لا تنظر القيادة التركية، وخصوصاً الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى الانتخابات المقبلة استفتاء على سياساتها، بل استحقاقاً مصيرياً يحدّد مستقبل الرئيس وحزب العدالة والتنمية (الحاكم)، ويحدّد مستقبل تركيا، الدولة والشعب، قوة تبحث عن مكانة ودور وازن في الإقليم والعالم. لذا، تحمّلت الاستهجان والاستخفاف الداخلي والخارجي على خلفية عكسها مسارها السياسي، وانتقالها من سياسة المواجهة والمشاكسة إلى سياسة التهدئة والمهادنة، اعتبرها بعضهم إراقة لماء الوجه، ووضعت ثقلها ووظّفت قدراتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية من أجل توفير مستدعيات الفوز في الانتخابات البرلمانية والرئاسية من موقع قوّة، والحصول على تفويض كبير لمواصلة سياستها للاستقلال وحجز موقع جيوسياسي إقليمي ودولي بارز.
لذا، لجأت القيادة التركية إلى اتخاذ مواقف وإجراءات داخلية وخارجية لتحسين سجلها لدى الرأي العام التركي، لتعزيز موقفها قبيل الانتخابات العتيدة عبر تغيير المزاج الشعبي، الذي ابتعد عنها على خلفية معاناته الشديدة من تآكل الدخل، نتيجة انهيار العملة الوطنية، هبطت الليرة من 3.5 إلى 18 ليرة للدولار الواحد، وقدرته الشرائية، نتيجة التضخّم وارتفاع الأسعار. قفز التضخّم إلى نسبة فلكية، حوالى 80%، وتبخّر مدّخراته، نتيجة ارتفاع كلفة المعيشة والخدمات الصحية والتعليمية … إلخ، وارتفاع نسبة البطالة، وزيادة المديونية الداخلية والخارجية التي ترتّبت على سياستها الاقتصادية، وتخفيف الاحتقان الشعبي، عبر زيادة الرواتب ومغازلة قوى اجتماعية ومذهبية، مشاركة الرئيس التركي في حفل افتتاح جماعي لبيوت الجمع (دور عبادة الطائفة العلوية)، أربعة دور، وحفل وضع حجر أساس لسبعة دور أخرى في عموم تركيا، رافقه نائبه فؤاد أوقطاي ووزير الداخلية سليمان صويلو ووزير الثقافة والسياحة محمد نوري أرصوي والمتحدث باسم الرئاسة إبراهيم كالان، وزيارة مسؤولين من وزارتي الثقافة والسياحة والداخلية 1585 بيتا للجمع في إطار ما سمته القيادة التركية “خطّة الوحدة والتضامن الوطني” (تمثل الطائفة العلوية ما بين 15% و20% من سكان تركيا البالغ عددهم 85 مليون نسمة). وسعت إلى تحفيز الشعور العرقي/ القومي التركي بضخ إعلامي، صوّر الكرد خطرا وجوديا على تركيا، وتحرّكت عسكريا في سورية والعراق ضد قواعد حزب العمال الكردستاني التركي وامتداداته في هذه الدول، مع العمل على استقطاب الصوت الكردي، يشكّل الكرد كتلة ناخبة فاعلة ووازنة، حيث يقارب عددهم في تركيا الـ20 مليون نسمة، عبر تواصل القيادة التركية مع وجهاء كرد في المدن والبلدات ذات الغالبية الكردية وإطلاق الوعود بتحسين الخدمات والظروف المعيشية، والعمل على لجم التضخّم بزيادة التبادلات التجارية وجلب الاستثمارات الخارجية بوصل العلاقات مع دول وأنظمةٍ كانت قد دخلت معها في قطيعة ومواجهات حول ملفات سياسية وجيوسياسية عديدة، الإمارات، السعودية، مصر، إسرائيل، وأبقت على علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع روسيا، متجاهلة العقوبات الغربية على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا.
انفتحت القيادة التركية على خصومها التقليديين لكسر الجليد وإعادة وصل ما انقطع معهم، فقد استقبل الرئيس أردوغان رئيس الإمارات محمد بن زايد يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، كان حينها وليا للعهد لأبو ظبي، في أنقرة، وزار الرئيس التركي الإمارات يومي 14 و15 فبراير/ شباط 2022، حيث وقعت الدولتان 13 اتفاقية تشمل مجالات الاستثمار، والدفاع، والنقل، والصحة، والزراعة، بلغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين نحو 10 مليارات دولار، والعمل على اتفاق شراكة استراتيجية شاملة بمليارات الدولارات. وتم الاتفاق على ضخّ استثمارات عاجلة بقيمة 10 مليارات دولار لدعم الاقتصاد التركي خلال زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد إلى أنقرة ولقائه الرئيس أردوغان.
كما تقدّمت القيادة التركية ببادرة حُسن نية تجاه السعودية بإغلاقها الدعوى القضائية في قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018 وإحالتها إلى القضاء السعودي، وزيارة الرئيس التركي المملكة لتحريك المياه الراكدة. وقد عادت الرياض عن قرار سابق لها بمقاطعة البضائع التركية، وجرى توقيع اتفاقات اقتصادية وعسكرية، شراء طائرات مسيّرة تركية من طراز بيرقدار 2، وقد تعزّزت العلاقات بزيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى أنقرة وإجراء محادثات مع الرئيس أردوغان حول قضايا المنطقة والعلاقات الثنائية.
وقد شمل التحرّك التركي للتواصل مع خصوم الأمس دقّ الباب المصري والعمل على تفكيك الجمود القائم في علاقات الدولتين على خلفية إدانة القيادة التركية الانقلاب ضد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، ومجزرة ميدان رابعة العدوية، واحتضان أنقرة كوادر وقيادات إخوانية، والسماح لها بالعمل السياسي والإعلامي، وتنسيق مصر مع إسرائيل واليونان وقبرص لمحاصرة تركيا شرق المتوسط عبر تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط”، الذي ضمّ اليونان ومصر وقبرص والسلطة الفلسطينية وإسرائيل والأردن للتعاون في مجالي استخراج الغاز وتسويقه، حيث عُقدت لقاءات استخبارية ودبلوماسية بين مسؤولي الدولتين، تحدّدت خلالها نقاط الخلاف والاتفاق على إجراءاتٍ لإعادة الدفء للعلاقات، بما في ذلك وقف محطات تلفزيونية مصرية معارضة/ إخوانية تبثّ من الأراضي التركية وسحب المرتزقة الذين أرسلتهم تركيا إلى ليبيا، والمساعدة في حل الأزمة الليبية بوقف دعم أطراف الصراع.
كما شمل التحرّك إسرائيل التي قطعت العلاقات معها على خلفية الاعتداء الإسرائيلي على السفينة التركية “مافي مرمرة” المشاركة في حملة أسطول الحرية المتوجّهة إلى قطاع غزة لكسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل يوم 31 مايو/ أيار 2010 وقتل تسعة مواطنين أتراك. وتعمّقت القطيعة على خلفية مناصرة تركيا حركة حماس وإدانتها العدوان الإسرائيلي على القطاع عامي 2014 و2015 واحتضانها قيادات من الحركة. وبلغت القطيعة ذروتها باتهام الرئيس التركي إسرائيل بارتكاب “إبادة جماعية” والتصرّف مثل “دولة إرهابية” وطرد السفير الإسرائيلي عام 2018، وتأييد إسرائيل اليونان وقبرص في خلافاتهما مع تركيا حول حدود المياه الاقتصادية في البحر الأبيض المتوسط، واتفاقها معهما على مشروع خط أنابيب شرق المتوسط “إيست ميد” لنقل الغاز إلى أوروبا؛ وقطع تركيا الطريق على المشروع بعقد اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع الحكومة الليبية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2019. وقد بدأ الرئيس التركي كسر الجليد مع إسرائيل في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 بمكالمته الهاتفية مع الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، وأخرى مع رئيس الوزراء نفتالي بينت. ولاحقًا أفرجت تركيا عن سائحين إسرائيليين كانا قد احتُجزا لديها بتهمة التجسس. وأعلن أردوغان سعيه إلى مصالحة تدريجية معها، وقد جرى ذلك أخيرا بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، وتعيين سفير تركي في إسرائيل.
تمثلت المحطة الأخيرة في التحوّل السياسي التركي بالإعلان عن الاستعداد للانفتاح على النظام السوري والتنسيق معه في ملفيّن رئيسين: عودة اللاجئين ومحاربة قوات سورية الديمقراطية (قسد)، الملف الأول ورقة رابحة في الانتخابات بعد ما روّجت أحزاب المعارضة أن اللاجئين هم سبب الوضع المعيشي المأساوي، وتحوّل الدعاية إلى موقف شعبي. والثاني ورقة قوية للجم حركة المعارضة ومساعيها الانتخابية لكسب أصوات الكرد عبر تضخيم الخطر الكردي، وقطع الطريق على أحزاب المعارضة بتحويل التحالف مع أحزابٍ وجهاتٍ سياسيةٍ كردية إلى جُرم وطني. حصلت لقاءات على مستوى استخباري عال لجسّ النبض، وتحديد خريطة طريق لتطبيع العلاقات، وجاءت التصريحات السياسية لتؤكّد هذا التوجه، وتشير إلى متطلبات إتمامه، لكن من دون حصول خطواتٍ عملية.
