بعد جلاء القوات الفرنسية عنها في السابع عشر من إبريل/ نيسان من العام 1946، دخلت سورية مرحلة الاستقلال، أو ما اصطلح على تسميته “الدولة الوطنية”، وتقسم تلك المرحلة، بحسب أغلب الأدبيات، إلى ثلاث جمهوريات، غلب على الأولى والثانية طابع الفوضى السياسية، والصراع بين أيديولوجيات مختلفة، حاولت كل منها اختطاف الدولة والمجتمع عبر القفز إلى السلطة، وكان الجيش مطية لتلك الأيديولوجيات، إلى أن تمكّن من ابتلاعها وترسيخ حكم عسكري انتهى بحكم الفرد في الجمهورية الثالثة. وعلى الرغم من أن الجمهورية الأولى كانت الأفضل في التاريخ السوري؛ إلا أنها لم تخل من الفوضى السياسية وهيمنة النخب المدينية التقليدية، والتي قادت أخطاؤها لتقويض التجربة الديمقراطية في الجمهوريات اللاحقة. وقد تطرقت كتابات سياسية وسير ذاتية كثيرة لجمهوريات ما بعد الاستقلال في سورية، ولكن تلك الكتابات في معظمها لا تخلو من التحيز الأيديولوجي، وإهمال أو التقصير في نقاش السياسات الاقتصادية لكل فترة وآثارها الاجتماعية المباشرة على السوريين، والتي كان لها دور بالغ الأهمية في التحولات التي شهدتها سورية منذ الاستقلال وحتى اندلاع الثورة السورية في العام 2011، وهو ما سيركز عليه هذا المقال، عبر تحقيب اقتصادي سياسي لتاريخ الجمهوريات السورية الثلاث:
الجمهورية الأولى: من الاستقلال إلى الوحدة
تعدُّ هذه الفترة العصر الذهبي للاقتصاد السوري، على الرغم من الفوضى السياسية والانقلابات المتعدّدة التي شهدتها، حيث انقسم النظام الاقتصادي لتلك الفترة بين نهجين؛ رأسمالي منذ العام 1946، ثم نهج اشتراكي معتدل غير ماركسي رسم ملامحه دستور 1950. حيث توسعت مساحة الأراضي الزراعية من 2.205 مليون هكتار إلى 4.650 ملايين هكتار، وشهدت سورية نمواً صناعياً تمثل بإنشاء 130 شركة مساهمة، مجموع رأسمالها 316 مليون ليرة، وتغطي مختلف أنواع الصناعات، كما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بحوالي 400 مليون ليرة سورية مقارنة بالعام 1945 ليصل إلى 1451 مليون ليرة في 1957، وطاولت الزيادة أيضاً نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ليرتفع من 530 ليرة إلى 626 عن الفترة نفسها، وبمعدل نمو اقتصادي بلغ 8%.
وعلى الرغم من الانتعاش الاقتصادي في تلك الفترة، إلا أن طابعها الرأسمالي أدى إلى تركز الثروة في يد أقلية من النخبة السورية التقليدية، وتهميش الطبقة الوسطى والدنيا من المجتمع، الأمر الذي استغلته الأحزاب اليسارية (البعث والشيوعي)، والتي دخلت من بوابة الخلل في توزيع الثروة لتستقطب تلك الطبقات، بذريعة أن النظام الحاكم رأسمالي عميل للغرب. وفي المحصلة، لم تستطع النخبة السياسية “التقليدية” في ذلك الوقت الوقوف في وجه المد اليساري الكبير في المجتمع، إضافة إلى تزايد شعبية الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ما دفعها إلى القبول بالوحدة مع مصر.
الجمهورية الثانية: الوحدة
شهدت مرحلة الوحدة تحولاً في النهج الاقتصادي نحو الاشتراكية الراديكالية على النموذج السوفييتي، إذ افتتح العهد الجديد بقرارات تأميم الشركات والمصانع والبنوك، والبدء بالإصلاح الزراعي. أدّت قرارات التأميم إلى هروب رؤوس الأموال السورية إلى الخارج، حيث بلغ حجم الأموال المهربة 104630 مليون ليرة، كما توقفت الفعاليات الاقتصادية في الأسواق وتراكم المخزون لدى التجار، وتعطلت بعض الصناعات بسبب نقص المواد الأولية، ما أدى إلى وقوع الخزينة السورية في عجز مقداره 271.5 مليون ليرة، ونفاد الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية. إلا أن القطاع العام الصناعي استطاع النهوض بالصناعة في تلك الفترة، لتزداد نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من 10% إلى 16%، حيث أصبح الاقتصاد السوري أكثر تنوعاً بعد أن كان يعتمد على الزراعة بنسبة 42%، لتتراجع نسبة مساهمتها إلى 30% وذلك لصالح التجارة والصناعة في العام 1960، ما ساهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي إلى 2123 مليون ليرة في العام ذاته.
