العنف السياسي وأنماطه في ضوء الحرب السورية

حليم الصالح 

مقدمة

تعود جذور ظاهرة العنف السياسي في سورية إلى مرحلة الانقلابات العسكرية، واستمرّت في التشكّل إلى أن أصبحت ممارسة منهجية في عهدي الدولة الأسدية، وقد أطبق الاستبداد على مختلف نواحي الحياة، وتجلّى ذلك من خلال احتكار السياسة، وممارسة العنف ضد المعارضين، وشمل ذلك الملاحقة والاعتقال والتهجير والحرمان من العمل السياسي والوظيفي، وغيرها.

من جهة ثانية، لم تستمر الثورة التي اندلعت في عام 2011 سلميةً، لعوامل مختلفة، وآلت الأمور إلى انتشار هذا الكمّ غير المسبوق من العنف المتبادل والتطرّف، بحيث تحققت قفزة نوعية وصلت إلى حدّ التوحش، وذلك تبعًا لما يمتلكه كلّ طرف من إمكانات وأدوات. وقد “أصبح العنف في هذه الثورة/ الحرب قوة اجتماعية قائمة بذاتها، لا أداةً من أجل تحقيق أهداف سياسية معلنة”[1]. وتراوحت درجات العنف بين القتل الممنهج والاعتقال والتغييب، وشارك فيه، علاوة على النظام، جميع قوى الأمر الواقع المهيمنة في المناطق الخارجة عن سيطرته.

وهكذا، عرف السوريون أشكالًا ومستويات من العنف السياسي لم يعرفوها سابقًا، بل إنها لم تكن متوقعة من السوريين وغيرهم، حيث يعرضها مرتكبوها، بلا أدنى شعور بالذنب، وبعيدًا عن حالات الدفاع عن النفس. وكان ذلك، أيضًا، نتيجة لثقافة مجتمعية لم تخلُ يومًا من العنف، الذي اخترق جدران المنازل ليفرض نفسه بقوة على العلاقات حتى بين أفراد الأسرة الواحدة.

يستعرض هذا المقال، بإيجاز، العوامل التي أسهمت في تصاعد وتيرة العنف السياسي، وأنماطه التي أفرزتها أو عززتها الحرب السورية، أو في سورية، من ضمن أشكال أخرى من العنف، كالعنف الاجتماعي والمعيشي.

أولًا– عوامل تصاعد العنف السياسي

لم تتطور الحالة السياسية شبه الديمقراطية التي بدأت إبان الانتداب الفرنسي، وبعد الاستقلال، إلى حالة من تعزيز النظام الديمقراطي، وتحديد دور واضح للعسكر في مؤسسة الحكم الوليدة، ما زرع بذور الاستبداد، الذي أصبح في حكم المهيمن على المستوى السياسي، في مرحلة الوحدة مع مصر، وبعد انقلاب عام 1963، إلى أن ترسّخ بعد انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في حزب البعث عام 1970. وترافقت المراحل السابقة بدرجات معينة من العنف السياسي، لكن احتكار السياسة في عهد الوحدة، وفي العهدين الأسدين على نحو خاص، أفضى إلى “تفاقم ظاهرة العنف السياسي وتعدد أنماطها، طوال ثلاثة عقود تميزت باضطهاد المعارضين والتنكيل بهم”[2]. ومع انطلاق تظاهرات 2011، اتسع نطاق العنف الذي مارسته السلطة لقمع التظاهرات السلمية، و”إثر عسكرة الثورة، تفاقمت أعمال العنف، ووصلت إلى مستويات لم يسبق لها مثيل، من جراء لجوء طرفي النزاع إلى ارتكاب أخطر الجرائم في حق المدنيين السوريين، وفي حق بعضهم تجاه بعضهم الآخر”[3].

في البحث عن العوامل التي أفضت إلى انتشار العنف السياسي وتصاعده إبان الثورة، بعد مرحلة وجيزة من التظاهرات السلمية، نجد أن الأمر يتعلق بهدف اندلاع الاحتجاجات، التي لم ترفع شعارات مطلبية، كغلاء الأسعار، إنما رفعت شعارات سياسية واضحة تتعلق بالحرية والكرامة، وصولًا إلى شعار إسقاط النظام، وإهانة رموزه.

