تم تعيين رئيس الوزراء العراقي الجديد “محمد السوداني” بعد مرور 12 شهرًا على الانتخابات البرلمانية وبعد انسداد سياسي وصدامات عنيفة شهدتها العاصمة بغداد. ومع ذلك، فإن “السوداني” هو مجرد رئيس صوري لمجموعة واحدة من الفصائل السياسية الشيعية، ومن المحتمل أن يكون مجرد متفرج على مصير بلاده مثل سلفه “مصطفى الكاظمي”.
ويتألف تحالف “إدارة الدولة” الذي شكل الحكومة الجديدة من “الإطار التنسيقي” الذي يقوده الشيعة مع الحزبين الكرديين الرائدين – “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني” – وتحالف فضفاض من السياسيين العرب السنة.
وبالرغم من اسمه، فإن “تحالف إدارة الدولة” ليس له علاقة كبيرة بالدولة مع أنه نجح في تأمين دعم العديد من السياسيين البارزين في العراق.
وتجدر الإشارة إلى أن الزعيم الشيعي المنافس “مقتدى الصدر” لم يتنازل حقيقة عن طموحه المتمثل في تشكيل حكومة أغلبية، بالرغم من فشل معركته التي استمرت عاما لتحقيق ذلك، ونجاح منافسه “نوري المالكي”، رئيس الوزراء السابق واللاعب السياسي البارز في “الإطار التنسيقي”، في الوصول إلى الحكومة التي يريدها.
وفي يونيو/حزيران الماضي، تخلى “الصدر” عن المقاعد البرلمانية التي حصل عليها فصيله في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وفي أواخر يوليو/تموز، استخدم ميليشياته لاقتحام البرلمان ومقرات الحكومة في محاولة لتقويض جهود “الإطار التنسيقي” لتشكيل حكومة جديدة.
وسينصب تركيز “الصدر” الآن على استخدام قوته المسلحة خارج البرلمان للمطالبة بنزع سلاح الميليشيات الشيعية في معظم أنحاء العراق (فيما يعد مفارقة ساخرة). وبشكل أكثر منطقية، سيركز “الصدر” أيضًا على دمج فصيله في الترتيبات الحكومية التي من المرجح أن تتضمن تغييرات مثيرة للجدل في قانون الانتخابات قبل انتخابات جديدة متوقعة خلال الـ 12-18 شهرًا القادمة.
توترات كردية-حكومية
في نهاية المطاف، كان لابد من إيقاف الانقسامات الكردية التي ساهمت في الانسداد السياسي، وذلك لتسهيل انتخاب الرئيس العراقي الجديد (يشغل هذا المنصب كردي منذ عام 2003). وكان الوصول إلى إجماع كردي على تولي “عبداللطيف رشيد” للرئاسة شرطًا أساسيًا لاتفاق سياسي أوسع على “السوداني” والحكومة الائتلافية التي انضم إليها “الحزب الديمقراطي الكردستاني” و”الاتحاد الوطني الكردستاني”.
ومن المفارقات أن حكومة تحالف “إدارة الدولة” جاءت جزئيًا على حساب زيادة التوترات بين السلطات الكردية والحكومة الفيدرالية المركزية التي هي جزء منها.
وبالنسبة لمطلب الأكراد القديم بأن يتم تفعيل المادة الدستورية الخاصة باستفتاء عام حول الحالة المستقبلية لكركوك الغنية بالنفط، وأن تكون ميليشيات البشمركة الكردية قادرة على العمل هناك وفي ديالى (جنوب شرق بغداد)، فقد يتم تأجيله حتى تصبح التركيبة السكانية الكردية أكثر ملاءمة.
ومع ذلك، ستستمر الحكومة الفيدرالية العراقية في الكفاح من أجل العمل وسط الخلافات المستمرة حول السيادة النفطية بين بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق المتمتعة بالحكم الذاتي. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الحدود الإقليمية الرسمية لحكومة إقليم كردستان لا يمكنها احتواء الطموحات السيادية الكردية مما يخاطر بمزيد من التوتر مع الميليشيات الشيعية التابعة لشركاء الأكراد في الحكومة العراقية.
وتعد إدارة هذه المصالح التي تبدو غير قابلة للتوفيق مهمة شديدة الصعوبة، وقد ساعد ضعف الدولة العراقية الميليشيات المختلفة (الشيعية والكردية) في نهب الثروات النفطية.
فشل الدولة
بالرغم من الاتفاق على حكومة جديدة، فإن قدرة الدولة العراقية على الأداء ستظل خاضعة للمصالح الطائفية والتباينات داخل الطوائف والتنافس بين الميليشيات وحصص الوظائف الحكومية، كما يتضح من دراسة أطول حول هيكل وممارسة السلطة في العراق.
وفي مثل هذا السياق، فإن دولة العراق – في تعريفها السيادي ـ تعد شبه غائبة.
وتحدث مسؤول أمني عراقي عن أعمال العنف الأخيرة في البصرة بين ميليشيا “الصدر” وميليشيا “عصائب أهل الحق” بقيادة “قيس الخزعلي”، قائلا: “اقتصر دور قوات الأمن على التوسط بين الأطراف المتحاربة، في حين يتم نشر دوريات الجيش والشرطة بعد نجاح الوساطة من أجل التظاهر بقوة الدولة”.
