
في ظلّ استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، وكلّ فلسطين أيضاً، أكثر من عام ونصف العام (حتّى الآن)، يكثر الحديث الفلسطيني عن العوامل التي تساهم في استمرار هذا العدوان، بالمستوى ذاته من الهمجية والإجرام، إذ يدور حديث بعض الفلسطينيين وداعميهم من شعوب المنطقة حول نقطتَين. الأولى عدم منح الاحتلال ذريعةً لاستمرار عدوانه، عبر تسليمه محتجزيه لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، إلى جانب تسليم سلاح فصائل المقاومة البسيط، بل خروج المقاومة من قطاع غزّة، وفلسطين أيضاً. ثاني الذرائع يدور حول رغبة فصائل المقاومة في استمرار العدوان، وبشأن سعيها إلى إنهائه.
يجد الكاتب في الذريعتَين خطاباً شعبوياً خياليّاً، لا يمتّ إلى الواقع بصلةٍ، دوافعه انتهازية أحياناً، واتكالية في أحيانٍ أخرى، منها شرائح مخلصة وصادقة بمشاعرها تجاه سكّان قطاع غزّة. فمن الملاحظ في الآونة الماضية زيادة نسبة متبنّي هذه الطروحات في الأوساط الصادقة تماماً في مشاعرها تجاه الفلسطينيين عموماً، وتجاه سكّان قطاع غزّة خصوصاً، الأمر الذي دفع الكاتب إلى كتابة هذه المقالة، إذ اعتدنا تبنّي الخطاب نفسه من طيفٍ واسعٍ من الانتهازيين الذين لا ينفع النقاش معهم، ولا يكترثون بشعب فلسطين، أو حتّى بحقوقه، بقدر سعيهم المتكرّر والدائم والحثيث لكسب ودّ سلطة حماية الاحتلال في رام الله، ورئيسها الذي فشل في تحقيق أيّ إنجازٍ سياسيٍ، حتّى لو كان بسيطاً، بما في ذلك تحقيق وعوده التي كرّرها مراراً وتكراراً من قبيل بناء نظام فلسطيني ديمقراطي، أو التنحّي في حال “خرج ضدّه عشرة أو عشرون شخصاً”، فضلاً عن تعهّده بزيارة قطاع غزّة، وتعهّده بإطلاق المقاومة السلمية ودعمها، وحديثه المتكرّر عن وقف التنسيق الأمني، ومئات الوعود الأخرى، أو الخزعبلات التي يطلقها بين الفينة والأخرى، بحسب الموجة السائدة.
أيضاً، يجد الكاتب في تفنيد هذه الذرائع الواهية أمراً مهمّاً لفهم ما يحصل، ومن ثمّ العمل (قدر المستطاع) على حماية الشعب الفلسطيني، وإفشال مخطّطات الاحتلال.. واستعادة كلّ الحقوق الفلسطينية المستلبة، لم لا؟… من هنا نلحظ من خلال التدقيق في مسار الأحداث أن عدوان الاحتلال اليوم حاصل رغم إرادة شعوب العالم أجمع، التي تعبّر (وعبّرت) عن رفضها إجرام الاحتلال، بل عن دعمها نيل الشعب الفلسطيني حقوقه كاملةً، كما عبّرت عن حقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وطالبت بمقاطعة الاحتلال. إذاً، فشلت جهود الاحتلال في تبرير إجرامه، ومن ثم فشلت جهود أميركا في تبرير مشاركتها في العدوان ودعمه أمام شعوب العالم أجمع، بما فيها الشعب الأميركي (أو قسم كبير منه). رغم ذلك، ما زال العدوان مستمرّاً، في تجاهل كامل للبحث عن تبريرٍ منطقيٍ (أو حتّى بسيط)، بل بتجاهل كامل للإدانة القانونية (الأولية)، وبتجاهل كلّي للتقارير الدولية التي تدين الاحتلال وترفض تبريراته السخيفة. بمعنى آخر، لا يملك الاحتلال أيّ ذريعة قانونية أو سياسية أو شعبية لتبرر استمرار عدوانه على كلّ فلسطين عموماً، وقطاع غزّة خصوصاً، فعن أيّ ذريعة تتحدثّون.
