مفارقات الحالة الفلسطينية لا تنتهى ، فالفصائل على حالها من الانقسام المزمن ، بينما الشعب الفلسطينى وشبابه فى مكان آخر ، أكثر من مئة شهيد سقطوا برصاص قوات الاحتلال فى الشهور الأخيرة ، إضافة لآلاف الجرحى ومئات الأسرى الجدد ، وشباب فلسطين يردون بما ملكت الأيدى من سلاح بدائى شحيح ، وبفيضان الروح الجريئة المقتحمة ، وبعمليات لا تنسب غالبا إلى الفصائل الفلسطينية المعروفة ، وبمبادرات فردية وعائلية وجهوية ، وبالذات فى الضفة الغربية والقدس المحتلة ، من كتائب “جنين” إلى كتائب “نابلس” ، وإلى بطولة الفدائى المجهول من مخيم “شعفاط” شمال القدس ، الذى صرع مجندة إسرائيلية وأصاب ثلاثة جنود آخرين ، واختفى فى زحام المخيم الفلسطينى ، الذى يضم 140 ألفا ، وفرضت عليه قوات الاحتلال حصارا خانقا لم ينفك حتى وقت كتابة السطور ، بينما كانت جبال “نابلس” تشهد إعلانا ملفتا عن تنظيم فدائى جديد باسم “عرين الأسود” ، لا يطلق رصاصه فى الهواء ، بل إلى صدور المحتلين وقطعان المستوطنين حصرا ، بينما يواصل كيان الاحتلال الإسرائيلى رعاية وحماية جحافل المقتحمين للمسجد الأقصى المبارك ، وتمكينهم من تقديم قرابينهم الوثنية وأداء صلواتهم التلمودية فى باحات “الأقصى” ، وسط صمت عربى رسمى مفجع ، لم يعد حتى يستنكر أو يشجب ، بل صار أقصى ما يفعله غالبا فى البيانات الركيكة ، أن يعبر عن “قلقه” على طريقة “بان كى مون” أمين عام الأمم المتحدة الأسبق ، الذى اشتهر بإشهار “القلق” كلما ألمت بالعالم مصيبة أو حرب ، قبل أن يعود إلى موطنه “الكورى” محمولا على مركب “القلق” المثير للسخرية (!) .
وفى الجزائر ، تواترت اجتماعات الحوار بين الفصائل الفلسطينية ، وتجدد الأمل المراوغ الباهت فى إنهاء سيرة انقساماتها ، مع التخوف المتحفظ من عودة “ريمة” لعاداتها الفلسطينية المتقادمة ، فقد عقدت عشرات ربما مئات من الاجتماعات بالخصوص ، وعلى مدى 15 سنة أعقبت الصدام الدامى فى غزة أواسط 2007 ، وعلى جغرافيا ممتدة من “مخيم الشاطئ” إلى “مكة” و”الدوحة” و”بيروت” وغالبا فى “القاهرة” ، وصدرت عن الاجتماعات وثائق اتفاق تفصيلية للمصالحات ، قد لا تختلف فى شئ عن الورقة التى قدمتها الجزائر كعنوان للاتفاق ، وبمحاورها المكررة تفصيلا عن تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية ، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة ، وإحياء وتوسيع “منظمة التحرير الفلسطينية” ، وتكوين مجلسها الوطنى بالانتخاب ، وإرفاق جداول زمنية لتعهدات التنفيذ ، لكن وثائق الاتفاق كلها تعثرت فى التنفيذ ، وفى تبادل إلقاء التهم ، وبقاء الأوضاع على ما هى عليه ، واستمرار الانقسام الجغرافى والسياسى بين سلطتى “رام الله” و”غزة” ، إحداهما منسوبة لحركة “فتح” ، والأخرى لحركة “حماس” ، فى واقع مريرمحبط ، لا يحقق أدنى مصلحة للشعب الفلسطينى ، ولا يصب فى غير مصلحة كيان الاحتلال الإسرائيلى ، ويحشر الفلسطينيين بين مطارق الاحتلال وسندان الانقسام الفصائلى المدمر .
