- أفكار ألكسندر دوغين مصدر الهام سياسة بوتين:
لكي نفهم التحولات التي اثرت في الموقف الروسي وتطوره وتفاعله مع السياسات الدولية نستعرض أفكار ألكسندر دوغين الذي يعتبر من منظري الكريملين وملهمي الرئيس بوتين، الذي يقوم بتجسيد أفكار دوغين في السياسة الخارجية الروسية.
- النظرية السياسية الرابعة: يرى دوغين أن النظريات الليبرالية (في الغرب) والشيوعية (في الدول الاشتراكية) والفاشية (الألمانية والإيطالية) فشلت وبقي ان تقود روسيا تشكيل تحالف جيوسياسي أوراسي في ظل تعددية قطبية ، وأن يتشكل تحالف بين روسيا والصين وإيران ودول اسيا الوسطى والدول العربية والإسلامية وتركيا يسميه التحالف البري ضد التحالف البحري بقيادة أمريكا.
ويدعو دوغين إلى:
- الحفاظ على القيم والتقاليد المحافظة الدينية والقومية
- فرض المصالح الروسية بالقوة (واتخاذ خطوات استباقية في جورجيا وأوكرانيا وهذا الذي حصل)
- إقامة إمبراطورية أوراسية لضمان مكانة لائقة لروسيا في العالم المعاصر
- أن يكون للشعب الروسي الأورثوذوكسي اليد العليا في التحالف الجيوسياسي الأوراسي
- ودوغين يعادي الليبرالية الديمقراطية الغربية بشكل كبير.
- ويعتبر أن تمسك روسيا بالأسد هو جزء من نظرية الجيوبوليتيك الاوراسي وتخلي بوتين عن الأسد يعني الانتحار السياسي لروسيا ووفاة العالم متعدد الأقطاب.
- ملامح السياسة الخارجية الروسية في عهد بوتين
- اراد بوتين في فترة رئاسته الأولى (2000-2004) الانتساب الى النظام الأوروبي والغربي فلم يقبلوه فاصبح يعادي الغرب واتجه نحو الشرق، واتبع سياسة براغماتية تقوم على المصلحة وليس على الأيديولوجيا كما كان الحال في العهد السوفيتي الشيوعي.
- وفي مؤتمر الامن الأوروبي في ميونيخ عام 2007 طالب بوتين بإعادة بناء النظام العالمي وأن روسيا من حقها الدفاع عن وجودها ومصالحها القومية باستخدام كافة الوسائل (بما فيها النووي). وهذا كان من اهم اهدافا لتدخل الروسي في سوريا وأوكرانيا لإيجاد مكاناً يجلس عليه في طاولة اللاعبين الكبار. وحتى اليوم لم يحل هذه المعادلة.
- كما عبر بويتن عن طموحه في التوسع واستعادة “روسيا التاريخية العظمى” والدفاع عن الروس أينما كانوا وفق نظرية “العالم الروسي” ، التي تبرر التدخل في أي مكان يعيش فيه روس بحجة الدفاع عنهم.
- ومن التوجهات السياسية الروسية التعامل مع دول الجوار من منطلق الهيمنة الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية ، والتي أدت إلى نتائج سلبية في أوكرانيا وآسيا الوسطى. ويكفي ان نذكر الكلمة التي القاها منذ أيام رئيس جمهورية طاجكستان رحمون إمام موجها كلامه للرئيس بوتين أما عدسات الكاميرات قائلاً نحن نحترمكم ونراعي مصالحكم ونطلب منك ان تحترمونا.
- من أهم سمات السياسة الخارجية لروسيا التعاون والصداقة مع الأنظمة الشمولية في العالم ومحاربة الثورات والديمقراطية معتبرتها مشاريع غربية يراد منها تغيير الأنظمة ونشر العولمة ومحو الثقافات.
- العوامل والأحداث التي أثرت في بلورة السياسة الخارجية الروسية
- انهيار الاتحاد السوفيتي 1991 والتدخل العسكري الغربي في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا
- الحركات الإسلامية الجهادية (حروب الشيشان والدعم العربي للمقاتلين الجهاديين في القوقاز والمد الاسلامي في اسيا الوسطى)
- لن ينس الروس الاحتلال الامريكي للعراق تحت شعار نشر الديمقراطية في العالم ويقولون انظروا الى اين وصل العراق بعد 20 سنة من النهب والفساد والتدمير.
