في مطلع هذا القرن، وجدت نظرية المؤامرة ظروفا ممتازة لتنمو من جديد في منطقتنا وبلادنا، أرجعت إلى مادلين أولبرايت مثلا، في جلستها المنفردة مع بشار الأسد حين حضورها للتعزية بموت والده، سرَّ تنصيبه رئيساً. وعزت تفجير برجي مركز للتجارة العالمي في نيويورك للمخابرات الأمريكية. وأدخلت اجتياح العراق واغتيال الحريري في مسارات وسراديب لا يعلمها إلّا الله… وجاءت بعدها سريعا تصريحات كوندوليزا رايس» التي تمّ توسيعها إلى نظرية الفوضى الخلاقة.
وحتى لا نجلد أنفسنا – نحن العرب- أكثر مما فعلنا حتى الآن، ونتهّم آباءنا بأنهم سادة عقلية المؤامرة أكثر من باقي الأمم؛ ربّما يمكن القول إن العهد العثماني قد أورثنا حكايات المؤامرات والمكائد والاغتيالات في القصور؛ لكنّنا ـ نظريا على الأقل- تفوقنا وزدنا حتى طمرتنا حكاياتنا الخاصة… وإلى حدّ لا بأس به، ما زلنا كذلك.
تتفّق معظم التفاسير على القول، إن نظرية المؤامرة عموماً هي اعتقاد بأن منظمة ما، سرية ومغلقة على نخبة ما، مسؤولة عن كل ما يجري في السياق السياسي خصوصاً. وكانت تُوَجّه الأصابع أو الإيماءات إلى الماسونية والصهيونية – أو اليهود- غالبا. حين ظهرت مقولة «العروبة» و»القومية العربية» أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، كانت كما يبدو مجرّد ردّ فعل وجودي على تنامي المشاعر القومية التركية في إطار الدولة العثمانية. ولم تطلب في المرحلة الأولى أكثر من «اللامركزية» في إطار وحدة السلطنة؛ أي ما يعادل الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية في ما بعد. اشتركنا مع «العثمانيين» من أنصار الخلافة في جعل جماعة الاتحاد والترقي وانقلابها العميق الأثر، مؤامرة يهودية وماسونية. وليس معروفا تماما مدى شعبية «الثورة العربية» التي قادها الشريف حسين من مكة في زمانها، وما زال الإسلام السياسي الذي ورث مفهوم «الرابطة الإسلامية» يقول إنها مؤامرة، بل «خيانة». في حين يقول أنصار تلك الثورة إنها تعرّضت إلى طعنة في الظهر من قبل البريطانيين ويظهرون رسائل الحسين وماكماهون كدليل على ذلك. كانت تلك المراسلات متعامدة تماما مع مسار ورشة عمل سايكس وبيكو لرسم جغرافيا المشرق بعد الحرب آنذاك. في ذلك الموسم نفسه وصلت الأوراق المسماة «بروتوكولات حكماء صهيون» إلى منطقتنا مقبلة من الشمال الروسي، لتكون زادا ومرجعية دامغة تنصر فكرة المؤامرة. تحدّث جورج بيكو لاحقا ليحذّر من «مكر وخداع» البريطانيين، في حين قام موظف كبير في الخارجية البريطانية بتحذير سايكس من أن الفرنسيين «شعب طمّاع وجشع»… وسادت الحدّة والعدائية وانعدام الثقة بين الفرنسيين والإنكليز في تلك الفترة، بحيث أن الدفع والجذب بينهما كان أساس ما يجري. فحين تمادى البريطانيون في محاولتهم التهام المشرق، أغضب ذلك الفرنسيين المدلّلين، فعاد البريطانيون لإرضائهم وقال أحدهم، إن فرنسا تساوي لديه عشر «سوريات»، ما يعني أن «المخطط» لم يكن محكما وقد تعرض لتعديلات عديدة، آخرها ما حدث في لوزان بعد نجاحات أتاتورك وجيشه على الأراضي التركية. ما يحدث بالفعل عندما تتعقّد الأمور وتصبح فوق طاقتنا على التحليل والرؤية والردّ، هو أن نستسلم للكسل ونلجأ للخيار الأسهل. فعلنا ذلك بعد تلك الأحداث بقرن أيضا، وأسعفتنا» نظرية الفوضى الخلاقة» بالحلّ. يحدث أيضا أن يلتفّ أصحاب المصلحة الأقوياء بمواردهم الهائلة ومواردنا المتهالكة حاليا، على الموضوع بحرفة المحترفين من حولهم، فيوظّفون الاعتراف ببعض الحقائق لخدمة ما يغايرها، ويجعلون من الربيع العربي مجرّد لعبة في سلسلة مؤامرات «الغرب». يقول الدكتور فتحي عفيفي، على سبيل المثال، «إن العالم العربي قد تعرّض في فترة 2010 ـ 2011 لعملية ضخمة وغير مسبوقة من «التدمير الخلّاق». وإنه على الرغم من آثاره الضارة للغاية على مستويات عديدة؛ بما في ذلك تشويه الحياة السياسية والاستقطاب الصارخ وزيادة التفاوت بين الأغنياء والفقراء؛ فإن التدمير الخلاق هو الأداة المفضلة في عملية العولمة التي تديرها القوى الكبرى، وهو يعمل بدلا من التدخلات العسكرية المباشرة الأكثر تكلفة»… ويقول أيضا إن «الرأسمالية المتوحشة هي أداة مكشوفة ونتيجة للاستبداد والفساد تبرر الفوضى، التي أيضا، في سياق العولمة، تعطي سببا عادلا للثورة عندما تؤكد المفاهيم الاجتماعية الداروينية التي تقترح أن الضحايا يستحقون مصيرهم وليَنْجُ بنفسه من يستطيع ذلك، وأن الليبرالية الجديدة المشتقة من آدم سميث – الذي هو في صميم العولمة ومنطقها- تعزّز الفردية بقوة على حساب الجمعية والمصالح الجمعية وتشجع المبادرات المنفردة – وكل ذلك أدى إلى الانهيار المالي العالمي الكبير في سبتمبر 2008، وهذا هو المنطق نفسه الذي دعم استراتيجية التدمير الخلاق». ويستنتج من ثَمّ أن ذلك السياق هو ما فعل فعله «خلال فترة ما يسمى بالربيع العربي». لا تنسى الدراسة «التنويرية» الحديث عن «الاستبداد»، وتغليفه ببيانات ضد الإرهاب.