وقد لا نريد أن نصادر على المطلوب ، ولا أن نحكم مسبقا على فرص نجاح المحاولة الجزائرية الجديدة ، فالجزائر كبلد له قيمة رمزية هائلة ، وقصة التحرير الجزائرى أفضل مثال مفيد ملهم لحركة التحرير الفلسطينية ، الجزائر تعرضت على مدى 130 سنة لاحتلال استيطانى فرنسى ، وتوالت قوافل الشهداء من أبناء وبنات الجزائر ، ووصلت إلى نحو المليون ونصف المليون شهيد وشهيدة ، وتتابعت الرايات وحتى الخلافات والتصفيات ، وإلى أن جرى تأسيس “جبهة التحرير الوطنى” ، التى انطلق بيانها الأول من “القاهرة” فى الأول من نوفمبر 1954 ، وهو ذات التاريخ الذى تقرر كموعد للقمة العربية المقبلة فى الجزائر ، التى ترفض بعناد كل سير التطبيع القديمة والجديدة مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وتطمح لجعل قمتها فلسطينية بامتياز، وقد تعلو النبرة الفلسطينية بالفعل قليلا فى بيان قمة الجزائر المرتقبة ، لكن ذلك قد لا يعنى سوى نوع من الدعم المعنوى اللفظى لحركة الشعب الفلسطينى ، فقد راح الزمن القديم ، الذى كانت النظم العربية فيه تتغنى بالحق الفلسطينى تكريسا لبقاء سلطاتها ، ودخلنا فى وقت آخر أسود من قرون الخروب ، صارت فيه نظم عربية متكاثرة العدد تمضى فى الاتجاه العكسى ، وتستقوى بكيان الاحتلال نفسه لتثبيت دعائم حكمها الاستبدادى ، بل ويتفاخر بعضها بعلاقاته مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، وبتكديس اتفاقاته الأمنية والاقتصادية والاستثمارية مع “إسرائيل” ، وإلى أن صارت خيانة القضية الفلسطينية محض “وجهة نظر” ، بل وجهة النظر الغالبة إلى حين ، وزالت معها المحرمات والمقدسات والبديهيات جميعا ، وهو ما يحعل بيانات القمم العربية حبرا يجف فوق الورق ، ومن دون أن يشفع أبدا بتقديم عون فعلى جماعى مؤثر للشعب الفلسطينى المحاصر المظلوم ، وهو ما تزيد طينته بلة مع الانقسام الفلسطينى الفصائلى المهلك ، فلا وحدة صف عربى تبقت من حول الموضوع الفلسطينى ، ولا حتى وحدة صف فصائلى فلسطينى .
والمحصلة ظاهرة ، وهى أن الشعب الفلسطينى ترك وحيدا فى محنته ، وليس الآن فقط ، بل من عقود مضت ، وما تعودنا على وصفه بالمجتمع الدولى ، الذى يقصد به غالبا حكومات أمريكا وأخواتها وعبيدها فى المجتمع الغربى ، كلها تتسابق لإعلان صهيونيتها ، على طريقة لحاق رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة “ليز تراس” بالرئيس الأمريكى “جو بايدن” ، وإشهارها التفاخر بكونها “صهيونية كبيرة” ، وعزمها نقل السفارة البريطانية فى “إسرائيل” إلى القدس ، لحاقا بما سبقت إليه واشنطن ، وإهدار 947 قرارا مؤيدا للحق الفلسطينى فى مؤسسات الأمم المتحدة ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن التأييد الدولى الرسمى للحق الفلسطينى إلى انكماش مرعب ، عبر عن صدمته به الرئيس الفلسطينى “محمود عباس” فى خطابه الأخير على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ولا أمل فى تغيير الموقف الدولى الرسمى كثيرا أو قليلا ، إلا مع كسر أحادية