قرأت مقالة خالد العبود التي جاءت بعنوان “ماذا لو غضب الأسد من بوتين”، ردًا على بعض الكتابات الروسية التي تتحدّث عن رؤية روسية مغايرة للوضع في سورية، ترتكز على إنهاء دور رأس النظام في واقع سورية ومستقبلها.
وقبل وضع ملاحظاتي على المقالة، لا بدّ من تثبيت النقاط الآتية أولًا:
1- بداية، لا بدّ من امتلاك المرء القدرة على القراءة الموضوعية لأي نصّ، أكان الكاتب صديقًا أم عدوًا، وسواء أكنا نقدِّره أم نكرهه.
2- توحي المقالة، بطريقة صوغها، ولغتها، وعلامات الترقيم فيها، بأنها مقالة غير عادية، جرى الاهتمام بها كثيرًا، ولم تخرج إلى العلن إلا بعد موافقة أركان النظام عليها؛ فهي تعطي فكرة حقيقية عن طريقة تفكير النظام، على الرغم من الهجوم الذي تعرضت إليه من قبل موالين آخرين للنظام، على الأرجح بتوجيه من النظام نفسه، بعد أن أوصلت المقالة رسالة النظام إلى روسيا.
3- تحتوي المقالة على بعض المسائل التي تصلح لأن تكون مادة للسخرية، لكن أيضًا من يكتفي بالسخرية منها أو لا يجد فيها إلا مادة للسخرية فحسب يستحق هو الآخر السخرية منه.
السخرية طبيعية، لكن عندما تُحال القضايا كلها لتوضع في خانة السخرية، فأخشى أن تكون الطريقة هذه سلوكًا نهرب به من مواجهة الحقائق إلى إقناع أنفسنا بدونية الآخر، وإلى النوم على مخدّات الحقائق التي تريحنا، والتي لا تطلب منا أي تفكير أو عمل سوى الضحك، فنكون في الحصيلة كمن يسخر من نفسه.
4- لغة القوة والمبالغة في المقالة؛ تحفل مقالة العبود بالمبالغة وادعاء القوة، وربما كان الهدف من هذا هو تطمين موالي النظام، والرد على الإهانات الفعلية من بوتين لرأس النظام السوري التي كثرت في الآونة الأخيرة، ولا شك في أن مدائح العبود تؤثر فيها وتطمئنها.
إذا انتقلنا إلى الحديث عن المقالة نفسها، أقول:
1- فرضيات صحيحة، لكنها ناقصة
هنا أقول، بعقل بارد، إن الفرضيات التي جاءت في المقالة صحيحة وممكنة، لكنها ناقصة، لأنها لا تأخذ فرضيات الآخرين (فرضيات الدول والفاعلين السياسيين) في الحسبان، أي تتعاطى المقالة مع الأطراف الأخرى وكأنها سلبية وغير فاعلة، وستظل تتفرج على “النظام السوري” وهو ينفذ فرضياته على أرض الواقع. مع ذلك، فإن الفرضيات التي جاءت في مقالة العبود يفترض أن تكون جزءًا من تفكير كل سوري معارض يريد إفشالها أو مواجهتها حقًا، لكن استنادًا إلى أرضية وطنية. ففي كل مرة، وعند كل مفصل، أو تصريح أو تسريب ما، يجري الحديث عن اقتراب سقوط النظام بطريقة سحرية تستند إلى فرضيات سحرية وعقل خرافي وكسول لا يريد أن يتعب أو يبذل جهدًا حقيقيًا في سبيل تحقيق أهدافه، وينتظر الآخرين ليقوموا بمهماته كلها.
2- قراءة جزئية للواقع
على الرغم من أن فرضيات العبود لديها نصيب من التطبيق فعلًا على أرض الواقع عند اضطرار النظام السوري إليها، إلا أنها: أولًا؛ تتناول الواقع بصورة جزئية، فلا تأخذ إلا الوقائع المرتبطة بالنظام السوري الضيق، ولا تتعاطى مع الفرضيات أو الوقائع الأخرى المتعلقة بالمجتمع السوري الداخلي مثلًا، الذي وإن كان يبدو ساكنًا إلا أنه لا يمكن الاطمئنان إلى عدم انفجاره في وجه الوضع الاقتصادي المتردي جدًا، أو واقعة الضربات الإسرائيلية المتكرِّرة التي أصبحت فلوكلورًا يطاول كل بقعة سورية فيها وجود إيراني، والتي تُضعف، بالضرورة، من فرضية تعويل العبود على الوجود الإيراني في سورية، وتأثيره في مواجهة تغيّر الموقف الروسي.
وثانيًا؛ تنظر فرضيات العبود إلى سورية ونظامها السياسي نظرة خرافية ترتكز على أن سورية مركز العالم، وأن نظامها السياسي يتحكم بسياسات العالم كله، وفي هذا يتطابق العبود (أو نظامه) مع رؤية المعارضة السورية لسورية ونفسها، إذ غالبًا ما تخاطب العالم بصيغة يبدو فيها أن العالم كله ليس له من عمل سوى التآمر على سورية وشعبها وثورتهم.
3– مكامن قوة النظام السوري السياسية والعسكرية
تفرط المقالة بالحديث عن مكامن قوة النظام السوري، وهي صحيحة، على الرغم من المبالغة الشديدة فيها بالطبع. هنا أضع الملاحظات الآتية: أولًا؛ لا تأتي قوة النظام السوري، بالدرجة الأولى، من قوته المرتبطة بالعائلة والجيش وأجهزة المخابرات وغيرها، بل من قوة حقائق التاريخ والجغرافيا المرتبطة بسورية نفسها، والتي كانت ملك النظام كليًا طوال نصف قرن. ثانيًا؛ كل مكامن القوة الذاتية للنظام مكرّسة لهدف استمرارية النظام فحسب، ولا تتضمن أي عنصر إيجابي أو بنّاء في واقع سورية ومستقبلها، أي هي تقوم أساسًا على معادلة (استمرارية نظام وضياع بلد).
يمكننا أن نضيف إلى فرضيات العبود التي تتعلق بقوة النظام فرضيات أخرى، لكنها جميعها تصبّ في خانة القوة السلبية التي يستفيد منها النظام ولا تستفيد منها سورية: النظام السوري قادر على تخريب لبنان في خمس دقائق، وقادر على التخريب في العراق أيضًا، وفي الأردن إن اقتضى الأمر. نعم، النظام قادر على ممارسة الإزعاج في محيط سورية؛ أصلًا طاقة النظام كلها في السابق تركزت في هذا الاتجاه، فخلال تاريخ طويل عمل النظام على اللعب في ساحات الآخرين لمنعهم من اللعب في الساحة السورية.
كذلك، يتقن النظام السوري جيدًا اللعب على الوقت ونسج شبكة من التحالفات وبناء المليشيات والجماعات المسلحة من كل نوع، وهذه عناصر يمارسها النظام بلا قلب ومن دون تردّد، بينما دول الخليج (التي رفعت شعار دعم الثورة) مثلًا أعجز من أن تقوم بهذه الأدوار السياسية والاستخبارية واللوجستية.
عندما استعان النظام السوري بإيران لمساعدته في إنهاء الثورة والمعارضة، كان يعلم أن هناك من سيساعده مستقبلًا في إخراج إيران أو الحدّ من نفوذها إن اقتضى الأمر (إسرائيل ودول الخليج وأميركا)، وعندما استعان بروسيا، وتنازل لها عن بعض المصالح، كان يعلم أن إزعاج روسيا في سورية ممكن بقوة أعدائها في العالم أو بقوى محلية يمكن أن يصنِّعها لهذا الغرض تحديدًا تحت شعارات جديدة، لكن فات العبود شيء مهم هنا، وهو أن أميركا لم تكن مهتمة كثيرًا على طول الخط، وأن التدخل الروسي في سورية لم يكن منبوذًا أميركيًا.
