اتّسمت مرحلة ما بعد الأربعينيات بتبلور الإيديولوجيا ( العروبية – الإسلامية – الشيوعية)، وبدأ الاصطفاف الإيديولوجي يتأسس ليس على مجرد الآراء والقناعات الأوليّة فحسب، بل على نظريات فكرية وثقافية، تستقي مضامينها من المرجعيات المعرفية لكل طرف، فلم تعد العروبة – وفقاً للقوميين – مجرّد انتماء إلى كيان ما، ولم تعد – كذلك – مجرّد مواقف سياسية حيال حالة ما، بل أضحت نظرية متكاملة بنظر أصحابها، تتضمن مشروعاً نهضوياً يحمل تطلعات الأمة بالوحدة والنمو والازدهار والقوة، وكانت الترجمة العملية لتلك السيرورة هي ولادة أهم التنظيمات والأحزاب القومية في تلك الفترة ( البعث – الناصرية ). وبموازاة ذلك، بدأ التيار الإسلامي أكثر بلورةً مع الحضور الذي جسّده (الإخوان المسلمون) آنذاك، بتوجههم المنهجي الجهادي الذي أفصح عنه (سيد قطب) بكل وضوح.
وعلى الرغم من كثرة الأدبيات التي سطّر فيها الطرفان – القومي والإسلامي – سجالات وحوارات كثيرة، حاول فيها كلا الجانبين أن يبرهن على صوابيّة نظريته، إلّا أن هذه الحوارات – على أهميتها – لم تكن تهدف إلى فهم كل طرف للطرف الأخر، بقدر ما كانت تنزع نحو إفحام الخصم، ولم يظهر في تلك الحوارات أيّ نزوع من كلا الجانبين، نحو التكاملية في مقاربة الحقائق، ولذلك غاب البعد المعرفي للحوار، وساد الخطاب الإيديولوجي الذي قلّ أن يُنتج أي مُنجز معرفي.
العقم الذي انتهى إليه سجال الإيديولوجيا ناتج – كما يرى الكثير – عن أسباب تعود إلى ماهية الإيديولوجيا، باعتبارها تجسيداً لمعتقدات وقناعات قارة في الذهن، وليست مجرّد أفكار خاضعة لنسبية الخطأ والصواب، أضف إلى ذلك أن مشروعية تصورات الطرفين – القومي والإسلامي – كانت متكافئة، ولكن غياب النزعة التكاملية في الفهم والمعرفة قد أبقى قناعات كلا الجانبين في حالة تنابذ دائم.
وعلى الرغم من حالة التباعد السياسي والمعرفي بين الطرفين، والتي وصلت إلى درجة التناحر في بعض الأحيان، لا تنفي وجود سمات مشتركة بينهما، ولعلّ من أبرز تلك السمات:
1 – تجاوز مفهوم (الوطنية)
يرى القوميون أن مفهوم ( الوحدة العربية ) جاء ردّاً على واقع التجزئة الذي فرضته السياسات الاستعمارية على الوطن العربي، وبالتالي فإن جميع الكيانات أو الأقاليم التي كانت جسداً واحداً ثم تقطّعت إلى أوصال، بفعل الإرادات الاستعمارية الغربية، هي كيانات لا تحظى بشرعيتها ( كدول قائمة بذاتها ) من جانب الكثير من القوميين، بل هي كيانات تجسّد حالة راهنة أو طارئة فرضها الاستعمار، وذلك ما أُطلق عليه في الأدبيات القومية بمصطلح ( الدولة القطرية)، ومنذ ذلك الحين اتسم هذا المصطلح بانطباع سلبي على الدوام، فالدولة القطرية باتت مصدر إيحاءات ذهنية ونفسية عديدة، فهي رمز للتجزئة والضعف والتخلف، بل باتت في نظر البعض مصدر الشرور والبلاء كافة، ولهذا فهي لا تستحق الاهتمام في بنائها وتطويرها، لأن هذا المسعى – كما يرى البعض – يجسد تكريساً لما سعى إليه الاستعمار، فهي في أفضل حالاتها ليست أكثر من حالة راهنة، يتوجب تجاوزها إلى بناء كيان قومي موحّد تجتمع فيه الأوصال (الكيانات القطرية)، وذلك الكيان الموحد ( الدولة العربية الواحدة) هو ما يستحق الاهتمام ويوجب التطوير.
ولعلّ ما يماثل هذا التصوّر، قد لازم المشروع الإسلامي المُتَخيّل أيضاً، إذ لا يرى الإسلاميون أن طموحهم السياسي يمكن اختزاله ببناء دولة في بقعة جغرافية محددة من العالم، بل إن الدولة الإسلامية المنشودة هي التي ينضوي تحت لوائها المسلمون جميعاً، وليست التجارب الإسلامية في هذا البلد أو ذاك، إلّا حيّزاً جزئياً، لن يكتمل إلّا بانتظامه أو التحامه بالأجزاء الأخرى، التي تشكّل جميعها دولة الإسلام.
لعلّ السمة المشتركة لكلا التصوّرين السابقين هي تجاهل ما هو واقعي ومحسوس ومعاش، واستمرار التفكير فيما هو مُتخيّل، وكذلك تجاهل الحقيقة القائلة: إنّ مشروعية أي حلم، إنما هي مشروطة بسلامة حوامله الواقعية الملموسة.
(الدولة القطرية) لدى القوميين، و (والولاية الإسلامية القائمة أو المُفترضة) لدى الإسلاميين، واللتان لا تجسّدان سوى واقع مذموم، وطارئ أو مؤقت لدى الطرفين، ما هما – في حقيقة الأمر- سوى الواقع الذي ضحّى به الطرفان، امتثالاً للحلم الذي تثبت الوقائع والمنطق معاً – يوماً بعد يوم – طوباويته وعدم جدواه.
فالكيانات الراهنة في نظر الإسلاميين والقوميين، والتي هي في واقع الحال، هذه الدول التي نعيش في أكنافها، لم تبدُ سوى دول مهترئة وهشة، ومبعث هشاشتها ليس بسبب عدم توحّدها كما يوحي به خطاب الإيديولوجيات، بل بسبب افتقارها إلى مجمل النواظم القانونية والاجتماعية والأخلاقية التي تحدّد العلاقة فيما بين الأفراد بعضهم البعض، أو بين الفرد والدولة، وكذلك بسبب افتقار مواطني هذه الدول إلى الحصانة الإنسانية التي تتقوّم على الحريات بكافة أشكالها، وعلى مبدأ المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون، هذه الحصانة هي المؤسِّس الحقيقي لمفهوم الوطنية الذي سبّبَ غيابُه بروزَ مجمل التناقضات العرقية والطائفية والسياسية التي تستنزف طاقات الشعوب، فضلاً عن أن التجارب الوحدوية الأكثر نجاحاً عبر التاريخ، هي تلك التي تتأسس على وحدة المصالح وتكامل الاقتصاد وتلبية الحاجات المجتمعية، وليست تلك التي تتأسس على خطاب إيديولوجي مبعثه الدين والثقافة واللغة وحسب.
2 – التنظيمات والأحزاب العابرة للحدود
لعل السمة الأبرز بين الإيديولوجيات الشمولية جميعها هي تجاوزها لتموضعات الجغرافية المحلية، وسعيها نحو الامتداد والانتشار، وذلك وفقاً لمحدّداتها الفكرية والسياسية، ووفقاً لمعالم مشاريعها التي تسعى إلى تحقيقها، ولتحقيق هذا المسعى، كان لا بدّ من إيجاد حوامل مؤسساتية تعمل على تنظيم الآلية المناسبة لنشر الأفكار والترويج لها، ومن ثم تعمل على كيفية تنظيم واصطفاف الحواضن الشعبية لتلك الأفكار، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه : الأطر التنظيمية أو الحزبية، وسأكتفي بالإشارة الوجيزة إلى تجربتين حزبيتين، واحدة قومية، والأخرى إسلامية.
أ – حزب البعث العربي الاشتراكي
أُتيح لحزب البعث أن يقبض على السلطة في بلدين عربيين هما سورية والعراق، وذلك من خلال انقلابين عسكريين، الأول في سورية ( آذار 1963 وما يزال حاكماً حتى الوقت الراهن، والثاني في العراق من تموز 1968 ، وكانت نهايته عام 2003 نتيجة الاحتلال الأميركي للعراق، وبسبب خلاف مستفحل بين قيادتي البلدين فقد ادّعى كل واحد منهما حيازة الشرعية واتهم الآخر بالانزياح عنها، وبات لكل قيادة منهما تنظيمات أو أحزاب فرعية في معظم البلدان العربية، وكان يُطلق على كل تنظيم من هذه التنظيمات ( حزب البعث – القطر الفلاني )، إلّا أن جميع هذه التنظيمات القطرية تعمل وفقاً للبرنامج والنهج الذي ترسمه وتحدد ملامحه ( القيادة القومية) التي تتموضع سواء في سورية أو العراق، ولعلّ ما هو مهمٌّ في هذا السياق، هو الإشارة إلى أن مجمل النشاط الحزبي والحراك السياسي لتلك (التنظيمات القطرية)، لم تكن – في غالب الأحيان – بواعثه ومحركاته هي الواقع الاجتماعي لمجتمعاتهم المحلية، وكذلك لم تكن رؤاهم وتصوراتهم السياسية مستقاة أو مُستلهمة من احتياجات أبناء او سكان بلدانهم المحليين، بل يمكن القول: إن جميع التنظيمات القطرية كانت تعمل وفقاً لما تمليه عليها مصالح القيادة الحاكمة، سواء في العراق أو سورية، فدمشق وبغداد هما قِبلتا البعثيين، فمن كان بعثياً أردنياً على سبيل المثال، فعليه أن ينظر للواقع الأردني من خلال المصلحة العراقية، وهكذا.
ب – الإخوان المسلمون
تؤكّد قوى الإسلام السياسي كافة، الجهادية منها والدعوية، على أنها تستوحي أهدافها وغاياتها من مرجعيات نصية مقدّسة، كما تؤكد أن من مهامها تنفيذ أوامر الله على الأرض، ولئن اجتهدت هذه القوى في صياغة بعضٍ من شؤونها التنظيمية أو الإدارية، نتيجة حاجات تكتيكية تقتضيها ظروف العمل، إلّا أن اجتهادها حول المسائل الأساسية كالغايات والأهداف الكبرى والأولويات، فإن الاجتهاد فيها يبقى مشروطاً بقرائن نصية. ولعل هذا الأمر يجعلنا ندرك بيسرٍ، السبب أو العلّة التي تحدد آليات عمل الإخوان المسلمين وأولوياتهم التي يعلنون عنها، ذلك أن ما يعلنون عنه بوضوح، هو أن أولوياتهم تتوجه نحو عموم المسلمين، قبل أية صفة عرقية، أو مناطقية أو إقليمية، أولئك المسلمون الذي ينتشرون على امتداد الكرة الأرضية، وبهذا يكون برنامج الحزب أو التنظيم، ونشاطه وحراكه وأولوياته البرامجية غير مشروطة بانبثاقها من الحيّز المحلّي أو الجغرافيا التي يتموضع فيها الحزب، بل هي عابرة لحدود الإقليم أو الدولة.
لعلّ السمة المشتركة بين القوميين والإسلاميين معًا، هي محاولة كل منهما تجاوز التخوم الوطنية، بل تجاهلها في كثير من الأحيان، باعتبارها حالة طارئة، بل غالباً ما كان التمسّك بها يُعدّ انكفاءً عن الهدف الأكبر أو الأسمى.