لا بدّ من أن الحريصين على إعادة إنتاج التخلّف والاستبداد، فرحون بهشاشة السياسات الأمريكية ويستفيدون من خطاياها، لأنها تفسح لهم المجال لمهاجمة الحريات وحقوق الإنسان، والديمقراطية والقيم الجمهورية. وجاءت تنظيرات «الفوضى الخلاقة» وتشويهاتها في توقيت صارخ الألوان والأصوات، عندما انهار برجا مركز التجارة العالمي تحت ضربات غزوة نيويورك الرهيبة. يومذاك قُرعت طبول الانتقام والحرب عاجلة مستعجلة، وقامت بحربين خلال عامين وهزّت العالم بعنف لم تنته آثاره حتى الآن. وكان الردّ برؤية التفجير مؤامرة أمريكية محبوكة. لم تذكر كوندوليزا رايس مفهوم «الفوضى الخلاقة» في مقابلتها مع «الواشنطن بوست» 2005، ولا بعدها، وغير معروف من ادّعى ذلك أولا ثم ضاع في زحمة المحتفلين بغرابة التسمية، و»الفوضى الخلاقة» نظرية تتعلّق بالإدارة وتنشيط إنتاجيّتها عن طريق إثارة التوتّر المسيطر عليه عمليا. بناء على ذلك أيضا، يمكن تصديق وجود ما يشبهها في عقلية إدارة جورج بوش الابن آنذاك، وإدارة دونالد ترامب أيضا. ليس مستغربا الاعتماد على النظرية – الفرضية هنا- من قبل أعداء وخصوم ومنتقدي الربيع العربي واحتمالاته المتنوعة السابقة واللاحقة.. المستغرب فقط اعتماده من قبل بعض أهل ذلك الربيع وأبنائه.
في سوريا على سبيل المثال، جاءت دراسة على أربعة فصول لمعهد أمريكي مهم في صناعة القرار الأمني والاستراتيجي، بين أواخر عام 2015 والنصف الأول من عام 2016؛ لتضع أفكارا حول مسار القضية السورية وفرضيات حلّها، تؤكّد اقتراح وقف إطلاق النار وتثبيت حدود مناطق النفوذ الخارجية والداخلية، لخلق ظرف مناسب أفضل للعملية السياسية المأمولة. جاءت اتفاقات خفض التصعيد بعد ذلك مباشرة افي إطار مسار آستانا (الروسي- التركي- الإيراني)، التي يُفترض أنها أبعد ما تكون عن الرغبات أو الاستراتيجية الأمريكية، لتؤكّد نظرية المؤامرة، وأن الولايات المتحدة هي التي تحرّك كلّ شيء وحدها من وراء ستار كما في خيال الظلّ والدمى المتحركة.
لا يُستغرب تمكّن نظرية المؤامرة من عقول الناس الذين عانوا ويعانون الأمرّين في حياتهم بكلّ تفاصيلها وأشكالها، لكن الصعب هضمه هو ما تمارسه هذه الأداة من تخريب – وتأخير- في الفكر لدى النخبة، ومن خلل في فاعلية القوى السياسية أو التيارات الموجودة… للمسائل وجهان أحدهما «ميكانيكي» يمكن حسابه وتوقّع مساراته بدقة، ولكنه نسبي ومؤقت أو عابر؛ والثاني «جدلي» تتكاتف فيه العوامل وتتزاحم وتعطي نتيجة مختلفة في كلّ لحظة وزمن. ولدينا الكثير من المؤامرات هنا وهناك، ينبغي الانتباه إليها بالطبع وإحباطها، ولكن تعديل قوة العوامل الداخلة في المعادلة، وخصوصا ما يتعلّق منها بنا، أساسي وعقلاني وحاسم. وللأسف، تعيد الشعبوية المزدهرة في هذه الأيام لنظرية المؤامرة عزّها، دعما لاستدامة الاستبداد والفساد والفوات!
المصدر: القدس العربي