
ثمّة تحوّلٌ نوعيٌّ لا بدّ من الإقرار به في المواقف الدولية والإقليمية حيال الدولة السورية نتيجة لعملية التغيير التي حققها السوريون منذ الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر 2024 ، وقد تجلّى هذا التحوّل بأحداث ومواقف متلاحقة ربما فاقت التوقعات بسلاستها، لعل أبرزها قرار الرئيس ترمب رفعَ العقوبات عن سوريا، وقد تلاه قرار أوروبي مماثل، فضلاً عن الانفتاح الدولي، والأميركي على وجه الخصوص تجاه الحكومة السورية، في مسعى يؤكّد رغبة المجتمع الدولي في رؤية سوريا بلداً مغايراً لما كانت عليه خلال الحقبة الأسدية الماضية.
وتزامناً مع هذا المنعطف النوعي في تاريخ الدولة السورية الذي يترجمه التفاعل الإيجابي الدولي مع الحكومة الراهنة، تتصاعد أصوات سورية عديدة تطالب الحكومة بألّا تراهن على نجاحاتها الخارجية فحسب، بل إن ما تحققه السلطة الحالية من قبول لدى الآخر (الخارجي) ينبغي أن يوازيه مسار آخر يلبي تطلعات الداخل السوري أيضاً، بل يرى بعضهم أن حفاظ السلطة على مكتسباتها الخارجية مرهون بقدرتها على موازاته بكسب الرأي العام السوري حين يشعر جميع السوريين أنهم شركاء في السلطة وإدارة البلاد وليسوا مجرّد رعايا، وعليه، فإن اتهام السلطة سواء في العلن أو الخفاء بأنها ذات لون واحد بات شديد الوضوح، وبعبارة أكثر وضوحاً، يرى كثيرون أن الفريق الحاكم، وعلى جميع مستويات الإدارة والمؤسسات المدنية والعسكرية، عماده “هيئة تحرير الشام” والفصائل العسكرية المتحالفة معها، وهذا تجسيد فعلي لمقولة ( من يحرر يقرر).
قبل الحديث عن وجاهة أي نقد أو مطلب ينبغي التأكيد أن الاستئثار بالسلطة هو سمة مُلازِمة لأي نظام حكم، بعيداً عن توجهه الإيديولوجي أو السياسي، كما من المهمّ التأكيد أنّ أيَّ كيان سياسي بعد وصوله إلى سدّة الحكم ستتغيّر أولوياته، بل سيتخلّى عن قسط كبير من رصيده القيمي لصالح الهدف المستجد وهو الحفاظ على السلطة، وتغدو المعايير الناظمة لسلوكه هي التي توجبها مصالح السلطة وليس ما يُرضي الآخرين، فالسلطة أيّاً كانت، من خصائصها النوعية هي الاستئثار والأنانية واحتكار القوة والنزوع نحو الهيمنة وبسط السيطرة على دقائق الأمور ومفاصل الإدارة، ولا يمكن أن يتخلّى أي نظام حكم عن جزء من سلطته عن طيب خاطر أو تكرّماً، وإنما نتيجة لوجود عاملين اثنين:
- دستور، وما تتفرّع عنه من قوانين، تُلزم الحاكم بالعمل بها والانصياع لها.
- قوى سياسية سواء تمثلت بأحزاب أو تيارات أو جماعات، وقوى مدنية تتمثّل بمنظمات مجتمع مدني ونقابات مهنية وجمعيات، إذ من شأن هذه القوى مراقبة السلطة على الدوام وعدم السماح لها بتجاوز الدستور أو القوانين المنبثقة عنه، شريطة أن تكون هذه القوى فاعلة على الأرض وذات تجذّر شعبي وقادرة على التماهي مع معاناة المواطنين في الداخل، وليست قوى افتراضية على منصات وسائل التواصل وحسب.
لعله من الصحيح أن الحكومة الحالية قد أصدرت إعلاناً دستورياً في الثالث عشر من شهر آذار الماضي، إلّا أن القوانين الناظمة لتشكيل الأحزاب لم تصدر بعدُ، ولكن يمكن البدء بتشكيل جمعيات ومنظمات مجتمع مدني وفقاً للقوانين التي تبيّنها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
لقد قيل من الكلام الكثير عن تصحّر الحياة السياسية في سوريا خلال الحقبة الأسدية، كما قيل الكثير عن افتقار السوريين إلى إرث حزبي يمكن البناء عليه، ولكن لعله من الحق أيضاً أن سوريا تشهد منعطفاً نوعياً ومهمّاً يجب البدء باستثماره واستلهام معطياته، من جهة زوال آلة القمع الأسدية وزوال كل القوانين التي تشرعن مصادرة الحقوق وتعويم العنف ومصادرة الرأي، وباتت البلاد السورية أحوج ما تكون إلى وجود قوى سياسية ومجتمعية تعمل على الأرض، إذ من شأن تلك القوى أن تجسّد التعددية التي ينشدها السوريون وعدم تسيّد جهة سياسية واحدة وانفرادها بصناعة القرار.
إن الاستمرار بمطالبة قيادة الدولة بإرساء مبدأ المشاركة وعدم استبعاد الآخرين وتجاوز احتكار السلطة هو أمر في غاية الأهمية، بل هو واجب يتوافق مع قيم الدولة الحديثة وذات التجارب التنموية الناجحة، وإن استئثار فريق محدّد بجميع مفاصل الدولة يمكن أن يلبي حاجة سلطوية، ولكن سيكون خاذلاً لمقوّمات استقرار الدولة وقدرتها على الاستمرار في النهوض.
إلحاحُ كثيرٍ من السوريين على المشاركة في إدارة مفاصل الدولة والمطالبة بعدم احتكار السلطة هو أمر في غاية المشروعية، بل من حق أي مواطن سوري يرى في نفسه الكفاءة في تقديم أي مُنجز أن يحظى بالفرصة التي تتيح له العمل، ولكن السعي نحو هذا الحق ينبغي أن يكون مقروناً بعملٍ منظّم عبر الأطر والقوانين التي تتيح ذلك، وليس من خلال النزعات الرغبوية فحسب. إذ من المؤسف (ومنذ الأيام الأولى للتحرير) أن تجد كثيرين ممّن تكتظ بهم فنادق دمشق ومقاهيها، لا لشيء، سوى للقاء بعض المسؤولين والتقاط الصور، والبحث عن سبل للوصول من خلال العلاقات الشخصية والمعارف الخاصة، أملاً بالحصول على منصب في إدارة أو مكان ما، وكأن المناصب أو الوظائف هي عبارة عن هبات أو هدايا يمكن لمن هو في موقع المسؤولية أن يوزّعها على أحبائه والمقرّبين منه، ولا شك أن هذا النمط من التفكير والسلوك هو إهانة وإساءة لتضحيات السوريين وما انطوت عليه ثورتهم من قيم رفيعة، فضلاً عن كونه اجتراراً لموروث الفساد الذي أتخمت به الحقبة الأسدية البائدة.
إلى ذلك، ثمة شريحة واسعة تتوجّه بعتب شديد إلى الفريق الحاكم الذي عمل على تحييد كثير من الكفاءات الوطنية التي لها رصيد كبير في العمل الوطني سواء خلال سنوات الثورة أم قبلها، في حين أنها لم تمانع من الاعتماد على بدائل لا تحظى بأي رصيد ثوري، بل ربما تتدرّج في مواقفها بين الحالة الرمادية وموالاة النظام البائد، وهو عتب لا يخلو من الوجاهة والمشروعية، وواقع الحال أننا هنا حيال طريقتين مختلفتين في التفكير، الأولى تجسّد المنطق الثوري الذي لا يستطيع الانفكاك عن فحواه القيمي أو الأخلاقي، والثاني هو منطق السلطة التي ترفع شعار: (نهاية الثورة والبدء ببناء الدولة) وهو شعار ينطوي على جزء كبير من البراغماتية التي تتذرع بها السلطة للدفاع عن سلوكها، ولئن كانت القطيعة مع الثورة، كعمل مقاوم على الأرض، أصبحت أمراً واقعاً، إلّا أنّها لا توجب القطيعة مع الإرث القيمي أو الأخلاقي للثورة، وإذا كانت عملية (بناء الدولة) تستدعي العمل على خطط وبرامج ومشاريع تختلف بطبيعتها عن العمل الثوري الذي يتميّز بالنزوع إلى هدم البنى السلطوية القديمة وتقويض مشروعية نظام التسلّط والإرهاب الأسدي، فإنّ الحوامل القيمية للعمل الثوري لا تفقد مضامينها أو قدرتها على التأثير، بل يمكن أن تكون عاملاً مُعزّزاً في عملية البناء، فضلاً عن كونها عاملَ حصانة قيمية لتعافي الدولة وعبورها إلى ضفة الأمان.
وأيّاً كان الشأن، فإن الاستمرار بمطالبة قيادة الدولة بإرساء مبدأ المشاركة وعدم استبعاد الآخرين وتجاوز احتكار السلطة هو أمر في غاية الأهمية، بل هو واجب يتوافق مع قيم الدولة الحديثة وذات التجارب التنموية الناجحة، وإن استئثار فريق محدّد بجميع مفاصل الدولة يمكن أن يلبي حاجة سلطوية، ولكن سيكون خاذلاً لمقوّمات استقرار الدولة وقدرتها على الاستمرار في النهوض. ولكن على الرغم من ذلك، فإنه لا يمكن التوقع بأن السلطة (أية سلطة وفي أي زمان ومكان) يمكن أن تتخلّى عمّا تفترضه امتيازاً وأوراق قوّة بيدها، كما من غير المتوقع أن تقوم السلطة – أية سلطة كانت – بإشراك الآخرين وتعزيز مبدأ تقاسم المسؤوليات انطلاقاً من معايير قيمية أو أخلاقية، إنْ لم تجد من يُلزمها بذلك، وفقاً للدستور والقوانين المنبثقة عنه، فسيادة القانون هي التي تحول دون تغوّل السلطة، وحينئذ تكون مصدر قوّة للدولة والشعب معاً.
المصدر: تلفزيون سوريا