تعكس التحرّكات التركية المذكورة أعلاه رغبة القيادة التركية في تحقيق إنجاز عملي يفسح أمامها الطريق لاستعادة شعبيتها وتعزيز حظوظها الانتخابية، عبر تغيير المزاج الشعبي السلبي من سياساتها الاقتصادية واستقبالها ملايين اللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان عن طريق إعادة اللاجئين ومواجهة التضخّم والبطالة والحد من ارتفاع الأسعار. ولكن الطريق ليست سالكة، فالخلافات والتنافس الجيوسياسي وتقلب المواقف الذي راكم الشكوك وانعدام الثقة يحتاج فترة اختبار طويلة، فالدول التي قبلت الانفتاح وتعاطت معه بإيجابية، لاعتبارات خاصة ومرحلية، لها مطالبها وتطلعاتها، فالإمارات التي تناور للعب دور مميز في الخليج والإقليم ومنافسة السعودية في هذا المجال تريد استثمار قدراتها المالية لجذب تركيا إلى صفها في هذا التنافس/ الصراع. والسعودية التي تنظر بارتياب إلى تحرّكات الإمارات الانفرادية، لا تستطيع الاطمئنان لتركيا التي تعتبرها منافسة جيوسياسية على قيادة العالم الإسلامي السني. ولن تغفر مصر لأردوغان وقوفه ضد الانقلاب وسعيه إلى لعب دور مؤثر في العالم العربي، ما يجعلها ترفض تصوّره لحدود تركيا البحرية، وترفض اتفاقاته مع الحكومة الليبية بشأن الحدود البحرية والتعاون العسكري، وتنسّق مع اليونان وقبرص لمواجهة تحرّكاته. النظام السوري، بدفع ذاتي أو روسي إيراني، لا يقبل التصوّر التركي للمخرج السياسي، ويريد من تركيا الانسحاب من الأرض السورية ورفع الغطاء عن فصائل المعارضة المسلحة ووقف دعمها لها. إسرائيل لا ترى وجاهة في ترك الحلفاء الجدد، اليونان وقبرص، من أجل تركيا. وهذا حدّ من فرص تحقيق نجاح في الملفين الأهم لاسترضاء القاعدة الشعبية: اللاجئين ووقف التضخم.
أما العقبة الكبرى أمام التحرّك السلس في هذه المصالحات والبناء عليها لتطوير خيارات سياسية واقتصادية مؤثّرة، فتجسّده المعركة بين القوى العظمى على مستقبل النظام الدولي وتبعاتها وانعكاساتها على الصراعات الجيوسياسية والتنافس الاقتصادي، حيث اتخذت السياسة التركية في هذه المعركة، وتعبيرها الأبرز غزو روسيا أوكرانيا، والدعم الغربي الوازن للأخيرة، دورا مستقلّا عن أطرافها، وعملت على تسجيل مواقف وتحقيق مكاسب ذاتية باستفزاز جميع الأطراف، ودفعهم إلى الانتقام من تركيا في ملفاتٍ تلحق بها ضررا عاما وبالحملة الانتخابية لأردوغان وحزبه ضررا مباشرا.
منعت روسيا تركيا من شن عملية عسكرية ضد “قسد”، وحرّكت المناوشات في سورية، وشنّت بالتعاون مع قوات النظام والمليشيات الإيرانية ضربات جوية وبرّية على مواقع الفصائل الموالية لتركيا، وطاول القصف مواقع للجيش التركي، شاركت “قسد” في بعضه، لدفعها إلى وقف تزويد أوكرانيا بمسيّرات بيرقدار والكفّ عن انتقاد عمليات الاستفتاء والضمّ التي حصلت في أراض أوكرانية. الولايات المتحدة، التي كافأت تركيا على مساعدتها أوكرانيا بالمسيّرات بسحب تأييدها خط غاز شرق المتوسط “إيست ميد” عاقبتها على عدم وقف تعاونها مع روسيا، وتنفيذ العقوبات الغربية عليها، بتسليح اليونان وقبرص، وإقامة قواعد على أراضيهما، تسع قواعد في اليونان وقاعدة ضخمة في قبرص، فالتنافس الحادّ بين القوى العظمى لا يقبل ولا يسمح بالحياد والاستقلالية.
لقد دلفت القيادة التركية في طرقٍ كثيرة لتحقيق حلمها في الفوز في الانتخابات، وتجاهلت الباب والطريق الأهم والأصلح: التحرّك نحو إعادة صياغة المعادلة الوطنية ومواجهة ملفّاتها بجدّية وإحقاق الحقوق في ظل نظام يستبعد النزعة العرقية والمذهبية من معادلة الصراع السياسي، ويعتمد سياسةً أساسها العدالة والمساواة والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.
المصدر: العربي الجديد