيرًا لوصف الصورة الخالية تقريبًا من الإنسانية التي اكتسبناها نتيجة لذلك. دائمًا كانت سماتنا السلبية هي التي أتاحت للمثقفين المدافعين عن إسرائيل وضعنا، حتى يؤكدوا بعد ذلك، ضدًا لليبرالية الإسرائيلية، والديمقراطية، والتنوير وما إلى ذلك. ويجب أن أضيف بسرعة، أن تجريدنا من إنسانيتنا حدث كامتداد لمجموعة التدابير الهائلة سلفًا التي اتخذتها إسرائيل لمحو معظم وجودنا من وطننا الأصلي. تم جعل مئات الآلاف من الفلسطينيين لاجئين؛ وتم تدمير أكثر من 400 قرية فلسطينية؛ ونفذت إسرائيل ضدنا حروبًا لا نهاية لها واتخذت إجراءات عسكرية ومدنية عقابية. وبحلول منتصف العام 1967، وُضعت فلسطين التاريخية بأكملها تحت الحكم الإسرائيلي.
من المؤكد أنكم ستكونون قد قرأتم أو سمعتم عن عمل المؤرخين الإسرائيليين التنقيحيين (موريس، سيغيف، فلابان، وآخرين) [8] الذين تتوافق إعادة بنائهم لسرد ويلات العام 1948 وما بعده في الغالب مع شهادة الكلمات والأصوات الفلسطينية التي لم تُسمع أبدًا في الولايات المتحدة. لم تُسمع لأنه لم يتم نشرها أو ترويجها في وسائل الإعلام؛ حيث، كما أظهر العديد من النقاد بالتفصيل، قرر الخوف من اللوبي الإسرائيلي أو التعرض للقمع الصريح ألا يُعطى لنا، لقصتنا ومظالمنا، أي منفذ، وألا تتاح لها أي مساحة يعتد بها. وليس تطابق هذا تمامًا مع عمى الرواد الصهاينة الذين جاؤوا إلى فلسطين وتجاهلوا -أو تغاضوا عن- وجود شعب آخر هناك سوى جزء من القصة. بل إن هناك الجزء الآخر أكثر قبحًا: الهجمات العلنية التي تُشن في هذا البلد على كل شيء يتعلق بالفلسطينيين -حتى مطالبتهم الحسابية بالاعتراف بوجودهم كبشر. ويمكنني سرد العديد من الأسماء أكثر، على سبيل المثال؛ جوان بيترز Joan Peters [9]، أو ليون أوريس Leon Uris،[10] أو سينثيا أوزيك Cynthia Ozick [11]، أو نورمان بودهوريتس Norman Podhoretz[12]، أو عروض المحاكاة التهكمية العنصرية القبيحة التي تسخر من التاريخ الفلسطيني التي ظهرت في منشورات “كومينتاري”، و”ميدستريم” و”النيو ريبابليك” [13]، لكن الفكرة واضحة بما فيه الكفاية.
بعد العام 1967، وإنما بشكل قاطع بعد حرب العام 1973، عندما أصبحت أميركا الدعامة الأساسية لإسرائيل، أصبح الاختزال الخطابي، والاستطرادي، والأيديولوجي، وكذلك إبطال التجربة الفلسطينية وتحويلها إلى بضعة كليشيهات مروعة أكثر أهمية من أي وقت مضى. وذهبت مقادير ضخمة من المال والأسلحة إلى إسرائيل. وفي الأمم المتحدة، قامت الولايات المتحدة بإيقاف كل انتقاد عادل أو غير عادل لإسرائيل (ليس دائمًا بنجاح). وبلا استثناء تقريبًا، تعلم السياسيون الأميركيون فن تجاهل الحقيقة -تلك الأشياء غير المريحة، مثل قصف مخيمات اللاجئين، أو ضرب المدمرة الأميركية “ليبرتي”، والسلوك القاسي الخارج على القانون الذي تمارسه القوات الإسرائيلية تجاه المدنيين الفلسطينيين العزل، وعمليات المصادرة، والرقابة، والاعتقالات الوقائية، والطرد، والتعذيب، وهدم المنازل، والقتل الذي لا ينتهي- وفي الوقت نفسه استرضاء اللوبي بالمزيد من المساعدات المالية، والمزيد من الثناء على إسرائيل، والمزيد من القلق بشأن ما هو “جيد لإسرائيل”، بغض النظر عن مدى السوء الذي ربما يشكله، ليس للفلسطينيين فحسب، وإنما للأميركيين أنفسهم أيضًا. (يُتبع)
*إدوارد وديع سعيد Edward W. Said (1935-2003) كان أستاذًا فلسطينيًا أميركيًا للأدب في جامعة كولومبيا، ومفكرًا معروفًا، ومؤسسًا لحقل “دراسات ما بعد الاستعمار” الأكاديمي. من كتبه “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية” و”قضية فلسطين”.