- بعد ما جرى في العراق وليبيا بشكل خاص ترفض روسيا تغيير الأنظمة سواء بالقوة من الخارج او بالثورات من الداخل (طبعا لا تجد حرجا من دعم الأنظمة الشمولية معادية لإرادة الشعوب)
- أكثر ما تخشاه روسيا هو الثورات الملونة التي حدثت في دول الجوار واتهمت أن الغرب وراء تنظيمها وأنها تشكل تهديداً للأمن القومي الروسي (في جورجيا (2003) وفي أوكرانيا (2004) وفي قيرغيزيا (2005) ومحاولة في اوزبكستان (2005) وفي بيلاروس (2006) وفي أرمينيا (2008) واحتجاجات في صربيا (2005) واضرابات في مولدافيا (2009)
- ويعكس تصريح لافروف (2012) جوهر الموقف الروسي، حيث قال إن الربيع العربي هو ثمرة البذور التي زرعها جورج بوش الابن بإطلاقه لمشروع الشرق الأوسط الكبير ودمقرطة المنطقة بكاملها.
- واخيراً هناك نظرة محافظة وقومية ومسحة ارثوذكسية في الموقف الروسي. لذلك تتمسك موسكو بنظام كنظام الأسد يتاجر بالأقليات وبالورقة الطائفية ويدعي بحمايتها من الأغلبية المسلمة (حاضنة الإرهاب!). ومن هنا نفهم التغيير الديموغرافي الحاصل في سوريا نتيجة القصف الجوي الروسي والاسدي.
- تطور الموقف الروسي من الوضع في سوريا:
- قبل 2011 كانت العلاقات بين روسيا وسورية عادية فحجم التبادل التجاري كان اقل من مليار دولار.
- وشهدنا كيف أن الكثير من الخبراء الروس وحتى بعض كبار المستشرقين في البداية أعلنوا تضامنهم مع الثورات العربية، مثل المستشرق ورئيس الوزراء الروسي الأسبق يفغيني بريماكوف، لكنه استثنى لاحقاً سوريا، معتبرا انما يجري فيها حرب أهلية وليس ثورة.
- وقفت روسيا في 2011 وفي 2012 مع النظام ولكن ليس بصلابة. ومع استخدام الكيماوي ضد اهل الغوطة في اغسطس 2013 أصبح الروس ينتظرون سقوط الأسد بين ليلة وضحاها. ولكن الامريكان أنقذوا الأسد بمسرحية نزع السلاح الكيماوي بضمانة روسية مزيفة.
- يكرر الروس الحديث عما فعلته أمريكا في أفغانستان والعراق ولاحقا في ليبيا كبرهان على صحة موقفهم بعدم السماح بسقوط الحكام بالقوة من الخارج.
- يقول المحلل الروسي المعروف لوكيانوف ان الموقف الروسي في 2012 كان مرفوضا عالميا في دعم الأسد ، ثم بدأ العد التنازلي حتى أصبح العالم الغربي يتقبل التدخل العسكري الروسي. وبتقديري ان الموقف الغربي والعربي لم يتغير لقناعته بعدالة الموقف الروسي بل نتيجة اجندات جيوسياسية للدول الكبرى الفاعلة والتي تفرض اجنداتها العى الاخرين وكون بقاء نظام الأسد قدم خدمات لهم ودافع عن حدود إسرائيل 40 سنة وقام بقمع الشعب السوري ومنعه من تحقيق تقدم ونهضة لا تقبلها إسرائيل والغرب. والدلي هو ما فعلوا بالعراق بعد ان حقق تقدما تكنولوجيا وعسكريا ملحوظا (مع عدم التغاضي عن أخطاء صدام حسين).