الهيمنة الأمريكية الكونية ، والتحول لعالم متعدد الأقطاب متوازن القوى ، وهو ما يجرى بعضه اليوم مع وقائع حرب أوكرانيا ، لكن ضمور الموقف الدولى وتآكل الموقف العربى ، لن يتغير جوهريا بغير صحوة ممتدة لحركة الشعب الفلسطينى نفسه ، ولا أحد يملك ترف المزايدة على كفاح الجمهور الفلسطينى ، فالعرب مستسلمون فى أغلبهم ، أو مشغولون بمآسى تفاقمت فى عدد لا بأس به من الأقطار العربية ، وعادت قضية فلسطين فلسطينية بحتة ، بأكثر من أى وقت مضى ، وانتفاضات الشعب الفلسطينى لم تتوقف يوما ، برغم بؤس الظروف المحيطة ، وليس من أحد يزعم أن الفلسطينيين شعب من الملائكة ، ولا يوجد شعب كذلك أبدا ، وفى رحلة تحرير الجزائر الدامية من الاحتلال الفرنسى الاستيطانى ، ظهر مئات وآلاف الخونة وذوو “الأقدام السوداء” ، فلكل شعب أو أمة خونة ومقاومون ، وهكذا الحال فى الشعب الفلسطينى أيضا ، خصوصا مع تكاثر أيادى العبث والتخريب الإقليمية والدولية ، لكن البوصلة الصحيحة تبقى فى وعى المقاومين لدروس التاريخ والحاضر ، فلم توجد أبدا حركة مقاومة لها نفس قوة وسلاح المحتلين ، لكن فرصة زوال الاحتلال تظهر وتتأكد ، وتصبح واقعا فى أحوال بعينها ، وبالذات حين يدرك الاحتلال أن تكلفة بقائه أعلى من فوائده ، وهذا ما ظهر فى ملحمة إجلاء الاحتلال الإسرائيلى عن الجنوب اللبنانى مطالع القرن الجارى ، ثم فى إجلاء الاحتلال الإسرائيلى عن قطاع غزة زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية ، وفى معركة “سيف القدس” أواسط 2021 ، التى كانت معبرا لانتقال المقاومة الفلسطينية إلى طور جديد ، بلور وحدة كفاح الشعب الفلسطينى من غزة إلى القدس والداخل المحتل منذ نكبة 1948 ، وبما عكس حيوية شعب ، صارت له الغلبة السكانية على أراضى فلسطين التاريخية بكاملها ، وحيوية أجيال الفلسطينيين الطالعة ، التى بادرت من دون توجيه رسمى وفصائلى ، إلى إستئناف مقاومة صلبة جماهيرية ومسلحة ، تصاعدت قفزاتها الفدائية الجسورة فى الداخل والضفة الغربية والقدس ، وراكمت تحديا مقتدرا لكيان الاحتلال ، الذى فشل إلى اليوم فيما يسميه حروب “كسر الأمواج” ، فلا القتل يجدى ، ولا الاعتقالات التى طالت حتى الأطفال ، بينما انتشرت بؤر المقاومة من جنين إلى الخليل ونابلس وشعفاط ، وبدا أن الوحشية الإسرائيلية ، لا تقود سوى للمزيد من أعمال المقاومة وتوالد كتائب “عرين الأسود” ، بينما العائق الفعلى أمام المقاومة ، يأتى من مقام آخر ، هو الفجوة التى لاتزال متسعة بين موقف الفصائل الرسمية والتحرك التلقائى النقى لشبان وشابات فلسطين ، إضافة للقيد الذى تمثله التزامات “أوسلو” وأخواتها وتنسيقاتها الأمنية المشينة ، وتوفيرها وضعا مريحا لاحتلال منخفض التكاليف ، وهو ما يعنى بوضوح ، أن إلغاء “أوسلو” وتجاوزها ، وإسقاط الاعتراف بشرعية مدعاة لكيان الاحتلال الإسرائيلى ، هو مفتاح نجاح حوار الفصائل واتفاقها المجدى ، وليس قصص الانتخابات وأخواتها وتوابعها من السلطات الوهمية المتنازع عليها .
المصدر: القدس العربي