يفسح النظام السوري المجال لتشكل المنظمات المتطرفة من كل نوع، لأنه يعرف أن أميركا لن تقبل بوجودها، وستضطر إلى مساعدته، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لكن فائدته تكمن في تمزيق ساحة الثورة والمعارضة وتشويهها. يساعد النظام في تقوية حزب العمال الكردستاني لإرباك تركيا وإشغالها بنفسها، ولا تخيفه قوة العمال الكردستاني لأنه يعرف أن تركيا ستعيده إلى حجمه الطبيعي في المآل.
لكن أيضًا، لا تعني قدرة النظام السوري على إزعاج الآخرين وجود شكل من الندية في علاقاته بحلفائه؛ فالعلاقة السورية الروسية جوهرها تبعية النظام السوري لروسيا لا العكس، ودور روسيا في المنطقة والعالم لا يتوقف على وجودها في سورية فحسب، روسيا أكبر كثيرًا من ذلك. والأمر نفسه ينطبق على العلاقة السورية الإيرانية من حيث التبعية السورية لإيران، لكن علاقة التبعية هذه لا تمنع وجود قدرة لدى الطرف التابع أو الضعيف على إزعاج الطرف القوي فيها. فليس من المنطقي أبدًا أن يسعى العبود في فرضياته لإظهار النظام السوري وكأنه المتحكم الرئيس بسياسات الدول، وأنها طوع بنانه، يطلب منها التدخّل في سورية فتتدخل، ويطلب منها الخروج فتخرج. النظام قادر على إزعاج أي طرف من الأطراف الموجودة، لكن الأطراف الأخرى قادرة أيضًا على إزعاجه.
في الحقيقة، تكمن أهم نقطة قوة للنظام السوري في ضعف واهتراء معارضته فعلًا. ماذا جهزت المعارضة لنزع أوراق قوة النظام هذه؟ لا شيء، بل إنها ساعدته كثيرًا بتمزقها التنظيمي وخطابها السياسي الإعلامي على أقل تقدير؛ فالشعارات والصراخ لا تسقط طفلًا عن دراجته، والاعتماد الكلي على الخارج لا يأتي بالمستقبل الذي نشتهيه بل بمستقبلٍ على مقاس الخارج ومصالحه. المعارضة السورية في ساحة الانتظار، وعملها كله يرتكز على توقّع فشل النظام واهترائه، وليس على نجاحاتها. كل الأطراف في سورية لديها فرضيات، بالتوازي مع مكامن القوة لديها، باستثناء “المعارضة السورية” المطواعة لفرضيات الدول التي تستضيفها.
4- قوة الشرعية القانونية للنظام
أفرطت حكومات العالم، خلال السنوات الماضية، بالحديث عن فقدان النظام للشرعية، لكن هذا الحديث لم ينتقل أبدًا إلى ساحة التجسيد القانوني، وظل في إطار التصريحات الإعلامية التي كانت وما زالت غذاء دسمًا للأداء المعارض الهزيل. لذلك، فالعبود محق عندما يفترض الآتي: “ماذا لو وقف مندوب سوريّة في مجلس الأمن ليقول: “نعتبر الوجود الروسيّ في سوريّة احتلالاً، وسوف نواجهه بكلّ السبل التي منحتنا إياها القوانين الدوليّة؟”. هي فرضية ممكنة التطبيق عندما يحتاج النظام إليها طالما أنه لا يزال يحتفظ بشرعيته القانونية.
لا يزال النظام السوري يمتلك الشرعية القانونية عالميًا، وهو الأمر الذي استهانت به المعارضة، واكتفت بتكرار أنشودة فقدان النظام للشرعية المعنوية أو الأخلاقية. يكفي مثلًا أن نقول إن مساعدات الأمم المتحدة للسوريين في المناطق التي يُقال عنها إنها “محرَّرة” لا تمرّ إلا عن طريقه، لأنه النظام الشرعي والقانوني المعترف به. ولم يكن سبب وقوف النظام بشراسة، في الأمم المتحدة، ضد وصول المساعدات عن غير طريقه، هو إمعانه في إيلام الناس فحسب، بل أيضًا، وأساسًا، حرصه على عدم فتح الباب أمام نزع شرعيته القانونية تدريجًا.
في المقابل، كانت فرقة “حكومة المعارضة”، في كل فتراتها، مثل فرقة الشحادين، لا تقدِّم ولا تؤخِّر، بل إن تشكيلها أساسًا جرى من دون التفكير بطريقة الحصول على الشرعية القانونية. كذلك، فشلت فرقة المعارضة كلها في تحويل الاعتراف المعنوي بالائتلاف الوطني من قبل 130 دولة إلى اعتراف قانوني، بل إنها صرفت وحطمت كل الشرعية المعنوية التي حصلت عليها بفضل الثورة.
تكمن قيمة قانون سيزر الرئيسة في أنه خطوة مهمة في طريق نزع الشرعية القانونية للنظام، وهذه الخطوة على المستوى القانوني أهم من كل الفصائل المسلحة والجيوش التي شُكِّلت طوال الفترة الماضية. هذا القانون اليوم إحدى نقاط ضعف النظام التي يمكن أن تلتهم مكامن قوته تدريجًا، لكن من دون إنكار احتمال تعطيله عبر مساومات سياسية.
5– كلمة أخيرة، في الرؤية الاستراتيجية
نسيت المقالة، على ما يبدو، في إطار استعراضها مكامن قوة النظام، الحديث عن مكامن ضعفه أو مستقبله على المستوى الاستراتيجي. نقاط ضعف النظام السوري هي الأخرى عديدة، لكن لا يوجد أي تصور أو عمل لتعزيزها، لا لدى المعارضة، ولا لدى تركيا أو دول الخليج مثلًا، بل إن تركيا نفسها تحولت إلى اللعب الدفاعي نتيجة تردّدها في السنوات الخمس الأولى بعد 2011.
من نقاط ضعف النظام السوري نذكر: تحول النظام السوري إلى نظام غير مرغوب عالميًا بحكم تلطخ يديه بالدم، لذلك أصبحت احتمالية حدوث توافق إقليمي دولي على إخراجه من المعادلة السياسية أكثر كثيرًا من احتمالية إنعاشه، عدم وجود رغبة لدى الدول أو لدى السوريين في المساهمة في إعادة إعمار سورية بوجوده، وعجز حلفائه عن الإسهام في الإعمار بحكم أوضاعهم المتردية، حالة عامة من التذمر في سورية بحكم الوضع الاقتصادي الذي يزداد ترديًا يومًا بعد يوم، عدم قبول النظام السوري من شرائح وفئات عديدة من السوريين، وصول الوضع في الشمال الغربي من سورية، وفي شرقي الفرات، إلى لحظة لا يستطيع معها القيام بالشيء الكثير لاستعادة سلطته فيها، تمزق جبهته الموالية والنزاعات في ما بين أركانها على المال ومراكز النفوذ، فضلًا عن العواقب التي يمكن أن تترتب على قانون سيزر… إلخ.
لقد أصبح النظام السوري نظامًا لا يستطيع الاستمرار من دون استخدام العنف، يستطيع القتل لكنه لا يستطيع الحكم، ما يجعل احتمالات انتهائه أكبر كثيرًا من احتمالات استمراره على المدى المتوسط والبعيد، فليس بالعنف وحده تحيا الأنظمة.
المصدر: العربي الجديد