كل هذه الخيوط في الشمال السوري

سميرة المسالمة

عزّزت مجريات الأحداث أخيراً في ريف حلب الشمالي، وانقسامات ما سمّي الجيش الوطني، هشاشة الروابط التي تجمع هذه الفصائل فيما بينها من جهة، وما يجمعها مع البيئة الشعبية المتنوعة (ذات الانحدارات السورية المحلية والمهجرة من مدنها حلب وريف دمشق وحوران) من جهة مقابلة، ونزعت عباءة مؤسّسة المعارضة السياسية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) عنها من جهة ثالثة، ما ترك أثره واضحاً على خريطة تقاسم النفوذ في المنطقة وليونة حدودها أو وهنها، وهي الرسالة الأكثر وضوحا، حتى اللحظة، من الاقتتال الذي جرى بين هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل الجيش الوطني”، وأن البديل الأقوى في المنطقة هي “الهيئة”، وأن تحرّكها لتوسيع نفوذها يعتمد على قرارها الموحّد داخلياً، وعلى ضغط احتياجاتها، وأن لتركيا الدور أو القرار الرئيس في ردعها أو السماح لها ببسط نفوذها.

خلال سنوات، قدّمت الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة السورية، منذ توليها إدارة الشمال السوري تحت مسمّى “المحرّر” في كل من مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، قدّمت نموذج حكم مختلط بين الفوضى والفساد والتسلط، وذاق الناس الويلات بسبب صراعاتها على إدارة الموارد الاقتصادية للمنطقة. ولم يقلّل ما تُتهم به معظم الفصائل من تبعيتها للحكومة التركية من حالة الانقسام الفصائلي بينها، كما أن هذه التبعية وارتباطها بالبيئات التركية التشريعية والقانونية المتنوعة (الولايات التركية غازي عنتاب وكيليس وشانلي وأورفا) لم تستطع إنتاج آلية حكم رشيد فيها، تجعل من تلك المناطق قادرةً على إدارة شؤون السوريين المدنية والخدمية، بما يحقق حالة استقرار حقيقية، تقترب مما كان الناس يأملونه مع زوال هيمنة النظام السوري وأفرعه الأمنية عن مناطقهم، ما يشكّك في فاعلية ما سمّي توحيد الفصائل في جيش وطني، أو فاعلية الحكومة المؤقتة، الذراع التنفيذية للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، في الشمال السوري.

يمكن فهم توسّع هيئة تحرير الشام على أن الحاجة الاقتصادية لموارد جديدة تتيحها التوسّعات نحو عفرين وطرق أعزاز وما بعدها، تلعب الدور الرئيس في خريطة “فتوحاتها” الحالية والقادمة. ولكن مع وجود بيئة سياسية تركية جديدة تتحدّث عن انفتاح على النظام السوري، يصبح العامل السياسي هو الأهم، وتغيير أدوات الصراع، وأحياناً أشكاله ومواقع تمركزه، ضرورات حتمية، تستعيد من خلالها الأطراف أسباب وجودها على طاولة حوار مشترك، لم يبد الجانب السوري أي اهتمامٍ به، ولم يقدّم ما يمكن تلمّسه أنه الطرف المهزوم فعلياً.

على عكس ذلك، وعلى الرغم من كل الحصار الدبلوماسي أميركياً وأوروبياً وعربياً وتركياً، لم يغير النظام السوري من تطلعاته وشروطه في استعادة بسط سيطرته على كامل سورية عسكرياً وأمنياً ومدنياً، وهو النظام نفسه الذي تتطلع أنقرة إلى استعادة خطوط التواصل معه، ما يعني أن تركيا هي من غيّرت فعلياً شروطها وموقفها من النظام. ولكن الوقائع التالية تكون، في ظل هذا المشهد على بساطته، انسحاباً تركياً من سورية حتى حدود 2011، وانبعاث النظام السوري، بكامل هيئته الأمنية من جديد، في كامل الشمال المهيمن عليه من تركيا. هذا “السيناريو” إذا كان الصراع بين النظام السوري مع أدوات تركيا السوريين (الجيش الوطني)، لكن مع وجود هيئة تحرير الشام المنافس الحقيقي للنظام أمنياً وتنظيمياً في مناطقه، تكون لوقائع الدعوة إلى الحوار مع دمشق، قبلها النظام السوري أو رفضها، اعتبارات مختلفة وتهديدات أكثر عمقاً باتجاه وضع خريطة جديدة لسوريات (جمع دول) عديدة.