- التناقض في المواقف الروسية من ليبيا ومن سوريا يدل على غياب الاستراتيجية السياسية لروسيا في الشرق الأوسط
- تأثير قوى السيطرة على الربيع العربي
- من اهم اهداف التدخل العسكري الروسي في الخارج هو تحقيق اهداف جيوسياسية وعسكرية واقتصادية ودعم الأنظمة الشمولية وقمع الانتفاضات والثورات الشعبية ومنع انتشار الديمقراطية (سوريا- أوكرانيا…).
- وهنا يجب ان نشير الى ان الغرب أيضا يعرقل بناء الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي ونرى كيف الأنظمة الغربية التي تنادي بقيم الحرية والمساواة والمواطنة والديمقراطية تتعاون بكل اريحية مع الأنظمة الشمولية التي تقمع شعوبها وتستبد بها. وفي المحصلة فإن الأمر يتعلق بالمصالح والايديولوجيا.
- وكما قال فوكوياما في مقالة له مؤخراً: الغزو الروسي يشكل ديكتاتورية حقيقية تحاول سحق مجتمع حر بالصواريخ والدبابات وقد يذكّر الجيل الحالي بما هو على المحك.
- واستخدم الروس أدوات عسكرية مثل القوات الجوية- مرتزقة فاغنر- تشكيل ميليشيات محلية تخدم أهدافها- تشكيل فصائل من المرتزقة المحليين والتحالف مع ميليشيات طائفية عابرة للحدود
- واستخدمت روسيا الدبلوماسية الناعمة وخاصة اكثر الفيتو في مجلس الأمن للدفاع عن الأنظمة الشمولية بكافة المحافل الدولية والتشدق بمقول “شرعية النظام” ، علما ان الأنظمة الوطنية العربية فقدت شرعيتها منذ ان تجاوزت مرحلة التحرر الوطني والاستقلال حيث تحولت الى أنظمة استبدادية فاسدة.
- وسخرت موسكو كل رصيدها الإعلامي لخدمة الأنظمة التي دافعت عنها وحاولت تبييض صفحتها زورا وبهتانا وكذلك دافعت عنها في كافة الفعاليات الدولية واستخدمت اعوانها في كل مكان للترويج للأنظمة الشمولية وتشويه صورة الثورات وأهدافها.
- كما استخدمت موسكو الورقة الطائفية (بزعم الخوف على الأقليات) بالتعاون مع النظام ورجال الدين المنافقين من مسيحيين ومسلمين لتلميع صورة النظام المجرم وتشويه صورة قوى الثورة والمعارضة متهمين إياها بانها إسلامية متطرفة وجهادية وارهابية
- واستغلت موسكو موضوع المساعدات الإنسانية وحاولت إدخالها عن طريق النظام السوري، الذي كان شبيحته يبيعونها ويحرمون منها المحتاجين وتواطأت معهم ممثليات الأمم المتحدة في دمشق
- ويبرر خبير روسي معاداة روسيا للديمقراطية بقوله إن الديمقراطية هي التربة الخصبة لانتشار الإسلاميين وفوزهم في الانتخابات نظرا لكون اغلبية الشعب مسلمة فقيرة وغير مثقفة، ويعتبر ان الديمقراطية في الدول الإسلامية امر مستحيل. وان استخدام العنف من قبل المحتجين والثوار أدى الى إعطاء صورة مغايرة لطبيعة الثورة وأهدافها في الحرية والمساواة والديمقراطية
- وبرأيي فإن الاسلام في روسيا قنبلة موقوتة لان أسباب التمييز واللامساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تجاه المسلمين موجودة واغلبية الشباب المسلم يشعر بهذا الوضع وهو جاهز للتمرد من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية (آخر حادثة قام شابان مسلمان من أصول طاجكستانية سحبا الى الخدمة العسكرية في أوكرانيا بعقود كمرتزقة قاما بقتل 10 جنود روس ارثوذكس وجرح العشرات بسبب شجار ذو بعد ديني)
- أسلحة جيوسياسية روسية:
- سلاح النفط والغاز
- تمتلك روسيا 12 % من احتياطي النفط بالعالم و32 % من احتياطي الغاز الطبيعي. وتشكل عائدات النفط الروسي نصف ميزانية الدولة، وثلث واردات الغاز الروسي كانت تذهب الى أوروبا قبل الحرب الروسية على أوكرانيا.