ولأسباب عديدة، يضيق الحديث عنها في هذا المقال، لم تُتح للثورة الشعبية تلك النخب السياسية التي كان عليها مهمة ترجمة مطلب الحرية والكرامة إلى برنامج سياسي وطني واضح، للمضي قُدمًا نحو عقد سياسي ديمقراطي جديد.

ويمكن إيجاز العوامل المساهمة في تعزيز العنف السياسي بالآتي:

احتكار النظام السوري للسياسة والاستثمار في العنف

بعد فترة من الاضطرابات السياسية عقب الاستقلال، تحولت معظم الأنظمة العربية إلى دكتاتوريات عسكرية. وفي هذا السياق، حدثت تحولات الحكم السوري، الذي اتبع نوعًا من القسوة عديمة الرحمة تجاه معارضيه؛ لطبيعته الاستبدادية من جهة، ولوجود أكثر من سبب يهدد مشروعيته من جهة ثانية. فـ “حين تكون السلطة أكثر إصرارًا على استخدام العنف، فهذا لا يعني أبدًا أنها الأقوى دومًا، ولكن تجسيدها للعنف من الممكن أن يكسر مقاومة الخصم، فيضطر للرضوخ”[4].

في نهاية العقد الأول من حكم الأسد الأب، اكتمل بناء نظام سياسي شمولي احتكر العمل السياسي، إلا ما يتوافق مع سياساته ويمرّ في قنوات مصالح أولغاريشيته الحاكمة والمرتبطين بها. وتكفلت الأجهزة الأمنية بتطبيق سياسات النظام المتمثلة بكمّ الأفواه، والتضييق على الحريات، وإغلاق منافذ التفكير المستقل. في هذه الأجواء، كان لا بد أن تتزايد مسببات الاحتقان حتى حدوث الانفجار في نهاية المطاف، ولا سيّما أن النظام كان قد أهدر كثيرًا من الفرص لتنفيس الضغوط الاجتماعية، وأهمّها المرحلة الانتقالية بين حكمي الأسدين الأب والابن وربيع دمشق المصاحب. ثم قاد التخبط في السياسات الاقتصادية والاجتماعية لاحقًا، على خلفية استمرار القمع وتحكم الأجهزة الأمنية، إلى توافر الشروط المناسبة لاندلاع الاحتجاجات في شهر آذار/ مارس 2011.

لقد استثمر النظام في كل ما يفرّق قوى المجتمع ومكوناته، بصورة غير معلنة ومغطاة بالشعارات القومية، ومن ذلك مختلف المظلوميات، لكن ذلك لا يفسّر إلا جانبًا واحدًا من العنف السياسي الذي مارسه النظام الشمولي ضد معارضيه، وقد كان ضحاياه، طوال عقود، من جميع الأطياف السياسية، ومن مختلف الانتماءات، وتناسبت درجات القمع مع نوعية المعارضة السياسية وأساليبها المتّبعة. وكان استثمار بعض الجهات المعارضة في العنف الديني عاملًا لتبرير ممارسات النظام القمعية، ونشر بذور العنف في أرضية ثقافية مشبعة بالمظلوميات[5]. وكانت مصلحة النظام والجهاديين الإسلاميين قد تلاقت في العمل ضد المحتل الأميركي في العراق[6]. ثم عاد النظام لاستخدام هؤلاء مرة أخرى، بعد الإفراج عنهم في بداية الثورة، لتحويلها من السلميّة إلى الأسلمة والعنف، وقد نجح في رهانه، مع الأسف.

عنف النظام ضد المتظاهرين في العام 2011

في بداية التظاهرات، كان التحدي الأساس بالنسبة إلى السلطة هي أن تبقى متماسكة، فهذا ما يجعلها تصمد لأطول فترة ممكنة، ريثما يتدخل الحلفاء، وكانت قد عملت في الداخل على تكريس نظام الاستزلام والإفساد والمحسوبيات، فضلًا عن تمكين نواة صلبة متحكمة، أمنيًا وعسكريًا. إن الأمر المهم في الصراع بين السلطة والثورة لم يكن في مقدار ما تملكه السلطة من أدوات القمع، إنما بالرهان على أن تتفكك السلطة وأجهزتها أم لا، وتنتقل وسائل العنف من يد إلى يد، بأسرع ما يمكن[7].