وأيضاً، لقد استفاد النظام خلال المشهد الأخير للصراع في الشمال، فأعاد إلى الواجهة الخيارات التي قدّمها للسوريين عند اندلاع ثورتهم، النظام بكامل استبداده وتسلطه أو الجماعات الإرهابية بكل ما يحمله حكمها من استغراقٍ لاستبداد النظام، مع تحميل هذا الحكم أبعاده الدينية والمغلقة، ما يستوجب عدم استبعاد دور النظام في هذه الاستفاقة الفصلية لهيئة تحرير الشام بين حين وآخر، وهي تجسّد ما سبق وأن بشّر النظام به.

كما يمكن اعتبار تمدّد الهيئة وتسلّلها إلى مواقع حكم الفصائل المحسوبة على تركيا في الشمال السوري، وتغييرها حدود التماسّ بين المتصارعين محلياً، ذريعة مهمة يقدّمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الداخل التركي والمجتمع الدولي بشأن استدارة السياسة التركية في الملف السوري، فهو يحتاج تبريرا يقدّمه للناخبين، من مؤيديه قبل معارضيه، إلى انقلابه على سياساته المتشدّدة ضد النظام، والرغبة المفاجئة في فتح باب الحوار معه، وذلك تجنّباً للاعتراف، أو اعتبار ذلك انتصاراً لرؤية المعارضة التركية التي تحمّل اللاجئين السوريين في تركيا وسياسات أردوغان ضد النظام السوري أسباب الانهيارات الاقتصادية.

ومن المؤكّد أن من شأن الموقف التركي أن يدفع المعارضة السورية المحسوبة عليها إلى زاوية الاستسلام التفاوضي مع النظام، تحت ذريعة توحيد الجبهات في الصراع ضد الإرهاب الذي تمثله هيئة تحرير الشام، وهو ما قد يتسبّب من جديد في اقتتال فصائلي من شأنه أن يكون سبباً في استدارة دولية كاملة من ملفّ السلاح في الشمال، والقبول بما تريده روسيا في إنهاء دور الفصائل المسلحة جميعها في سورية، وإعادة الاعتبار لسلاح النظام السوري فقط.

كما يمكن لتركيا استخدام ورقة محاربة الإرهاب في استعادة مواقعها القتالية في سورية لاحقا (بعد انتهاء الانتخابات التركية)، والضغط على النظام السوري لقبول شروط اتفاق أضنة جديد، بشروط تركية، تمكّنها من قطع الطريق على أي اتفاقات محتملة بين الكرد (قوات سوريا الديمقراطية) والنظام السوري، يمرّر من خلالها النظام مطالب كردية بإدارة ذاتية في شرق سورية.

وأيضاً، توسّع هيئة تحرير الشام المصنفة إرهابية لتكون على تماسّ مع حلفاء الولايات المتحدة قد يحولها إلى ذراع تستفيد منها تركيا بالتوازي مع النظام السوري، لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية عند الحاجة، وإفساد راحة الحليف الأميركي الذي لا يزال يؤكد أنه سيبقى في مناطق شرق سورية لتأمين الاستقرار وتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 الذي تدرك الولايات المتحدة أنه مجرّد رقم في أدراج الأمم المتحدة ليس أكثر.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى