
لم تعد خبراً عودة (أو زيارة) معارضٍ سوريٍّ لنظام الأسد إلى بلده؛ فقد صار هذا من عاديّ الأمور في الشهور الستة الماضية، وسيكون من الافتعال أن يلتقط واحدُنا مشوار سياسيٍّ أو مثقفٍ سوري، أقام عقوداً في مغتربٍ (أو منفى)، إلى دمشق، فيبسُط في الحدث كلاماً عاطفيّاً، أو يرتجل حديثاً عن مهمّات النخبة السورية العريضة في بلدها. ولكنّ ثمّة إغواءً خاصّاً في هبوط المعارض جورج صبرة، وهو سجينٌ سابق وترأس المجلس الوطني السوري (وربما “الائتلاف” قبل أن ينسحب منه)، في مطار دمشق، أول من أمس السبت، فليس الخبرُ هنا بالضبط؛ بل في أنّ هذا المناضل هو مَن أشهَرَ تصريحاً مثيراً في ديسمبر/ كانون الأول 2012، فظلّ، بسببه، يُلاحَق بالانتقادات والإدانات وسلالٍ من السخرية والتهكّم والتجريح، لمّا قال إنّ جبهة النصرة جزءٌ من الثورة السورية، وليست تنظيماً إرهابياً، وهاجم الولايات المتحدة لتصنيفها هذا. … لم يرحمه رفاقٌ وأصحابٌ له وعمومٌ عريضٌ من نخب الثورة، حتى إنّ تاريخ الرجل، وسنوات سجنه الثماني في زنازين حافظ الأسد، ومرابطتَه في مفاوضاتٍ غير مباشرةٍ ترأسها في جنيف (وأستانة) مع حكم الاستبداد الأسدي، واجتهاداته في مؤسّسات المعارضة السورية، وصلابتَه في غير موقفٍ ضدّ النظام (اعتَبَر مرّة “داعش” وجهاً آخر له)، ذلك كلّه كان كثيرون يُعمّون عليه، ويُعلون قولته تلك (لـ”سي إن إن”، وهذه جريرةٌ أخرى ربما؟). لم يتراجع جورج صبرة عمّا قال، ولا استدرك إن عبارته أُخرجت عن سياقها، ولا عمَد إلى توضيحها، وإنْ يلزم التذكير بأنه قال، في التصريح نفسه، إنّ جبهة النصرة ليست أساسيةً في المعارضة السورية، وإنما مجرّد عنصرٍ من مجموعات عدّة تشكّل الجيش السوري الحرّ. وفي البال أنه لاحقاً (2017) دافع بشدّة عن رئاسة محمّد علوش وفدَ المعارضة المفاوض في أستانة، ووصفه بأنه “قياديٌّ كُفْء، ومن أبرز القيادات الثورية”، وقال إنّ تعيين الهيئة العليا للمفاوضات هذا الرجل الذي تزعّم “جيش الإسلام” كبيراً للمفاوضين في محادثات جنيف صائبٌ وقوي، “لأنه ينسف كل المزاعم التي كانت تتهم “جيش الإسلام” و”أحرار الشام” بأنها تنظيمان إرهابيان”.
يعود جورج صبرة إلى دمشق، وجبهة النصرة التي صارت هيئة تحرير الشام هي السلطة في سورية، وفي سدّة الحكم ورئاسة الدولة، فيحقّ له أن يزهو بقولته تلك، قبل 12 عاماً، على شاشة واحدةٍ من أشهر التلفزات الأميركية (والعالمية حكماً)، فهذا رئيس الولايات المتحدة يُجالس زعيم هذه الجبهة الذي يتقاطر إليه مسؤولونٌ كبار من الشرق والغرب (إلّا من تونس!) للتحاور معه، ولعرض وسائل إعانة سورية وإسعافها. لم يكن الثائر النزيه والزاهد يقرأ الفنجان، فلم يحدِس أو يتوقّع، في أقصى متخيَّله، كما كل الأنام في الأرض، أنّ أبا محمّد الجولاني (أحمد الشرع لاحقاً) سيكون الرئيسَ السوري الذي سيُنصت إليه مع جمعٍ في باريس، لكنّه كان متخفّفاً من الحمولات إيّاها عن مفهوم الثورة، والاعتبارات التي تجعل هذا ثائراً وذاك إرهابياً. ولعلّه كان يؤمن بأنّ ما من ثورةٍ إلّا وشابتها أجناسٌ من العمل المسلّح تنتسب إلى الإرهاب أو شيءٍ منه، وهذا في المعنى العريض قتل مدنيين خارج القانون. والأهم أن كاتب قصص الأطفال السابق (لمَن لا يعرف) كان على قناعةٍ بكل فعلٍ يرجُّ نظام الأسد، عسكريٍّ مسلّح أو سلميٍّ أهلي، وهو الذي شارك في قيادة مظاهراتٍ أولى لمّا نشبت الثورة، قبل أن يغادر إلى الخارج، ثم ينخرط في العمل السياسي بمثابرةٍ مشهودة، ويشتبك في خرائط الخلافات التي ما انفكّت تطرأ على مؤسّسات المعارضة وأجسامها، وقد تحدّث، في تلك الغضون كثيراً، عن عجز المعارضة عن بناء قيادةٍ موحّدةٍ لها.
كتب جورج صبرة في مقالةٍ في “العربي الجديد” قبل أزيد من 11 عاماً، إنّ التسلّط الأقلّوي على حكم سورية بقوة القهر استدعت “عصبويةًً طائفيةً تكون بديلاً عن القاعدة الشعبية اللازمة لأي سلطة، فصار العلويون حرّاس النظام الذي بناه حافظ الأسد، ووضعهم في مواجهة الشعب، من دون أن يكون للفئات الشعبية والفقراء منهم حظوة تُذكر”. ومثقفٌ مناضلٌ سوريٌّ لديه هذه الرؤية، ناهضَ كل نزوع طائفي بحصافةٍ باهرة، وصاحب بصيرةٍ (لم لا، وقولتُه تلك خالدة؟)، تحتاج سورية إلى من هم من قماشَته وفي حكمَته. … تُراه عاد إلى بلده، أم يزورُها، أم سيُراقب ما سيفعل أهل الحكم، في جبهة النصرة (سابقاً) التي دافع عن عدم إرهابيّتها أمام العالم كلّه؟ لا أعرف.
المصدر: العربي الجديد