*نشر هذا المقال بعنوان: An Open Letter to American-Jewish Intellectuals
هوامش:
- كان هيرتزبيرغ Hertzberg مفكرًا أميركيًا، وناشطًا وحاخامًا محافظًا، قام بتحرير مجلد المختارات المهم، “الفكرة الصهيونية” The Zionist Idea. دعم القضية الصهيونية بينما ظل ينتقد بعض سياسات الدولة الإسرائيلية.
- يشير سعيد إلى “الانتفاضة الأولى”، وهي انتفاضة فلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة بدأت في العام 1987 وكانت مستمرة لدى كتابة سعيد هذه السطور في أواخر العام 1989.
- وصفت صحيفة نيويورك تايمز كريستول بأنه “الأب الروحي للفكر المحافظ الحديث”. كان كريستول مؤسس مجلة المحافظين الجدد The Public Interest.
- في مقاله في صحيفة “وول ستريت جورنال”، يجادل كريستول بأنه، بعيدًا عن جلب السلام في الشرق الأوسط، فإن تسوية سلمية إسرائيلية فلسطينية ستكون بمثابة “مقدمة مضمونة لحرب قد تهز الشرق الأوسط بأكمله”.
- في دورته التي عقدت في تشرين الثاني (نوفمبر) 1988 في الجزائر العاصمة، اعتمد المجلس الوطني الفلسطيني “إعلان استقلال دولة فلسطين” الذي صاغه إدوارد سعيد إلى جانب الشاعر الفلسطيني محمود درويش. وقد نُظر إلى الإعلان على أنه يقدم تنازلات كبيرة، بما في ذلك اعتراف غير مباشر بدولة إسرائيل.
- دعا القرار 242، الذي اعتمده مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العام 1967، إسرائيل، إلى التنازل عن الأراضي التي احتلتها في حرب الأيام الستة. ودعا القرار 338، الذي تم تبنيه في العام 1973، إلى وقف إطلاق النار في حرب تشرين، “يوم الغفران”، وكذلك تنفيذ القرار 242.
- كان ياسر عرفات رئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية من العام 1969 إلى العام 2004، ورئيسًا للسلطة الوطنية الفلسطينية من العام 1994 إلى العام 2004.
- يشير سعيد إلى بيني موريس Benny Morris، وتوم سيغيف Tom Segev، وسيمحا فلابان Simha Flapan؛ الشخصيات البارزة في مجموعة تعرف باسم “المؤرخين الجدد”، الذين تحدوا الروايات الصهيونية السائدة عن تأسيس إسرائيل.
- صحفي جادل كتابه الصادر في العام 1984 بعنوان ”من زمن سحيق” From Time Immemorial بأن الفلسطينيين كانوا مهاجرين جددًا إلى الأرض التي أصبحت دولة إسرائيل، وليسوا مجموعة لها روابط تاريخية عميقة مع المنطقة.
- مؤلف رواية ”الخروج” Exodus الأكثر مبيعًا في العام 1958، التي وصفها ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، بأنها “دعاية” و “أعظم شيء كتب عن إسرائيل على الإطلاق”.
- كان أوزيك Ozick، وهو روائي وكاتب مقالات بارز، صهيونيًا ملتزمًا أيضًا. في مقال نشرته صحيفة وول ستريت جورنال في العام 2003، وصف أوزيك مساهمة الأمة الفلسطينية في العالم بأنها “إرهاب، إرهاب، إرهاب”.
- كاتب ومعلق سياسي شغل منصب رئيس تحرير المجلة المحافظة Commentary من العام 1960 إلى العام 1995.
- طوال عقد الثمانينيات، نشرت كل من هذه المجلات مقالات تصف الفلسطينيين بأنهم إرهابيون يسعون إلى تدمير وطن يهودي. وفي مقال نشر في العام 1986، يشار إلى الادعاءات الفلسطينية باستمرار الاستيطان في المنطقة على أنها “أساطير عربية فظيعة”. وفي العام نفسه، كتب رئيس تحرير صحيفة “نيو ريبابليك” أن “اللاعنف غريب على الثقافة السياسية للعرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص”.
المصدر: الغد الأردنية