انطلاقًا مما سبق، تصرفت السلطة بمنطق لا دولاتي، واستخدمت كل الوسائل العنفية المتوافرة لوقف الحراك الشعبي، حتى القتل والتعذيب والاغتصاب، وإعطاء مزيد من الصلاحيات لجهات غير رسمية، كالشبيحة ومجموعات الدفاع الوطني[8]. وضع عنف النظام المتظاهرين أمام خيارات صعبة ومفتوحة على كل الاحتمالات السيئة، ودعم وجهات النظر التي كانت تقول بضرورة الانتقال نحو التسلّح والردّ بعنفٍ مقابل.

إن إعطاء الصلاحيات باستخدام العنف بدون رادع يُثبط آليات الكبح الاجتماعية، فلا يكون ثمة مسافة بين حالة الغضب والفعل العنيف، ولا يعود الشخص يخاف من دفع الثمن من جراء ممارسة العنف بعد دخوله في حالة الغضب، وهذا ما يحدث في الحروب الأهلية، حيث تصبح الفرصة ملائمة للقيام بأفعالٍ عنيفة قد تصل إلى درجة التوحش والبربرية، وخصوصًا إذا سمحت الجهة المتبنية للعنف لأفرادها في التمادي بممارساتهم العنفية، كما في الحالة السورية، حيث فككت الدولة نفسها لتتحول إلى عصابات من أجل مواجهة العنف المقابل، بعد أن استدعته الخطة الأمنية للنظام.

صعود الإسلام السياسي

أحدث عنف الجماعات الجهادية الجديدة موجاتٍ من الذعر بين الأقليات الدينية على نحوٍ خاص، وسرّع من وتيرة اصطفافها إلى جانب النظام، راضيةً أو مكرهة، ما ساعد على تبلور جبهتي صراعٍ، بعيدًا عن المصالح المشتركة للسوريين في التغيير الديمقراطي، فكان من نتائج ذلك أن تحوّلت الجهات الدولية للتعامل مع الحدث السوري، انطلاقًا من كونه قد أصبح صراعًا أهليًا، لا ثورةً ضد الاستبداد.

وبينما كانت السلطة المستبدة تحضِّر لممارسة العنف السياسي ضد معارضيها من خلال تخوينهم، وصل الأمر بمعارضي النظام من الجماعات المتطرفة، كجبهة النصرة وتنظيم داعش، إلى ممارسة العنف السياسي بلبوسه الديني، كالتكفير وتبرير التصفيات الجسدية على هذا الأساس، فـ “من بين مختلف أشكال العنف، يعتبر العنف الديني من أكثر أشكال العنف دموية ورعبًا، لأنه يتستّر بالمقدس ليصل بالعنف إلى درجات عالية من التوحش، وفرض رؤى مذهبية معينة على باقي الطوائف أو الأديان الأخرى”[9]. وباعتبار أن ذلك يُعدُّ غير مقبول، عند الرأي العام العالمي على الأقل، فقد وفّر الظروف المناسبة للسلطة من أجل ممارسة العنف على أوسع نطاق، ضدّ جميع معارضيها.

إن “المشكلة مع العنف السياسي – الديني الذي تمارسه الجماعات المنتسبة إلى الإسلام هي أنها تسعى لشرعنته عبر زجه تحت مفهوم الجهاد”[10]، وقد وسع المتشددون الإسلاميون مفهوم الجهاد، ليشمل العالم الخارجي والأنظمة والمجتمعات، وهو ما يصعب قبوله ضمن مفهوم الجهاد وضوابطه، كما ورد في أدبيات الإسلام. لكن، قبل إدانة الجهاديين، لا بدّ أن نرى الواقع المعقد الذي ساهم في تسويغ توسعة مفهوم الجهاد؛ الاستبداد والفشل التنموي وعجز المجتمع الدولي عن تحقيق حلول عادلة لكثير من القضايا، وحلُّ النزاع في سورية واحدٌ من أهمها.

يصل العنف الديني إلى ذروته في عمليات التفجير الذاتي، إذ يحاول الإرهابي “إبراز معنى لقضيته، وهو إضعاف الخصم والسيطرة عليه وقتله”[11]. وإن عودة مثل هذه العنف ذي الطابع المقدس يمثل نكوصًا في تطور الميثولوجيا الدينية، ويمكن أن نرى في سلوك تنظيم داعش في القتل الاحتفالي مثالًا عليه، ولو أن ثمة عمليات قتل أخرى قد تستبطن ذات الوحشية، ولكن بطريقة مواربة، كما في مجزرة حيّ التضامن بدمشق[12]، التي نفذها عناصر الأمن العسكري التابع للنظام.

دور العامل الخارجي

اندلعت أحداث الثورة السورية في فترة سادت فيها مناخات الصراع السني – الشيعي في المنطقة، ومع أن “ديناميكيــة التطــرف هــذه لهــا جــذور محليــة، فإنهــا فــي الوقــت نفســه تنبــع من التنافــس الجيوسياسي الأكبــر الــذي يضــع المملكــة العربيــة الســعودية فــي مواجهــة إيــران”[13]. ونجم عن استعانة النظام بـ “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني من أجل قمع التظاهرات ردة فعل تمثلت بدعم أوساط دينية خليجية متشددة للجهاديين الإسلاميين، وفُتحت الحدود أمام الجهاديين من بعض دول الجوار، للوقوف في وجه التمدد الإيراني وميليشياته. أما الجهود الدولية فقد عملت على غض النظر عن تدفق المقاتلين والأسلحة إلى طرفي الصراع، وجرى التركيز، عوضًا عن ذلك، على منع انتشار العنف خارج سورية، وتركه يستعر في الداخل[14].

دور العامل التاريخي واستغلال المظلوميات

لم تكن الجذور الثقافية للعنف السياسي غائبة في سورية، وفي مختلف الثقافات، خاصة ما يتعلق بسرديات المظلوميات التاريخية المتبادلة، التي ما كان لها أن تستيقظ أو تُستثمر لو بقيت التطورات السياسية في سورية، منذ تأسيسها في نهاية الحرب العالمية الأولى، وخاصة بعد الاستقلال، تسير في مسار دستوري ديمقراطي، فقد انقطع هذا المسار بوصول العسكر للسلطة، وظهرت المسألة الطائفية كأفعال وردات فعلٍ متبادلة بين السلطة (ممارسات سرايا الدفاع على وجه الخصوص) والإخوان المسلمين منذ السبعينيات، وما رافقها من تعزيز لعلونة السلطة في الجانب الأمني بصورة خاصة، قابلها تصعيد في خطاب الإخوان الطائفي وتبنيه لمظلومية السنة الحديثة.

في تبادل الاستثمار في المظلوميات، المُعلن والمسكوت عنه، وجد كثير من السوريين أنفسهم في جبهتين متقابلتين، يحملون هويات لا خيار لهم بها، وتُختصر كلّ شخصياتهم، حتى الهوية التي قد لا يؤمن بها حاملها تحولت إلى وشم، مع أن التباين واسع بين الأشخاص، وتفكير مسلمٍ ما لا يتطابق وتفكير مسلم آخر، وينطبق ذلك على كل الانتماءات، فـ”من المحتمل أن يتخذ مسلم ما نظرة متشددة ضد الهرطقة أو الفكر، ويكون آخرُ غيره شديدَ التسامح، من دون أن يكون ذلك سببًا في فقدان أيٍّ منهما لإسلامه[15]“.

لكن التصنيف في الحروب الأهلية يُختصر إلى أبسط حالاته، وتصبح الهويات قاتلة ومقتولة وحسب. وإن “وراء دعم الوحشية الفظة يوجد أيضًا اضطراب مفاهيمي حول هويات الناس، يحول البشر متعددي الأبعاد إلى مخلوقات ذات بُعد أحادي”[16]، وإن “العواقب يمكن أن تكون مريعة، لتصنيف الناس بناءً على تصنيفات منفردة تُنسج حصريًا حول الانتماءات الدينية”[17]. على العموم، إن أي تصنيف للإنسان، بالتركيز على جانب واحد من شخصيته أو أحد انتماءاته، هو انتهاك لإنسانيته في نهاية المطاف، وحشره في الزاوية، ما يسهل إيذاءه معنويًا أو ماديًا.