وتنتمي “عصائب أهل الحق” إلى “قوات الحشد الشعبي” التي يهيمن عليها الشيعة، والتي تتبع الخط الإيراني من الناحية السياسية وحتى الروحانية، كما أن “الخزعلي” جزء من “الإطار التنسيقي” الذي يقوده الشيعة والذي تفاوض على دور قيادي في الحكومة الجديدة.
انتهاك السيادة العراقية
ركزت إيران مؤخرا على تشجيع التوافق السياسي بين أصدقائها المتباينين؛ ومن بين هؤلاء شخصيات بارزة في “الحشد الشعبي” مثل “المالكي”، و”هادي العامري” قائد ميليشيا “بدر”. كما تحتفظ إيران بعلاقة قوية مع “الصدر” (المناهض لإيران ظاهريًا) والممثل العربي السني البارز ورئيس البرلمان “محمد الحلبوسي”، و”الاتحاد الوطني الكردستاني”؛ وهو المنافس الكردي لـ”الحزب الديمقراطي الكردستاني”.
في الغالب، ترجع الهجمات الصاروخية الإيرانية المستمرة على الأراضي التي يسيطر عليها “الحزب الديمقراطي الكردستاني” في العراق إلى الاضطرابات الإيرانية الداخلية ومعارضة استخدام هذه الأراضي كملاذ للجماعات الكردية الإيرانية المنشقة، والضغط لضمان تعيين حكومة موالية في بغداد، وهذا الأمر الأخير تحقق بالفعل.
إلا أن إيران ليست الدولة الوحيدة التي تنتهك السيادة العراقية، حيث تتدخل تركيا على الأرض في شمال غرب العراق لتقويض المليشيات الكردية التي تعتبرها تهديدا رئيسيا لها.
ووفقًا لعدد من الروايات السعودية والعراقية، فقد كانت المملكة في الماضي ممولًا رائدًا لتحركات العرب السنة في العراق، ومع ذلك، يبدو أنها تفضل هذه الأيام تنويع علاقاتها من أجل التأثير بشكل أكثر فعالية في السياسة العراقية.
ويكثر الجدل بين اللاعبين السياسيين العراقيين البارزين حول من هو أكبر منتهك للسيادة العراقية. وتعتبر “قوات الحشد الشعبي” نفسها المنقذ للسيادة من الوجود المتبقي لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. ويجادل بعض السياسيين الشيعة بأن سلطة الحكم الذاتي لحكومة إقليم كردستان والضربات الجوية الأمريكية الدورية هم المنتهك الحقيقي للسيادة الوطنية العراقية.
أما قوات الأمن الرسمية فهي متنوعة الانتماءات وتضربها التنافسات والاختراقات، وغالبًا ما تفتقر إلى خطوط واضحة ومحددة للسلطة الرسمية. ويُظهر عدم فعالية قوات الأمن مدى ضعف سيادة الدولة العراقية (حيث لا تحتكر الدولة استخدام القوة) حتى لو ادعت مختلف المليشيات المرتبطة بالحكومة أنها تدافع عن الأمن القومي.
وبما أن المناصب الرئيسية في قوات الأمن الرسمية تخضع للمحسوبية والنفوذ، فغالبًا ما يشغلها أعضاء “قوات الحشد الشعبي”، وهو أمر غير مفاجئ بالنظر إلى أن الفصائل السياسية المقربة من “الحشد الشعبي” لها وزن كبير داخل وزارات وإدارات الأمن الداخلي وغيره.
وفي سياق ضعف الدولة العراقية، تتداخل أهمية القبائل كقوة سياسية غير رسمية. وتدعم بعض هذه القبائل توسيع نفوذ العرب السنة في السلطة، ويحاول أعضاؤها – كما يفعل القادة العرب السنة الطموحون مثل الحلبوسي – حشد بعض القوات الرسمية خلفهم.
ومن المرجح أن يتصاعد غضب المتظاهرين الشباب (الذين يسمون بـ”حركة تشرين”) تجاه التدخل السياسي الإيراني في العراق، والذي يُنظر إليه عمومًا على أنه يعزز ضعف الدولة المليئة بالفساد وغير القادرة على توفير الخدمات العامة والبنية التحتية الملائمة.
ويتعزز ضعف الدولة العراقية من خلال السياسات الداخلية القائمة على المصالح، والتي تمتص العديد من أعضاء البرلمان المنتخبين، بمن في ذلك أولئك الذين يدعون أنهم الجناح السياسي لـ”حركة تشرين” والذين من المرجح أن يظلوا عاجزين عن تغيير الوضع الراهن.
ومن المتوقع أن يستمر الصراع على السلطة وموارد الدولة فيما تستمر السيادة الفعلية للميليشيات المختلفة والقوى الأجنبية التي تدعمها. وفي ظل هذه البيئة، لا يملك المواطنون العراقيون خيارًا سوى الاستمرار في التطلع إلى الطائفة أو القبيلة لتوفير المنافع المادية والهوية التي تفشل الدولة في تأمينها.
المصدر | نيل بارتريك/ معهد دول الخليج العربي في واشنطن – ترجمة وتحرير الخليج الجديد