بعد تأجيلٍ استمرّ عامين بسبب جائحة كورونا، ها هي الجزائر تستضيف القمّة العربية الـ31، يومي 1 و2 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وسط مشهد عربي مشحون بالتوتُّرات، الخلافات، الأزمات، تصفية الحسابات، المناكفات، المكاسرات السياسية والمطاحنات الاقتصادية.
وتطمح الجزائر خلال هذه القمّة إلى فتح ملفات شائكة وساخنة ما زالت أسيرة في معتقل التابوهات والمسكوت عنه، مثل إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بعد أن أخلت اتفاقيات أبراهام الساحة أمام الاستباحات الإسرائيلية الهمجية تحت الرعاية الأميركية.
ظهرت أولى بوادر غياب التوافق العربي عن طاولة الجامعة العربية في القمة المقبلة مع غياب جلّ قادة الخليج العربي عن المشاركة، وتحديداً وليّ العهد ورئيس الوزراء السعودي محمد بن سلمان، وأمير دولة الكويت، ورئيس دولة الإمارات، وسُلطان عُمان، وملك البحرين، ويُضاف إلى هذا الغياب الخليجي اللافت تعذُّر حضور الرئيس اللبناني ميشال عون الذي انتهت ولايته، واستمرار شغور مقعد سورية التي تخضع السلطة السياسية فيها للنفوذ الإيراني المنبوذ خليجياً، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الغياب يُفقد القمّة قيمتها المضافة المنشودة.
علاوة على الملفات السورية واللبنانية واليمنية والسودانية والليبية، تأتي هذه القمّة العربية في توقيت شديد الحساسية، لتزامنها مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا التي ألقت بظلالها على خريطة التعاون الدولي، واتَّخذت أبعاداً جديدة، وفرضت التزامات حقيقية، في ظلّ تعدُّد الأقطاب واشتداد الاستقطاب.
تمضي السعودية وحليفاتها الخليجية قُدماً في مسيرة الخروج من تحت العباءة الأميركية، ولا سيَّما بعد إعلان تحالف “أوبك +” خفض إنتاج النفط اليومي بمقدار مليوني برميل بداية من غد الثلاثاء، رغم اعتراض الولايات المتّحدة التي يبدو أنّها بدأت بالتلويح بعصا العقوبات على الجزائر للضغط عليها ودفعها إلى تبنّي الموقف الغربي، وثنيها عن تبنِي موقف محايد حيال الغزو الروسي لأوكرانيا وعدم الانحياز إلى أيٍّ من أطراف الحرب، خوفاً من إغضاب روسيا.
فقد طالبت السيناتورة ماكلين، ممثلة ولاية ميشيغان عن الحزب الجمهوري، و26 عضواً في الكونغرس في رسالة مُوجّهة إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 29 سبتمبر/ أيلول الماضي بفرض عقوبات على الجزائر بموجب قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات، أو المعروف اختصاراً بـ”كاتسا” “CAATSA”، الذي أقرَّه الكونغرس في عام 2017.
شُنَّت هذه الحملة، التي تندرج أيضاً في خانة التحريض الإسرائيلي، داخل الكونغرس لمعاقبة الجزائر بذريعة تنامي العلاقات العسكرية بين روسيا والجزائر، وازدهار صفقات الأسلحة بينهما التي احتلَّت بموجبها الجزائر المركز الثالث كأكبر متلقٍّ للأسلحة الروسية في العالم، وأصبحت على أثرها موسكو أكبر مورِّد للأسلحة لهذا البلد الأفريقي الغنيّ بثروات النفط والغاز التي يعوِّل عليها الغرب في تعويض النقص في إمدادات الطاقة، حيث تعتبر الجزائر ثالث أكبر مورِّد للغاز الطبيعي إلى أوروبا بعد روسيا والنرويج.