عقب الانفصال في العام 1961، أعاد قادة الانقلاب الوضع الاقتصادي في سورية إلى الخمسينيات، وعادت النخب البرجوازية التقليدية للسيطرة على الحياة السياسية، كما أُلغيت قرارات التأميم، وأُعيدت الأراضي التي منحها الإصلاح الزراعي للفلاحين إلى مُلّاكها الإقطاعيين، ودخلت البلاد ركوداً اقتصادياً تمثل بتراجع الاستثمار والتدفقات المالية الخارجية. أثارت تلك القرارات غضباً شعبياً، وأحدثت حالة استقطاب سياسي واجتماعي، مهدت الطريق إلى انقلاب حزب البعث في 1963.
الجمهورية الثالثة: حكم البعث
أطاح انقلاب 8 مارس/ آذار 1963 بالنخب البرجوازية التقليدية من السياسة والاقتصاد، وأوصل مجموعة من الضباط البعثيين من أبناء الريف والأقليات الطائفية إلى السلطة. حيث اتصفت فترة (1963 – 1970) بفوضى التشريعات الاقتصادية، وتراجع الثقة بالاقتصاد نتيجة الصراع بين أجنحة حزب البعث انقلب البعثيون على النهج الاقتصادي أيضاً، فأعادوا فرض قرارات التأميم والمصادرة بشكل أكبر، وذلك لكسب القاعدة الشعبية وتثبيت حكمهم. ومع حلول العام 1965، أصبحت الدولة تحتكر كامل النشاط الاقتصادي، وتتحكّم بكل قطاعاته ومحرّكاته على حساب القطاع الخاص. اتصفت الفترة من 1963 وحتى العام 1970 بفوضى التشريعات الاقتصادية، وتراجع الثقة بالاقتصاد نتيجة الصراع بين أجنحة حزب البعث، ما أدى إلى هروب رؤوس الأموال السورية إلى الخارج. وفي المقابل، ارتفعت في تلك الفترة مساهمة القطاع العام الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 20% على حساب القطاع الزراعي الذي تراجعت مساهمته إلى 22%، كما فشلت الخطتان، الخمسيتان الأولى والثانية، في تحقيق أهدافها، ما أدى إلى ظهور التضخم النقدي، والذي انعكس بدوره على ارتفاع الأسعار وازدياد عجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
عهد حافظ الأسد
منذ استيلائه على السلطة في العام 1971، اتبع حافظ الأسد نهجاً اقتصادياً أقلّ تشدّداً في تطبيق الاشتراكية، ويتيح المجال لمشاركة محدودة للقطاع الخاص. حيث أصدر الأسد عفواً عن الرساميل التي هُرّبت خارج البلاد سابقاً، وأجاز للقطاع الخاص استيراد سلع كانت ممنوعة، كما خفض سعر صرف الليرة السورية لتشجيع الصادرات. هدف الأسد من فتح المجال للقطاع الخاص إلى إيجاد طبقة برجوازية قوامها تجار وصناعيون من أبناء المدن السُنيّة، وذلك لتشكيل ائتلاف طائفي طبقي يؤمن الاستقرار السياسي والمجتمعي لنظامه، الأمر الذي أحدث تزايداً كبيراً في معدلات التنمية والتي وصلت إلى 10%، إضافة إلى دور المساعدات المالية الخليجية، والتي شكلت عصب الاقتصاد السوري في تلك الفترة. ومع أوائل الثمانينيات، انحسرت المساعدات الخليجية لتكشف عن اختلالات كبرى في بنية الاقتصاد السوري، والذي دخل أزمةً حادّة في منتصف الثمانينيات تمثلت في نقص كبير في عرض السلع الأساسية، وارتفاع نسبة التضخم بشكل مُخيف، حيث قفز سعر الدولار من 4.10 ليرات في العام 1980، ليصل إلى 48 ليرة مع حلول العام 1990. ومع مطلع التسعينيات، خففت تدفقات الأموال الناتجة عن اكتشافات النفط الجديدة في سورية من حدّة الأزمة الاقتصادية، إضافة إلى الإصلاحات التي طبقت في تلك الفترة، حيث اتخذت أولى الخطوات على طريق التحول نحو اقتصاد السوق، وإزالة العقبات الاشتراكية في وجه القطاع الخاص، وجرى إصدار عدة تشريعات اقتصادية لتشجيع الاستثمارات الأجنبية والوطنية، وتفعيل دور القطاع الخاص، وأبرزها القانون رقم 10، والذي منح للمستثمرين إعفاءات جمركية وضريبية كبيرة، وفتح الاستثمار في جميع القطاعات عدا النفط. كما أدى قرار الأسد، المشاركة في تحرير الكويت، إلى إخراج سورية من العزلة الدولية، وعودة المساعدات الخليجية، ما أدّى إلى تحسن مؤقت في الوضع الاقتصادي، لتعود الأزمة الاقتصادية إلى الظهور مع النصف الثاني من التسعينيات، نتيجة انقطاع المعونات الخليجية، وفشل الإصلاحات الاقتصادية التي طبقت.
