لو طلب مني اختيار ثلاثة من أهم رجالات الحركات القومية العربية في مطلع القرن العشرين لما ترددت في اختيار عبد الحميد الزهراوي كواحد منهم إن لم يكن في مقدمتهم .
فعبد الحميد الزهراوي كان مفكرا وسياسيا , وقلة هم من يجمعون بين الفكر والسياسة , كان متفتح الذهن , مستعدا لمراجعة الأفكار السائدة , عقلانيا , معتدلا , متواضعا , عميق الانتماء , شديد الاخلاص , جلدا في متابعة الهدف .
شد انتباهي برسالته إلى رفاقه في جمعية اللامركزية في مصر التي كان هو في زعامتها مع رشيد رضا حين جاء استانبول من باريس بعد انتهاء مؤتمر باريس للحركات القومية العربية غام 1913 , وقد كان رئيس المؤتمر وواحدا من أهم القيادات التي نظمته ووضعت مقرراته .
يقول في رسالته : ” : ” الإتحاديون هم أولياء الأمر مباشرة , وهم اليوم يتسلحون بعزائم شديدة ماضية , وناوون نية قاطعة أن يجددوا شباب الدولة بقدر ما تسمح به الظروف , ويشتهون أن يخلص إليهم العرب وأن يساعدهم فضلاؤهم في هذا السبيل , ويعترفون بخطيئاتهم الماضية , ويودون أن لايعودوا لمثلها قدر الإمكان , أنا مؤمن بنياتهم وأقوالهم هذه كل الإيمان لأدلة كثيرة ظهرت لي , ولكنني مرتاب من جهة قابليتهم لتطبيق العمل على النية , وعلى كل حال أرى أن عدم تركهم وحدهم خير من تركهم , ويرجى أن تقوى شوكتهم ..”
كتب ماسبق ضمن رسالته الطويلة لرفاقه في جمعية اللامركزية ومقرها مصر , بعد اجتماعات مطولة مع أبرز قادة الاتحاد والترقي في استانبول بمن فيهم أنور باشا وطلعت بيك ,
هذا المفكر السياسي الذي ترأس مؤتمر باريس للجمعيات العربية التي أعلنت اعتراضها على سياسة الاتحاديين في التتريك والتعصب القومي التركي , ورفعت مطالباتها بصورة علنية ومنسقة لأول مرة , لم يقطع مع حكومة الاتحاديين , بل ذهب إليهم وحاورهم بعقل مفتوح , وكتب إلى زملاءه قناعته المستجدة بتوجهاتهم , ولم أجد لدى غيره ممن عارض حكومة الاتحاديين من العرب مثل ذلك الصبر والعقلانية والبحث المخلص عن الحلول السياسية وسط تصاعد ردود الأفعال ضد الدولة العثمانية في أوساط المثقفين العرب , خاصة اللبنانيين الذين كانوا يدفعون منذ وقت مبكر الحركات القومية العربية نحو فكرة الاستقلال التام عن الدولة العثماني ومنهم من يريد استبدالها صراحة بوصاية فرنسية .
مع ذلك فهؤلاء المتشددين كانوا عاجزين عن قيادة الحركات القومية العربية وظهر عجزهم في مؤتمر باريس , بينما ظهر تصميم عبد الحميد الزهراوي وقدرته السياسية والادارية , وربما لم يستطع مؤتمر باريس التوصل لقرارات مثلت المطالب العربية لولا نشاط وفعالية الزهراوي .
يقول الزهراوي في مكان آخر من الرسالة السابقة الآتي : ” كنت قد فصلت لكم إذ جئت باريس كيف وجدت أمر مؤسسي فكرة المؤتمر فوضى , وكيف تعبنا في ستر الأمر وإيجاد المؤتمر , وبعد انقضاء المؤتمر تفرق الجمع الذي لفق تلفيقا , ثم بعد قليل نفد صبر البيروتيين , فذهبوا إلى بلادهم عن طريق استانبول , وبقيت ياعزيزي وحدي أمثل الفكرة ( يخاطب رفيقه في اللامركزية رشيد رضا ) ….ولوتعجلت في تلك الأيام وذهبت على الفور إلى مصر لبقيت المسألة مقطوعة بتراء , فيكثر استهزاء الأفراد والجماعات والأقوام بأشخاصنا وبجماعتنا وقومنا , لكن الله عز وجل سلمني من هذا , وقدرني على الصبر هناك ممثلا للفكرة مدة خمسة أشهر “
وهنا يشير الزهراوي إلى أن المؤتمر كان بحالة فوضى وكان يمكن أن يفشل لولا جهوده الكبيرة , وأنه بعد انتهاء المؤتمر كان هناك عمل واسع لتسويق نتائج المؤتمر ونشر تلك المقررات في أوربا والعالم , وإلا لايكون للمؤتمر تلك القيمة السياسية , ويبدو واضحا من الرسالة أن ذلك الجهد قد وقع على عاتق الزهراوي شخصيا فلم يتأخر ولم يتخاذل وبقي في الساحة وحيدا حتى شعر أن مهمته قد اكتملت .
ومن المعروف أن الدولة العثمانية أوفدت إلى باريس من يجتمع بأركان المؤتمر وجرت مفاوضات بين الطرفين وتم الاتفاق بعدها على جملة إصلاحات كحل وسط بين مطالب المؤتمر ومطالب حكومة الاتحاديين .
عقب ذلك وبعد إعلان الحرب العالمية وجدت الدولة العثمانية وهي في حالة حرب أن من الضروري تجميد برنامج الاصلاحات واستبداله بحزمة إجراءات صغيرة لإرضاء العرب ومن ذلك أنها عينت عبد الحميد الزهراوي في مجلس الأعيان .
تردد الزهراوي كثيرا في الموافقة واستشار أركان حزبه في مصر ثم وافق على أن يحاول توسيع تلك الإصلاحات المحدودة فإذا لم يتمكن فسوف يستقيل من منصبه كما اتفق مع حزبه حزب اللامركزية .
لكن القدر عاجل الزهراوي , فبعد إعلان الحرب العالمية أرسلت حكومة الإتحاديين جمال باشا حاكما لبلاد الشام , وهناك ارتكب جمال باشا جرائمه بحق رجال النهضة العربية في بلاد الشام بمحاكمتهم بمحكمة عسكرية في عاليه بلبنان وإعدامهم .
وأكبر تلك الجرائم وأشدها قباحة واستنكارا كانت جلب عبد الحميد الزهراوي من مجلس الأعيان في استانبول إلى عاليه ثم إعدامه . وهكذا انتهت حياة تلك القامة العالية التي يحق لحمص الإفتخار بها كما يحق لبلاد الشام وكل العرب .
المصدر: صفحة معقل زهور عدي