(الدنيا دولاب يا أستاذ، يوم إلك ويوم عليك). تلك كلمات أم محمد النازحة من ريف المعرة الشرقي والمقيمة في مخيم الوطن غربي مدينة سرمدا وقد ثبتت بابور الكاز الأصفر بقدميها وهي تدفع الدفاش بهمة ونشاط حتى تحولت ناره إلى اللون الأزرق، ووضعت فوقه إبريق الشاي بعد أن (لقمته) السكر والشاي مسبقًا إحتفاءًا بنا وتابعت حديثها: ” طويلة أيام العز التي مرت على البابور، لم تكن طباخات الغاز متوفرة وكنا نعتمد على البابور في الطبخ والغسيل، وكانت له مقاسات مختلفة، نمرة ١ ونمرة٢ والناس يتفاخرون باقتناء البابور ويعتبرونه مظهر من مظاهر التحضر والتطور التكنلوجي الحديث آنذاك، حيث أن التعامل مع البابور أسهل وأنظف وأسرع من مواقد الحطب وقد أراح النسوة من عناء الحطب وقش الرماد و(الشحوار)، بالأمس وعند المصلح دفعت ٩٠ ليرة ثمن الرأس وجلدة الدفاش وابني علي دفع ٦٠ ليرة ثمن تبديل الدفاش”. في ظل انقطاع الغاز عن الشمال السوري وارتفاع ثمنه في السوق الحرة، عاد بابور الكاز ليتصدّر وسائل الطهي بعد أن تم تنسيقه منذ سنوات طويلة من بيوت السوريين ويودع كأنه تحفة أثرية.
جلسنا أمام خيمة أبي محمد في مخيمهم غرب سرمدا حيث نزحوا إليه قبل سنوات، بعد أن وضعت أمامنا أم محمد إبريق الشاي المغلي على البابور الأصفر، سألنا أبا محمد عن ذكرياته عن البابور فأجابنا بعد أن أشعل سيكارته( اللف) وترك دخانها يتصاعد أمام وجهه:
“البابور كان من ضمن الجهاز الأساسي للعروس إلى جانب القادوس والسَبْت والمرآة المستطيلة، وهذا البابور عمره يزيد عن خمسين سنة وقد أخذته للتصليح عشرات المرات وهو غال علي وأعتبره جزءًا مني ولا يمكن أن أفرط فيه، ظهور البابور أراح النساء من عناء إشعال الحطب والنفخ وجمع الرماد ورائحة الدخان، كما أن كبار السن ما زالوا ينظرون إلى موقد الغاز نظرة شك وريبة دون اقتناع، فالببور صوته شجيّ وهادر بل إنه نغم جميل وموسيقى تطرب الآذان، بل إن البعض كان لايحلو له شرب الشاي المغلي إلا على البابور، والبعض الآخر يفضل نوم القيلولة على أنغام صوت البابور وكأنه مرخي للأعصاب، كما أنهم يضربون له الأمثال لأهميته مثل(فلان خالص كازو)،(صوتو بيهدر متل بابور الكاز)، (الحماية بابور وبنات الإحما نكاشة) ويضرب المثل عندما تتعاون الحماة مع بناتها ضد الكنّة”.
بابور الكاز ذو الأرجل الثلاث يتكون من رأس وجرس وخزان نحاسي أصفر ودفاش وفتحة للتنفيس، ويسمى (البريموس) نسبة إلى مدينة سويدية هي أول من صنعت البابور، وانتشر استخدامه في أربعينات القرن الماضي في المدن ووصل الريف بعد سنوات ليوفر الكثير من الجهد والعناء على ربات البيوت، كما ظهر مؤخرًا بابور الكاز المعدل الذي يملك خزان جانبي ويستغني عن خزان النحاس الغالي الثمن.
في سوق الدانا القديم، بحثنا عن مصلح البوابير، لنجد أبا مرعي (الرجل الستيني) في دكان صغير، يجلس على كرسي حديد أسود ومن حوله عدد من البوابير ومدافئ المازوت، وبعض العُدد وقطع التبديل، سألناه عن مهنته النادرة فقال: “هي مهنة أجدادي وأنا ما زلت أعمل بها منذ الصغر، وقد خفّ التعامل بالبوابير منذ سنوات لتعود الآن بعد انقطاع الغاز، بيع النكاشات وتبديل جلدة الدفّاش هي أكثر الأعطال، حيث تستعمل لنكش الفالة عندما تتقطع نار البابور ويستخدم الدفاش لزيادة ضغط على الوقود ولزيادة قوة النار، ومن الأعطال الأخرى أن البابور(يهبهب ويشحور) أو الطربوش مهترئ أو أن رأسه بحاجة إلى النفض أو تغيير جلدة الدفاش، وقد زادت الأعطال مؤخرًا لغياب الكاز واستعمال المازوت في البابور بعد إضافة كمية من البنزين ليساعد على الإشتعال ” وعن بعض المواقف التي مرت به خلال عمله في صيانة البوابير، قال: لن أنسى تلك العجوز التي جاءتني ذات صباح وهي تحمل بابورها وكأنها تحمل طفلها، وعندما سألتها عن سر اهتمامها به، شعرت وكأنني فتحت عليها جروح الماضي وراحت توصيني بالإهتمام به واختيار القطع الأصلية وقالت أنه عزيز على قلبها وهو من ذكريات الماضي الجميل وأنه من جهاز عرسها”.
أبو عبدو مدير مخيم الناصر القريب من مدينة الدانا أوضح لنا أن بوابير الكاز والمواقد الطينية والمدافئ التي تعمل على روث الحيوانات تعد من أبرز الوسائل التي يعتمد عليها سكان المخيمات في إدلب بعد أن بلغ سعر أسطوانة الغاز المنزلي 13.13 دولار مع عدم توفره، وقد تشهد أسعار الغاز والمحروقات في الشمال السوري ارتفاعات متلاحقة مرتبطة بانخفاض الليرة التركية، مع ما يرافق ذلك من أخطار الحريق وتلوث الجو بالدخان المنبعث من تلك المواقد.
يذكر أنه ومنذ بداية العام الحالي، أخمدت فرق الإطفاء في “الدفاع المدني السوري” العديد من الحرائق التي نشبت في أكثر من مخيم نتيجة استخدام بابور الكاز ومواقد الحطب في الخيم أو بالقرب منها، وذهب ضحية تلك الحرائق العديد من الأطفال وتشوه العدد الأكبر، حيث أعلن الدفاع المدني السوري في أحدث إحصائية له أن أكثر من 450 حريقًا نشب في شمال غربي سورية، من بينها 237 حريقًا في منازل المدنيين، و78 حريقًا في مخيمات النازحين وأغلبها نتيجة استخدام مواقد الطهي والتدفئة غير الآمنة والتي أرغمتهم ظروف النزوح على استخدامها بعد أن ضاقت بهم الدنيا بما رحبت.
المصدر: إشراق