- ويعتبر ملف الطاقة من أخطر أسباب الصراعات الدولية. وكانت منطقة الخليج الغنية بالنفط دائما منطقة مصالح قومية لأمريكا. لذلك نشهد وضعا قلقا وغير مستقر لدول الخليج بسبب العلاقات الاستراتيجية مع الغرب والارتباط الاقتصادي والعسكري بالدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، واليوم تحاول بعض الدول الخليجية اتخاذ سياسة مستقلة عن الغرب وفقا لمصالحها الوطنية مثل التعاون السعودي والاماراتي مع روسيا في مجال تخفيض انتاج النفط والذي استفز الولايات المتحدة وتوعدت برد قوي على المملكة العربية السعودية.
- ولطالما استخدمت روسيا الطاقة كسلاح سياسي للضغط على الدول الأخرى وظهر ذلك بقوة في العلاقة مع بيلاروسيا وأوكرانيا ومؤخرا مع الدول الأوروبية.
- كما أن روسيا استفادت من الحصار والعقوبات على إيران فقامت باستيراد النفط الإيراني بأسعار مرخصة وبيعها الغذاء. والان في ظل الحصار على الدولتين اتفق البلدان على تبادل النفط الروسي بالغاز الإيراني.
- وكذلك تقوم أوروبا وامريكا باستخدام سلاح النفط والغاز كوسيلة ضغط وعقوبة على روسيا بإيقاف استيراد النفط والغاز الروسي.
- وقد يكون الغاز المكتشف في البحر المتوسط أحد اهم أسباب الصراعات الدولية والإقليمية حول سورية ويبدو ان التفاهمات هناك لم تكتمل بعد.
- تصدير تكنولوجيا الطاقة النووية الروسية:
- تقيم شركة روس اتوم الروسية الحكومية في مصر ايران والسعودية وتركيا ومع الأردن والامارات محطات كهرونووية . ووفقًا لتقرير روس اتوم لعام 2020، بلغت محفظة الطلبات الخارجية للشركة لمدة عشر سنوات 138.3 مليارات دولار. وشكّلت إنشاءات محطات الطاقة الذرية في الخارج 89.1 مليار دولار من هذه الطلبات.
- تجارة الأسلحة الروسية
- كما تستخدم روسيا السلاح لأغراض اقتصادية وجيوسياسية.
- فقد بلغ تصدير الأسلحة الروسية لعام 2021 حوالي 15 مليار دولار، وصدرت السلاح الى اكثر من 121 دولة بمبلغ يصل الى 181 مليار دولار من عام 2000. وفي مقدمة تلك الدول تأتي سورية- العراق- مصر- الهند – الجزائر- الصين- كازاخستان- اذربيجان- أرمينيا- بيلاروسيا (ازداد التصدير عدة اضعاف الى مصر والعراق وانخفض الى سوريا بمقدار 87%)، كما تستورد الجزائر أسلحة روسية من 7 الى 10 مليار دولار سنوياً.
- وفي الأعوام 2017-2021 احتلت موسكو المرتبة الثانية في العالم في تصدير السلاح بنسبة 19% من التصدير العالمي، الولايات المتحدة 39%، فرنسا 11%، الصين 4.6 % ، ألمانيا 4.5% وتقلصت بمقدار 26% صادرات روسيا من الأسلحة في الأعوام الأخيرة.
- دور الدول الإقليمية في مسيرة ثورات الربيع العربي
- تركيا التي كانت تدعم الثورة السورية في البداية وتعادي الموقف الروسي من نظام الأسد، تعرضت لضغوطات غربية كبيرة منها: اسقاط طائرة حربية روسية 2015 ومحاولة انقلاب فاشل 2016 وضغوطات اقتصادية أثرت على سعر الليرة التركية دفعتها للتعاون مع روسيا، ويحق لنا ان نتساءل كيف يدفع الغرب تركيا للتعاون مع روسيا في وقت يخوض فيه الغرب حربا بلا هوادة ضد روسيا (أوكرانيا خير مثال)
- وحدثت حالة مشابهة مع دول الخليج العربي. قامت إيران امام اعين الغرب بتحريك جماعة الحوثي الإرهابية بتفجير حرب في اليمن وجر المملكة العربية السعودية والتحالف العربي الى حرب مدمرة، وكذلك خلق مشكلة بإشراف إدارة ترامب مع دولة قطر وحصارها والنتيجة قامت المملكة العربية السعودية ودولة قطر بالتوجه للتعاون مع روسيا بعد ان كانت العلاقات متوترة جدا معها بسبب موقفها من الثورة السورية.
- حاولت بعض الدول الخليجية وتركيا في البداية مساعدة الثورة السورية ليس حبا بالديمقراطية بقدر ما هو عائد لأسباب جيوسياسية وصراعات إقليمية معروفة
- بينما قام نظام الملالي الإيراني المعروف بتحالفه مع روسيا في دعم النظام السوري وقمع الثورة ومنع أي عملية انتقالية نحو الديمقراطية، وتعمل طهران تحت غطاء طائفي وباستخدام القوى العربية الشيعية لفرض نفوذها وتحقيق مشروعها الامبراطوري
- وقد ساهمت كل التطورات الإقليمية في عرقلة مشاريع التحول الديمقراطي ودور بعض الدول العربية في دعم الأنظمة الشمولية والحكام العسكر. وهذا يدل بوضوح على توحد صفوف قوى الثورة المضادة باستخدام الأموال والدعم السياسي والإعلامي.
- ويبدو ان التغيرات السياسية الأخيرة وخاصة في الموقف التركي وفي شمال سوريا مثلا توحي بأن هناك طبخة دولية إقليمية لتقديم توليفة سياسية للحل في سوريا تؤدي الى التطبيع مع تاجر المخدرات الدولي المجرم بشار الاسد.
- الاجندات الجيوسياسية وتأثيرها على مصير الديمقراطية في المنطقة العربية
اتضح من مجرى أحداث ثورات الربيع العربي بأن المصالح الجيوسياسية للدول الكبرى والإقليمية لها أولوية على مصالح الشعوب وطموحاتها في التحرر وبناء دول مدنية ديمقراطية، بالرغم من أن بعض هذه الدول تنادي بنشر قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية في العالم. ولكن ذلك يخص شعوبها هي دون غيرها.
ونضرب مثلا معبراً من التاريخ وهو ذو قيمة جيوسياسية واستراتيجية:
ونقصد كيف قامت بريطانيا وفرنسا الاستعماريتين بإجهاض مشروع الدستور الديمقراطي العصري في سوريا 1920، الذي تم وضعه في عهد الملك فيصل، والذي استند الى الدستور الأمريكي.
وقد تحدثت عن ذلك بشكل رائع المؤرخة الأمريكية اليزابيت. ف. تومسون في كتابها بعنوان «كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب» الصادر عام 2020.
وبذلك تم القضاء على مشروع ديمقراطي حقيقي في سورية الكبرى. وقامت تلك الدولتان بفرض الانتداب الاستعماري على الدول العربية وتطبيق اتفاقية سايكس-بيكو سيئة الصيت ونفذتا وعد بلفور بإقامة كيان صهيوني في قلب العالم العربي. وتحول مشروع الأمير فيصل التوحيدي بين العلمانيين والإسلاميين الديمقراطيين إلى مشروع انقسام قطفت ثماره النخب العسكرية الديكتاتورية التي حكمت معظم دول المنطقة منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. بالإضافة إلى أن الفرنسيين شجعوا في فترة الانتداب (1920-1946) النزعة الطائفية في سوريا، بتقسيمها الى دويلات على أساس طائفي وديني، والتي تابعها نظام الأسد وبرزت اثارها المدمرة خلال مرحلة الثورة السورية.
وتشير المؤرخة الامريكية تومسون إلى أن احتلال فرنسا لسوريا أدى إلى تشويه سمعة الليبرالية في العالم العربي، وفي ظل هذه الظروف، انفصلت النخب العلمانية والإسلامية عن بعضها بعضا وانقسمت، ما رسخ استقطابا سياسيا حادا بين الإسلاميين والليبراليين استمر في إضعاف النضال ضد الدكتاتورية بعد قرن من الزمان في زمن الربيع العربي وما بعده.
وتحولت قضية الديمقراطية في العالم العربي الى قضية دولية وكأنها لا تخص الشعوب بقدر ما تهم الاجندات الجيوسياسية الدولية والإقليمية.
فلا الحكومات الغربية تريد الديمقراطية لشعوبنا ولا أنظمة الاستبداد الشرقية تريد ذلك ولا الدول الإقليمية. وبالتالي بقيت شعوبنا لوحدها تصارع ليس فقط أنظمتها المستبدة الفاسدة في نطاق بلدانها وانما فرضت على الشعوب معادلة صعبة وهي مقاومة مشاريع جيوسياسية وجيواستراتيجية مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي تقع في مركز اهتمامه مصلحة دولة الكيان الصهيوني وتفتيت الشعوب العربية والإسلامية لكي تبقى متخلفة جاهلة تسيّرها أنظمة تابعة للخارج، وتتحكم بثروات المنطقة الشركات والقوى الكبرى والإقليمية الفاعلة.
- ما العمل؟
تعلمنا ثورات الربيع العربي بأن القوى السياسية ذات الأيديولوجيا والنظريات الإسلامية والقومية واليسارية فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أحلام الشعوب، خاصة أننا جربنا القوميين (الناصريين- البعثيين- القذافي) لعقود في الحكم، وجربنا الإسلاميين خلال الثورات العربية (مصر- تونس).
أما القوى الديمقراطية صاحبة المصلحة الكبرى في انتصار ثورات الربيع العربي فكانت متأخرة جداً عن لعب الدور التنويري والريادي المنشود، الذي كانت تنتظره شعوبنا. ولم تتمكن تلك القوى من توحيد صفوفها، وبعضها وضع يده بيد الإسلاميين وفشلا معاً، وبعضهم اعتبر ان الثورة قد هيمن عليها الإسلاميون لذلك انسحبوا من المشهد- كما يقول الدكتور برهان غليون. ولو أنهم انخرطوا بالثورة والعمل السياسي الثوري لكانوا احتلوا مكانا مؤثراً في الثورة وقيادتها.
لقد فشلت القوى والنخب القومية والإسلامية واليسارية وحتى التي تسمي نفسها ديمقراطية، لأنها كانت مشبعة بروح العمل الحزبي والايديولوجي وغياب روح العمل الجماعي وعدم ممارسة الديمقراطية في العمل، وانتشار النرجسية وبروز الأنا الشخصية والأنا السياسية.
واليوم من واجبنا تشجيع أي حراك وطني ديمقراطي لتجميع صفوف النخب المثقفة الديمقراطية في سورية والمنطقة العربية، لان المعركة واحدة وهناك تشابك واضح بين أدوارا للاعبين الدوليين والاقليميين في هذه المنطقة.
كما تعرضت الثورة السورية لعدة أنواع من الدواعش: داعش الإسلامية وداعش اليسارية وداعش القومية وداعش المتعشعشة في قيادات بعض القوى التي تسمي نفسها ديمقراطية. وكلهم حملوا مشاريع خدمت مباشرة أو بشكل غير مباشر اعمال قوى المضادة للثورات بدعم من بعض الدول العربية والإقليمية والدولية.
وبرأيي فإن الأولوية اليوم لشعار التحرر الوطني والاستقلال من الاحتلالات التي تعج بالمنطقة. ففي سوريا لوحدها يوجد 5 احتلالات وهكذا. ولا يمكن بناء دولة مدنية ديمقراطية في ظل الاحتلال ولكن معركتي التحرر الوطني والديمقراطية متشابكتين ولا يمكن الفصل بينهما.
فمرحلة التحرر الوطني التي خاضتها القوى الوطنية القومية في الخمسينيات لم تكتمل بمرحلة تحرر اجتماعي وسياسي ديمقراطي، لذلك فشلت كل تلك الأنظمة وتحولت الى أنظمة استبدادية فاسدة تخدم عائلات او فئات او طوائف وفقدت بذلك شرعيتها الثورية وأصبحت معادية لشعوبها.