يستمرّ الاحتلال في عدوانه على قطاع غزّة، وفلسطين كلّها، بغض النظر عن فضح حقيقته الإجرامية عالمياً
أيضاً وفي النقطة نفسها، يجد الكاتب خلطاً مقصوداً (أو نتاج جهل) بين أخطاء المقاومة التي تمكّن الاحتلال من تبرير جرائمه عادةً، وحقّ الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، ففي بعض الأحيان تخطئ المقاومة في بعض ممارساتها، كما في بعض التفجيرات التي لا تميز بين عسكري ومدني، أو بين طفل وشخص بالغٍ قانونياً، فهذه الممارسات مرفوضةٌ فلسطينياً وقانونياً، بغضّ النظر عن موقف الاحتلال منها، وبغض النظر عن ممارساته التي تتعمّد استهداف هذه الفئات فلسطينياً، إذ لحركة التحرّر الفلسطيني أخلاقياتها التي يجب الحفاظ عليها، من هنا يفهم الكاتب، بل يؤيّد الانتقادات التي طاولت بعض تفاصيل “طوفان الأقصى”، التي استُهدف فيها أشخاصٌ ما كان يجب أسرهم أو استهدافهم، وهو ما تراجعت المقاومة الفلسطينية عنه لاحقاً، وأكّدت استعدادها لإطلاق سراحهم سريعاً، بمجرّد وقف إطلاق النار، نظراً إلى التعقيدات اللوجستية في ظلّ عدوان الاحتلال الهمجي. فالمقاومة حق مشروع حتماً لمقاومة الاحتلال، في حين أن تفاصيل العمليات المُقاومِة قد تخرج عن الأعراف والقوانين المقبولة محلّياً ودولياً وإنسانياً، وهذا الخروج قد يمنح الاحتلال ذريعةً لتبرير ممارساته الإجرامية، أمّا غير ذلك فمن واجبنا جميعاً دحض أكاذيب الاحتلال، وكشف تسويفاته بدلاً من التماهي معه تحت غطاء إنساني كاذب.
بخصوص النقطة الثانية، التي تتمثّل في التماهي مع أكاذيب الاحتلال التي تحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية استمرار العدوان، فمن المعيب تكرارها من دون التدقيق في تصريحات المقاومة الفلسطينية، التي عبّرت مراراً وتكراراً عن استعدادها لتنفيذ شقّها من أيّ اتّفاق دائم لإطلاق النار، من دون أيّ تردّدٍ؛ تبادل الأسرى وكسر الحصار، فضلاً عن مسارٍ جدّيٍ يفضي إلى استعادة شعب فلسطين حقوقه الأصلية، وهي المطالب المحقّة التي يرفضها الاحتلال وداعمه الأميركي، أمّا إن كان المقصود من ذلك أن “طوفان الأقصى” قد استدعى العدوان الصهيوني، فهذا تفسيرٌ معيبٌ وسخيفٌ، لأن عدوان الاحتلال مستمرٌّ في قطاع غزّة، وفي كلّ فلسطين، من الحصار اللاإنساني المفروض على قطاع غزّة منذ أكثر من 17 عاماً، إلى الاعتداءات اليومية في الضفّة الغربية وسائر فلسطين، التي سبّبت مقتل فلسطينيين عدّة وفق ما وثّقته التقارير الدولية قبل الفلسطينية، وعليه، “طوفان الأقصى” ردّة فعلٍ على عدوان الاحتلال المستمر منذ نكبة 1948.
قد تخرج عمليات المقاومة عن القوانيين المقبولة محلّياً ودولياً وإنسانياً، ما يمنح الاحتلال ذريعةً لتبرير ممارساته الإجرامية
إذاً، ومن ناحيةٍ عملية؛ يستمرّ الاحتلال في عدوانه على قطاع غزّة، وفلسطين كلّها، بغض النظر عن فضح حقيقته الإجرامية عالمياً، نظراً إلى الحماية الأميركية والدعم الأميركي المستمرّ، الذي يتجاهل كلّ الأسباب المنطقية لوقف دعم العدوان، أو على الأقلّ لتأجيله إلى موعدٍ آخر، لأسباب جيوسياسية يصعب ويطول شرحها اليوم. لكن وعلى صعيد موازٍ، يجب التدقيق في فحوى هذه الخطاب الشعبوي، الذي يحمّل الضحية مسؤولية إجرام المجرم، إذ إن مجرّد التلويح باعتبار المقاومة الفلسطينية الشرعية والمشروعة ذريعةً لعدوان الاحتلال، يعتبر تساوقاً مرفوضاً مع خطاب الاحتلال (بالمناسبة، الاحتلالات كلّها سعت إلى تبرير إجرامها بذلك)، بل يمكن القول إنه تبنٍّ لخطاب الاحتلال نفسه.
أيْ إنّ خطاب الاحتلال، الذي سقط عالمياً، يتلقّفه بعض الانتهازيين على أمل أن يعود ذلك عليهم برضى سلطة حماية الاحتلال في رام الله، أو برضى الاحتلال نفسه، كما بات يتلقّفه بعض الاتكاليين الباحثين عن تبرير قصور أدوارهم في وقف العدوان، سواء بتبريراتهم لتخاذل النظام الرسمي العربي، أو تقويض جبهات الإسناد، أو تبرير تخاذل شعوب المنطقة، أو التماهي مع مسار الاستسلام والتطبيع خصوصاً في سورية، فكلّ ذلك يغيب عن المشهد خلف خطاب التسويف الذي يحمّل المقاومة الفلسطينية مسؤولية عدوان الاحتلال المستمرّ، بادّعاء أنها تمنحه ذريعةً لاستمرار عدوانه بممارستها حقّها في الصمود والبقاء في وطنها، أو في مقاومتها الاحتلال واعتداءاته.
المصدر: العربي الجديد