
عبرت قافلة الصمود الحدود التونسية إلى ليبيا، ومن هناك تنعقد النية الوصول إلى رفح عبر الأراضي المصرية. التظاهرة الرمزية بتعداد يحصى بمئات المشاركين من الجزائر وتونس، تأتي متأخرة جداً، بعد أكثر من عام ونصف عام على الإبادة، عجزت فيها الشعوب العربية عن أن تعلن خلالها عن موقف أهلي مغاير للتواطؤ المخزي لحكوماتهم.
مسار القافلة يرسم خطاً بيانياً للهزائم المتتالية، التي طالت آخر محاولة لشعوب المنطقة من أجل التمرد معاً، ضد كوابيس الديكتاتوريات. من تونس نقطة انطلاق الانتفاضات العربية، تتربع اليوم سلطوية يتوسع بطشها يوماً بعد آخر. وفي المحطة التالية، يتعمق الشرخ بين شطري ليبيا، بينما تندلع حروب الميلشيات الصغيرة بشكل دوري، في بلد يقترب مع الوقت نحو نموذج الدولة الفاشلة. أما في مصر، فتعلن السلطات يوم أمس الثلاثاء عن توجيه الاتهامات لدفعة جديدة من الموقوفين على خلفية رفع لافتات تضامنية مع غزة في أماكن عامة. إجمالي القضايا المفتوحة منذ اندلاع الحرب في غزة حوالى 16، فيها 186 متهماً يواجهون تهماً تتعلق بالانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة.
بلا شك، يشعر النظام في مصر أنه الأكثر تضرراً جراء الحرب في غزة، مقارنة بدول المنطقة الأخرى. علاوة على الضرر الذي لحق بمداخيل قناة السويس بفعل هجمات الحوثيين. النية المعلنة لتطهير القطاع عرقياً لها بوابة واحدة تقود إلى سيناء. لا تمانع القاهرة الإبادة بالضرورة، أو على الأقل لا تعنيها، طالما ظل الفلسطينيون معضلة إسرائيلية. ولاية تل أبيب على الفلسطينيين هي البند الضمني في كامب ديفيد. واليوم تجد إسرائيل في المذبحة الجارية فرصة للتملص منه، وهو ما تعتبره القاهرة نقضاً لاتفاقية السلام. وبدلاً من التهجير إلى سيناء أو عبرها، يقترح الرئيس المصري علناً ترحيل سكان القطاع إلى صحراء النقب.
الحل النهائي، حسب خطة حكومة نتنياهو، والذي أصبح في ظل ولاية ترامب خريطة طريق أميركية رسمية، يجعل القاهرة تشعر وكأن ظهرها إلى الحائط. حتى الدور الدبلوماسي الذي لعبته مصر لوقت طويل، بوصفها حاملة مفاتيح قطاع غزة، بالشراكة مع قطر، لم يعد له وجود في ظل المفاوضات المباشرة بين المبعوث الأميركي وحماس، وفي ظل خرق الإسرائيليين للهدن السابقة. وبدلاً من أن تنال القاهرة عرفاناً بالجميل عن وساطتها في المفاوضات، أو بالأحرى عن دورها كحاملة رسائل، يتم ابتزازها من عدة جهات. من ناحية تلوح إسرائيل بورقة إغلاق محبس إمدادات الغاز، ومن ناحية الولايات المتحدة صدرت تصريحات في أروقة البيت الأبيض عن أحقية السفن الأميركية في المرور في قناة السويس مجاناً. وسط هذا كله، آخر ما يرغب به النظام المصري هو احتجاجات داخلية تخرج من أجل غزة، ومن ثم تنفلت الأمور من عقالها. تعلّم نظام يونيو من أخطاء سابقيه، وأهمها ألا يسمح لغول الجماهير أن يخرج من القمقم لأي سبب. الجميع يتذكر أن أولى الهتافات ضد مبارك في وسط العاصمة المصرية، خرجت من تظاهرات ضد الغزو الأميركي للعراق.
في خضم حملة القمع الحالية في مصر ضد أي صورة من صور التضامن مع غزة، تهندس أجهزة الأمن بضعة تظاهرات مرتبة لأغراض المساومة مع الأطراف الخارجية. الأخطر من خروج الاحتجاجات إلى الشوارع، هو أن تمر قافلة تذكّر المصريين وجيرانهم أن ثمة تاريخاً قريباً انتقلت فيه مشاعل الانتفاضات من يد إلى يد عبر الحدود، وأسقطت نظاماً وراء آخر.
الأرجح ألا تمنح القاهرة الضوء الأخضر للقافلة لعبور الحدود المصرية من جهة ليبيا، أو في أفضل الأحوال ستسمح بتفريغ حمولتها لتنضم لاحقاً إلى أطنان من المساعدات المكدسة بالفعل على مسافة قريبة من حدود غزة.
المصدر: المدن