ثانيًا- أنماط العنف ذي الخلفية السياسية في الحرب السورية

نمط القتل الجماعي الممنهج

دشنت ميليشيات النظام أبشع الممارسات العنفية في أثناء الثورة، إذ وصلت إلى حد القتل الجماعي للمدنيين في مجازر متنقلة من منطقة إلى أخرى، بهدف كبح إرادة المتظاهرين. وحين تحولت الثورة إلى حرب، صار القتل الجماعي للعسكريين والمدنيين ممارسةً معتادة عند الأطراف كافة، كتنظيم داعش والمنظمات التي تنتمي لتنظيم “القاعدة” أو القريبة منها، ثم باقي قوى الأمر الواقع المسلحة. وهكذا “ارتكب المتحاربون أبشع أشكال جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وذلك بحق المدنيين والعسكريين العاجزين عن القتال على حد سواء”[18].

وكان النظام سبّاقًا لارتكاب المجازر الجماعية، بسبب تعرُّض سلطته للخطر، ذلك لأن “كل انحطاط يصيب السلطة إنما هو دعوة مفتوحة للعنف”[19]، وما إن ترى جماعة بأن السلطة تفلت من أيديها حتى يغريها استخدام العنف، وهذا ما فعلته جماعة النظام بعد اندلاع الاحتجاجات. لقد “كان العنف الوحشي ثمرة قاتلة لجهود متضامنة، في حين شكل الدعم الخارجي إطارًا خارجيًا مذهبيًا، سنّيًا – شيعيًا، لصراع داخلي أُريد له أن يتحول إلى صراع سنّي – علويّ، عوضًا عن ثورة شعبية ضد الاستبداد”[20].

ولم يقتصر القتل الجماعي على ساحات التظاهرات أو الحرب، حيث يشير تقرير لمنظمة العفو الدولية إلى “أن الكثير من المحتجزين لدى الحكومة قضوا نحبهم بأعداد كبيرة، جراء ما قاسوه من تعذيب وظروف اعتقال لا إنسانية، وأن ما لا يقل عن 17723 شخصًا قُـتلوا في الحجز لدى الحكومة، خلال الفترة ما بين آذار/ مارس 2011 وكانون الأول/ ديسمبر 2015”[21]. وهو رقم متواضع بالطبع، ومعظم هؤلاء كان المدعو قيصر قد صورهم قبل دفنهم. ومهما تكن أسباب الموت في أماكن الاحتجاز والمعتقلات، فهي تثبت مسؤولية السلطات عن الموت؛ بسبب التجويع والتعذيب والظروف اللاصحية واللاإنسانية.

وأشارت منظمة العفو الدولية إلى أن “جماعة (جبهة فتح الشام) وغيرها من الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة قد ارتكبت، في سياق احتجاز الأشخاص، جرائم حرب مثل القتل العمد والتعذيب وغيرها من ضروب المعاملة السيئة، بينما ارتكب تنظيم الدولة جرائم ضد الإنسانية، من قبيل القتل العمد والتعذيب. مع الإشارة إلى أن السلطات السورية قد قامت بارتكاب الغالبية العظمى من الانتهاكات، منذ عام 2011”[22].

نمط الاعتقالات والاعتداءات الجنسية

الاعتقال غير القانوني هو عمل عنفي بحد ذاته، وقد مُورس بصورة اعتباطية وغير مسؤولة منذ عقود، عن طريق “زوار الفجر”، أو من خلال قيام الأجهزة الأمنية باستدعاءات المطلوبين تحت التهديد. وتشير تقارير منظمة العفو الدولية إلى اختفاء 17 ألف شخص في سورية، بين عامي 1980 و2000، ولا يقارن هذا العدد بما حصل بعد اندلاع الاحتجاجات عام 2011، حيث تم احتجاز واعتقال عشرات الآلاف على الحواجز وخلال المداهمات، وشمل ذلك المتظاهرين السلميين وأعضاء منظمات حقوق الإنسان، وباختصار، كلّ من يعارض النظام. وقد وثقت دراسة أجرتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان “اعتقال واختفاء 131 ألفًا و469 شخصًا، بينهم 3621 طفلًا و8037 امرأة، منذ شهر آذار/ مارس 2011 حتى شهر آب/ أغسطس 2021”[23].

إن أبلغ وصفٍ لظروف اعتقال المطلوبين واحتجازهم يمكن استخلاصه من شهادات الضحايا الذين تعرضوا لهول الممارسات العنفية في أثناء الاحتجاز والاعتقال. وقد نشرت (بي بي سي) تقريرًا لمنظمة “اليوم التالي”، توثق فيه شهادات الناجين، لاستخدامها كدليل محتمل في محكمة الجنايات الدولية. في هذا التقرير، تحدث أحد الناجين عن مشاهداته لحالاتٍ تم فيها اغتصاب الأطفال، ووصفت امرأة مشاهداتها لآثار التعذيب على أجساد النساء اللواتي يشاركنها زنزانة ضيقة تعجّ بالفئران والقمل، وكانت أصوات التعذيب الصادرة عن زنزانات أخرى وسيلة تعذيب إضافية، كما روت معتقلة أخرى. ولا تنتهي معاناة السجينات والسجناء بعد خروجهم من السجن، فقد أشارت إحدى المعتقلات إلى أن أكثر ما آلمها هو تخلي زوجها عنها، بعد خروجها من السجن. كما تستمر معاناة المعتقلات والمعتقلين عند اللجوء إلى بلدان الجوار، وتنتهي فقط عند وصولهم إلى أوروبا”[24].

كما يتدرّج العنف الممارس في المعتقلات من العنف اللفظي وحتى الاعتداءات الجنسية الصريحة، سواء على الرجال أو النساء أو الأطفال، الذين يكونون في أضعف حالاتهم في المعتقلات والسجون. حدث ذلك في سورية قبل الثورة والحرب، ووصل إلى درجات أكثر وحشية في أثنائها، ومن ذلك إلغاءُ شخصية السجين واستبداله برقم. كما مُورس العنف الجنسي ضد النساء على نطاقٍ واسع، ووصل إلى حد الاغتصاب الممنهج. وحسب المنظمة السورية لحقوق الإنسان/ سواسية، كان ثمة ثلاثة أنماط للعنف الموجه ضد النساء: التعذيب والاعتداء الجنسي في الأفرع الأمنية؛ العنف الجنسي في السجون والمعتقلات؛ التعذيب في أماكن الاحتجاز غير النظامية. وقد تعرضت النساء للعنف النفسي (شتم وإهانات بألفاظ نابية والتهديد بالاغتصاب والتهديد بالقتل والتصفية الجسدية)، والعنف الجسدي (الضرب باليدين والقدمين والصفع والضرب بالكبل والعصا والشبح والرشق بالماء الساخن وقلع الأظافر، وغيرها)، والعنف الجنسي (الاغتصاب والتحرش والتهديد بالخازوق والاغتصاب الجماعي والاغتصاب على الحواجز)[25].

وارتكبت باقي أطراف الحرب في سورية ممارسات مشابهة ضد النساء، وإن كانت أقل حدة وشموليةً، باستثناء ما قام به تنظيم داعش، الذي “شرعن” سبي النساء وبيعهن، بدعوى الكفر، أو ممارسة “جهاد النكاح” مع عضوات التنظيم، وما نتج عن ذلك من مآسٍ اجتماعية وأطفال بلا قيود، مذكرًا بأسوأ ما حدث لهنّ في التاريخ”[26]. لقد تحول العنف عند داعش إلى نوع من الطقوسية الرمزية، حيث “يعتبر القتل/ الذبح استعادة لمرحلة غابرة، كان يتم فيها التضحية بالإنسان، وقد استُبدل بالحيوان في مرحلة لاحقة. ويحتاج الانخراط في العنف بهذا المستوى إلى “حملات التحريض الدينية وغسل الدماغ وحبوب الهلوسة وذوبان الشخصية في الآخر” [27].

من جهة ثانية، “لم يكن تمدد تنظيم داعش بهذه السرعة والسهولة بمحض الصدفة، لو لم يلاقِ تقبلًا من البعض، الذين ما زالت تدغدغ عواطفهم مسألة استعادة الخلافة، والقائلين بأن الغرب هو مصدر الشرور والمصائب، وبخاصة بعد فشل المشاريع التنموية وطغيان الاستبداد”[28]. لقد استطاع هذا التنظيم الإرهابي إقناع مؤيديه بأن “الأعمال الوحشية التي يقومون بها هي من أجل غايات نبيلة، إلى أن انكشفت سياساته ضد حاضنته الشعبية، التي دفعت ثمن غلوّه في التضييق على الحريات وأنماط الحياة” [29].