الأسد الابن
ورث الأسد الابن عن أبيه نظاماً اقتصادياً مُهترئاً، وأعلن عن برنامج إصلاحي شامل رفع توقعات الشعب السوري وتفاؤله، إذ تركّزت إصلاحات الأسد الابن في المجال الاقتصادي على مزيد من تحرير الاقتصاد، والتحوّل مع العام 2005 نحو اقتصاد السوق الاجتماعي. ولكن إصلاحات الأسد فشلت بسبب الفساد والمحسوبيات، وأصبحت حرية الاستثمار حكراً على فئة صغيرة من رؤوس الأموال المقرّبة من النظام. كما أدّى التحول غير المحسوب إلى اقتصاد السوق الاجتماعي إلى زيادة ثروة الطبقة البرجوازية ضمن المدن الكبرى، في حين ترك سكان الأرياف عرضةً للفقر، حيث لعبت التوسعة الانتقائية للقطاع الخاص دوراً كبيراً في زيادة الفجوة ونسب التفاوت بين طبقات المجتمع، وأدّت زيادة نسب التجارة الحرّة مع الصين وتركيا إلى الإضرار بشكل كبير بالمجتمع الصّناعي المحلي، ما رتّب نتائج كارثيّة في نهاية المطاف، حيث رزح نحو 30% من السكان تحت خط الفقر، بينما قفزت نسب التفاوت من 33.7% في عام 1997 إلى 37.4% في عام 2004، وبدأ النظام تدريجياً يخسر قواعده الجماهيرية، لا سيما ضمن الأرياف التي كانت من أكبر مناصري “البعث” منذ وصوله إلى السلطة، فأصبحت تلك الشريحة مُعبّأة للثورة ضدّ النظام.
وعقب الثورة، قوّضت الآلة العسكرية للأسد الابن أركان الاقتصاد السوري كلياً، حيث تفيد أكثر التقديرات تفاؤلاً بأن حجم خسائر الاقتصاد السوري تفوق الـ250 مليار دولار، مع مؤشرات مرعبة للفقر والبطالة، وهو الأمر الذي يطرح تحدّيات خطيرة جداً أمام مستقبل الجمهورية المقبلة في سورية، وخصوصاً مع غياب المتغير الاقتصادي عن معادلة الحل السياسي كتخطيط أو نموذج، واقتصار الحديث عنه كعملية إعادة إعمار فقط، وهي عنوانٌ ضبابيٌّ يستخدم لتسكين آلام الفقراء من النظام والمعارضة، حيث لا تزال الأخيرة تعيش في سبعينيات القرن الماضي أيديولوجياً، وتستنسخ الصراعات المزمنة نفسها، والمنفصلة عن واقع السوريين ومعاناتهم. إضافة إلى ذلك، تغيب النخبة الاقتصادية الحقيقية والقادرة على النهوض بالاقتصاد السوري، نتيجة احتفاظ النظام بالتكنوقراط والخبراء الاقتصاديين من جهة، وغياب البرجوازية الوطنية، حيث تنقسم البرجوازية السورية الموالية منها والمعارضة بين الدول الفاعلة في الملف السوري بانتظار دورها أداة اقتصادية في يد تلك الدول، وهو الأمر الذي قد يعطي مؤشراً إلى أن نصيب السوريين من جمهوريتهم الرابعة لن يكون أفضل منه في الجمهوريات السابقة، وأن الحل السياسي وحده لن يحقق الاستقرار من دون الشرط الاقتصادي، والذي لطالما شكل دافعاً لحراك السوريين.
المصدر: العربي الجديد