فعلى ما يبدو، لا يريد الكيان الصهيوني أن تمرّ هذه القمّة مرور الكرام دون أدنى تنغيص على الجزائر التي أبرمت العام الماضي صفقات لشراء أسلحة روسية بقيمة فاقت 7 مليارات دولار، شملت أيضاً الحصول على طائرات سوخوي المتطوِّرة Su-57 لم تبعها روسيا لأيّ بلد آخر.
مع اقتراب موعد القمّة العربية، رغبت الولايات المتّحدة وفقاً لإملاءات إسرائيلية في قدح الزناد بوجه الجزائر، بهدف محاصرتها في زاوية ضيِّقة لإجبارها على تغيير مواقفها تجاه موسكو، ولمَ لا تجاه موجة التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي أيضاً؟ متناسية استمرار المغرب والهند -على سبيل المثال- في شراء الأسلحة من روسيا، الأمر الذي يعتبر شكلاً من أشكال التمييز ضدّ الجزائر، والذي لا يعاني منه شركاء الولايات المتّحدة الآخرون.
لعلّ التوتُّر الذي شاب العلاقات الجزائرية الأميركية، أبرز نقاط التقاطع بين المصالح الجزائرية والمصالح الخليجية في هذه القمّة التي من المُتوقَّع أن يخرج منها صنّاع القرار في الدول العربية المصدِّرة للنفط والغاز بتوصيات تكرِّس اتِّخاذ موقف حازم لمجابهة الضغوطات والتهديدات الأميركية، وبطبيعة الحال يبقى الالتزام الجماعي بذلك الموقف رهينة توجُّهات منحنى العلاقات السعودية الأميركية.
لقد اختار الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، الذكرى الـ68 لاندلاع ثورة نوفمبر المجيدة لتمهيد الطريق لتجسيد شعار “لمّ الشمل العربي” الطموح الذي ميَّز هذه القمّة، لكن يبقى الشعار مجرَّد لافتة منصوبة في بداية طريق طويل وشاقّ ومملوء بالمطبّات والأشواك والصعاب والمؤامرات، لا يتحمَّله إلّا القادة المتَّحدون، ولا يقوى على مواصلة السير فيه من أصابه وهن العزيمة وسيطرت عليه عقيدة “أنا ومن بعدي الطوفان”.
وهذه هي الثغرة التي تتسلَّل منها إغراءات الكيان الصهيوني الذي يفعل كل ما بوسعه للحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية بأيّ حال من الأحوال، ليُبقي المنطقة العربية في حالة ضعف دائم، ويسهل بالتالي على الغرب امتصاص كل طاقاتها وثرواتها بكل السبل السفيهة أحياناً، والمخرِّبة المدمِّرة في أحيان أخرى.
ليس من قبيل الصدفة أن تحتضن الجزائر القمّة العربية في هذا التوقيت بالذات، حيث يؤكِّد التاريخ الحديث إصرار الجزائر على استضافة القمم العربية في محطّات انتقالية حرجة، وتحديداً قمّة 1973 التي عُقدت بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 وقاطعتها ليبيا والعراق وشهدت انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية.
وقمّة 1988 الطارئة التي عُقدت بمبادرة من الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد، ودعت إلى دعم الانتفاضة الفلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي والتي أعلن بعدها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ببضعة أشهر فقط، الاستقلال وقيام دولة فلسطين، وقمّة 2005 التي عُقدت بعد وفاة الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات في ظروف غامضة، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
خلاصة القول، لا يعوِّل الشارع العربي على هذه القمّة في التوصُّل إلى حلٍّ يفتح الآفاق للخروج من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة وإزاحة الغمّة عن قلب الأمّة ورأب ما انكسر على الصعيد السياسي وتوحيد الصفّ العربي، فقد بات واضحاً تكرار اختتام مثل هذه الفعاليات بقرارات لا تجد طريقها إلى التنفيذ وبروتوكولات تعاون تقليدية باهتة لا تصل إلى مرحلة التطبيق.
المصدر: العربي الجديد