 وإذا كان القتل هو بمنزلة الخلاص، فإن ضحايا العنف الجنسي يعانون من “انتهاك استقلال الذات وانتهاك حرمة الجسد الأساسية لمدة طويلة، كما ينشأ عندهم ازدراء للاستقلالية والكرامة، يتضاعف مع الخجل والشك”[30].

خاتمة

تكمن أسباب العنف السياسي الذي مارسه النظام السوري، قبل ثورة 2011 وبعدها، في احتكار العمل السياسي ووسائل الإعلام، وبالتالي ملاحقة واعتقال المعارضين السياسيين، وتحويل البعض إلى محاكم استثنائية تحت مسمى “مكافحة الإرهاب” والتعامل مع الخارج.. الخ. كما قامت الجماعات الأخرى، التي عُنفت وحُرمت من الوصول الى مكانة اجتماعية في وطنها، بممارسات عنفية مضادة، وصلت إلى تبني منظومة فكرية وسياسية واجتماعية خاصة بها، ووضعت أسيجة قاتلة مع الآخر المختلف معها. وتحولت التوازنات التي حكمت العيش المشترك إلى شكوك عدائية في فترة وجيزة، وهذا ما حرّضت عليه القوى الأمنية للنظام، منذ بدء التظاهرات في شهر آذار/ مارس 2011، وتابعته القوى المتأسلمة بشغف ملحوظ. كما تقتضي مواجهة ثقافة العنف مصارحة شاملة حول جذور مختلف أشكال العنف السياسي وكيفية الحد منها، والحيلولة دون تجليها كثقافة اجتماعية تعيد إنتاج ذاتها. فـ “إن المشاكل في المجتمعات لا تستطيع أن تجد حلولًا فعالة لها، إذا تم إخفاؤها خلف جدران من النكران. ولا بد من القطع مع المنظومات الأيديولوجية الدينية والقيمية (الأعراف والتقاليد) والسياسات الشمولية التي تشرعن العنف أو تجد التبريرات الزائفة لممارسته، ومحاسبة المجرمين الكبار، والحيلولة دون إفلاتهم من العدالة، فضلًا عن تجاوز الأسباب العميقة للعنف من خلال إجراءات دستورية وقانونية.

المراجع

  • أرندت، حنة. في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، ط1، دار الساقي، 1992، بيروت، لبنان.
  • الحيدري، إبراهيم. سوسيولوجيا العنف والإرهاب: لماذا يفجر الإرهابي نفسه وهو منتش فرحًا، ط1، بيروت، دار الساقي، 2015.
  • الخطيب، معتز. العنف المستباح: “الشريعة” في مواجهة الأمة والدولة، ط1، القاهرة، دار المشرق، 2017.
  • بشارة، عزمي. سورية: درب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.
  • صن، أمارتيا. الهوية والعنف: ترجمة سحر توفيق، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، العدد 352، 2008.
  • لوفيفر، رفائيل. العنف الطائفي في سورية؛ ضغائن قديمة أم فرّق تسد؟ ترجمة مصطفى الفقي، معهد العالم للدراسات، 2017.
  • مجموعة من المؤلفين، إعداد وتنسيق محمد جمال باروت وأحمد حسين: العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة: مقاربات سوسيولوجية وحالات، ط1، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.

[1] العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة: مقاربات سوسيولوجية وحالات، (مجموعة من المؤلفين، إعداد وتنسيق محمد جمال باروت وأحمد حسين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، بيروت 2017)، ص 188.

[2] المصدر السابق، ص 18.

[3] المصدر السابق، ص 18.

[4] إبراهيم الحيدري، سوسيولوجيا العنف والإرهاب: لماذا يفجّر الإرهابي نفسه وهو منتش فرحًا؟ (بيروت، دار الساقي، ط1، 2015). ص 129.

[5] تراوحت وسائل النضال ضد النظام الاستبدادي من التعبير السلمي عن الرأي إلى العنف المسلح الذي اعتمدته الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين.

[6] معتز الخطيب، العنف المستباح: “الشريعة” في مواجهة الأمة والدولة (القاهرة، دار المشرق، ط1 2017)، ص 53.

[7] حنة أرندت، في العنف؛ ترجمة إبراهيم العريس (دار الساقي، ط1، 1992، بيروت، لبنان)، ص 45. بتصرف.

[8] للمزيد من المعلومات حول العنف الذي اعتمدته الجهات الحكومية ضد المتظاهرين، والأطراف المسلحة الأخرى، يمكن الرجوع إلى التقارير السنوية للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، مجلس حقوق الإنسان، منذ 2013.

[9] إبراهيم الحيدري، سوسيولوجيا العنف والإرهاب: لماذا يفجّر الإرهابي نفسه وهو منتش فرحًا؟ (بيروت، دار الساقي، ط1، 2015)، ص 104.

[10] المصدر السابق، ص 77.

[11] المصدر السابق، ص 108.

[12] قرابين التضامن، أور أوميت أونفر وأنصار شحود: ترجمة مهند أبو الحسن ودمّر سليمان، نُشر في 17 نيسان/ أبريل 2022، شوهد في 13 حزيران/ يونيو 2022، موقع الجمهورية https://bit.ly/3MNFjma

[13] العنف الطائفي في سورية؛ ضغائن قديمة أم فرّق تسد؟ إعداد رفائيل لوفيفر، ترجمة مصطفى الفقي (معهد العالم للدراسات، 2017)، ص 6.

[14] وليم يونغ، ديفيد سبتينز، براين أ. فريدريك وعمر الشاهري، امتداد الصراع في سورية: تقييم العوامل التي تساعد وتمنع انتشار العنف، (مؤسسة راند، 1914)، ص 9 – 10،

[15] أمارتيا صن، الهوية والعنف: ترجمة سحر توفيق (سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون، العدد 352، الكويت، 2008)، ص 74.

[16] المرجع السابق، ص 174.

[17] المرجع السابق، ص 84.

[18] – عزمي بشارة، سورية: درب الآلام نحو الحرية: محاولة في التاريخ الراهن، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 300.

[19]– حنة أرندت، في العنف؛ ترجمة إبراهيم العريس (بيروت، دار الساقي، ط1، 1992)، ص 81.

[20] -دوافع العنف في الثورة السورية سوسيولوجيًا، (مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا”، وحدة أبحاث التنوير والتطرف، 17 كانون الثاني/ يناير 2020)، شوهد على موقع www.menastudies.org بتاريخ 17 أيار/ مايو 2022، ص 4.

[21] ا-لمسلخ البشري: عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة في سجن صيدنايا بسوريا، منظمة العفو الدولية (لندن، ط1، 2017، amnesty.org)، ص 11 – 12.

[22] -المرجع السابق، ص 13.

[23] الشبكة السورية لحقوق الإنسان، الاعتقال التعسفي في سورية خلال شهر نيسان 2022، نُشر بتاريخ 05/05/ 2022، شوهد بتاريخ 13/06/ 2022، على موقع تلفزيون سوريا، https://bit.ly/3IUOI7R

[24] الحرب في سورية: “شهادات صادمة” يرويها معتقلون سابقون في السجون السورية، نشر بتاريخ 15 آذار/ مارس 2021، شوهد بتاريخ 5 أيار/ مايو 2022 على موقع بي بي سي عربي، https://arabic/middleeast-56376072.amp.

[25]– حسام السعد، طلال مصطفى، الناجيات وإشكاليات الاندماج في المجتمع السوري: دراسة ميدانية، منظمة نقطة بداية، 2017. مترجم إلى اللغة الإنكليزية والتركية.

[26] وصلت ممارسات داعش الوحشية إلى أقصى مداها في ما فعله مع النساء الإيزيديات عند اجتياحه لمنطقة سنجار شمال العراق (2014)، حيث شكل ذلك صدمة للعالم المعاصر.

[27] إبراهيم الحيدري، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، مرجع سابق، ص 233.

[28] معتز الخطيب، العنف المستباح: “الشريعة” في مواجهة الأمة والدولة (القاهرة، دار المشرق، ط1 2017)، ص 52.

[29] إبراهيم الحيدري، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، مرجع سابق، ص 223. بتصرف.

[30] باربرا ويتمر مصدر سابق، الأنماط الثقافية للعنف، ص 36.

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى