ثلاثون عاماً قضاها في زنازين معتقلات النظام السوري؛ تسعة عشر منها في معتقل تدمر؛ الشهير بأنّه من أسوأ معتقلات العالم. فيه تمّت الاستباحة الكاملة لكرامة المعتقلين، وحينما تعرّض الرئيس حافظ أسد لمحاولة اغتيال عام 1980 قتل أخوه آلاف المعتقلين فيه والمحسوبين على جماعة الإخوان المسلمين، وطبعاً، وليس من عذر أو مبررٍ قانوني أو شعبي لها؛ هو قانون الغاب، الذي يُعطي للأقوى أمنياً وعسكرياً حرية القتل.
أنشأ عماد شيحا، ورفاقه ومنهم أخوه غياث، في بداية السبعينيات، منظمة ثورية، المنظمة الشيوعية العربية، استندت إلى الأيديولوجيا الشيوعية، وحلم تحقيق الوحدة العربية، وفي القلب منها استعادة فلسطين. كانت المنظمة ضمن حركات اليسار الجديد في العالم حينها. أرادت القطع مع اليسار السابق الذي هادن الأنظمة القومية، واليسارية، والتي خانت حقوق العرب إزاء قضاياهم الأساسية. أعلنت تلك المنظمة انتهاج الكفاح المسلح من أجل فلسطين وليس الاكتفاء بالعمل السياسي؛ وفعلاً قامت بعملية عسكرية، أرادت من خلالها استعادة الروح الثورية بعد النكسة 1967 وتأسيس نظام الاستبداد، ولكن حظها السيئ كان بمقتل أحد العاملين في مسرح العملية، واستغل النظام ذلك، ليقوم بأسوأ عملية اعتقال، وشنق على أثرها خمسة من أفراد المنظمة في دمشق، ومنهم غياث شيحا، وحُكِمَ على مجموعة أخرى بمؤبداتٍ عقودا متتالية.
انتهت المنظمة بالاعتقال فعلياً في 1974، هي التي رفضت القُطرية، وحدود سايكس بيكو، وتأسّست بشكل متزامن في أكثر من دولة عربية. عُوقبت بشكل استثنائي، فقد حصر النظام الوطنية والقومية والاشتراكية والسلاح فيه، وبالتالي، لا يمكن السماح لأيّة قوّة يسارية بالاستقلالية. وكان مصير القوى اليسارية السورية الأخرى المعاملة ذاتها، وبأحكامٍ أخفّ؛ كالحزب الشيوعي السوري، المكتب السياسي، وكحزب العمل الشيوعي، وسواهما، حيث الاعتقال سنوات طويلة، وإرسال مجموعاتٍ منها إلى معتقل تدمر، ولاحقاً إلى سجن صيدنايا.
مع اقتراب نهاية حكم حافظ الأسد عام 2000، وتغيّر العالم منذ تسعينياته مع تفكّك الاتحاد السوفييتي ودمقرطة دول كثيرة، انتهت مرحلة تاريخية، استقرّ العالم فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لم يستجب الأسد الأب لضرورات التغيير في سورية، وهي شاملة كل مستويات المجتمع السوري، وليس فقط ضرورة إنهاء الاستبداد، والانتقال إلى نظام ديمقراطي أو إلى نظامٍ بحريات عامة. أبداً، والأمر ذاته استمر مع الابن، وها هي البلاد انتقلت من الاستبداد إلى الاحتلالات، وفي مقدمها الإيراني والروسي والتركي، وهناك الأميركي وحلفاؤه من البريطانيين والفرنسيين وسواهم. لم يشمل حينه الإفراج في عام 2000 مجموعة المنظمة الشيوعية. وتأخر الأمر عدة سنوات؛ ولم يكن الإفراج مترافقاً مع الاعتذار أو التعويض. أبداً، بل وحُرِمَ المعتقلون السياسيون من حقوقهم المدنية، التي يتصرّف وفقها باقي السوريين. وحين السفر، كانوا يأخذون إذناً أمنياً مرّة واحدة، ولتاريخ محدّد، ويضطرّون للإجراء ذاته في كل مرّة، إن كان لديهم سفر للعمل أو للمعالجة الصحية أو لسواه. هنا، والأمر مؤلم للغاية، توفي الكثير من السجناء السياسيين بالسرطان، ويعيد بعض الباحثين الأمر إلى الوجود في مكانٍ مغلق، ومن دون أية شروط بيئة مناسبة، وبعيداً عن الشمس، وبالتالي قتلهم النظام اعتقالاً وأسّس فيهم أسوأ الأمراض.
كان عماد شيحا آخر من أُفرِج عنهم، وقضى قرابة 30 عاماً، وهذه الأحكام لا يوقعها بالمعتقلين إلّا النظام السوري ونظام الاحتلال الإسرائيلي، والأنظمة التي من عيار النظام السوري. عانى المعتقلون من تجاهل المجتمع أيضاً، وباستثناء بعض المجتمعات الصغيرة المشغولة بالديمقراطية والحريات والأخلاقية، لم يجدوا بيئاتٍ تحتضهم. هذا مؤلم لمن قضى شبابه من أجل التغيير، تغيير أوضاع الناس، واستعادة فلسطين، والأخيرة تمثل لدى القوى الثورية الأحلام الكبيرة، والشرف بأكمله. ثلاثة عقود، قضاها بعيداً عن الحياة، وتغيّرت الأخيرة بشكل استثنائي، فدمشق أصبحت مدينة بشعة للغاية؛ فالعمارة مشوّهة، وبردى يلفظ روحه، وغوطتها في اندثارٍ مستمر، والتلوث في مستويات عالية، والفساد والنهب أصبح نظاماً متكاملاً، وانتهت الحياة الثقافية والسياسية بشكل كامل.
كان على عماد وآلاف المعتقلين السياسيين، وقد أصبحوا في الخمسين من أعمارهم، أن يبدأوا من الصفر. تدبير العمل، شقّة للسكن، الزواج، تشكيل علاقات اجتماعية جديدة، وسواها كثير. كان الأمر متعثّراً، وصعباً للغاية. وبالطبع، لا يمكن للمرء أن يعود إلى الصفر؛ فقد مرّ العمر بكل بساطة، وهناك مشاريع الكتابة والثقافة والسياسة. هذا الوضع وحده يؤسّس للتعاسة، وبالطبع للسفر خيارا لاحترام الذات، للشعور بالإنسانية ولمتابعة الشؤون الصحية. وفعلاً، سافر أغلبية من حَلمَ بوطنٍ وبمشاريع اجتماعية كبيرة، وباستعادة فلسطين أو الديمقراطية أو الحريات.
أَخرجَ عماد من صيدنايا عدة مخطوطات لروايات، وفعلاً نشر ثلاثاً منها، وترجم أعمالاً عديدة، وحاول انتهاج المقال الصحافي، ولكن لم يطل به الأمر طويلاً، وقليلاً قليلاً توقف عن الكتابة، وهنا نحثّ رفيقة عمره، الصديقة رندة بعث، على نشر أوراق عماد، التي ما تزال بشكلها الأول، ووفق الصيغة التي تراها مناسبة، فهي أكثر من يعلم بشؤونه، وما المناسب في هذه الحالة.
لم أعلم لعماد نشاطاً في الثورة السورية، أقصد نشاطاً سياسياً. ما هو أكيد أنّه رأى فيها أحلامه، ولكن سرعة الانحراف فيها نحو العسكرة، وبأواخر 2011 ربما أفقدته تلك الرؤية. لم يترك البلاد بعد ذلك العام، ولكنه أُجبر على ذلك بسبب المرض، الذي لم يتلطّف به، وبجمال روحه وبأحلامه وبنزاهته، فكانت الوفاة قبل أيامٍ.
كان يمكن استعادة الروح لدى عماد وآلاف المعتقلين ومن مختلف المشارب السياسية لو أنصفهم النظام، أو المجتمع، أو العالم، ولكن هيهات هيهات. أسّس هذا الوضع لأسوأ المصائر، وفتكت الأمراض بهم، والعزلة، والاكتفاء ببعض الأصدقاء، ومع النزيف السوري نحو اللجوء، منذ 2011، افتقد السوريون أغلبية علاقاتهم الاجتماعية وصداقاتهم، فتصحّرت الحياة بالكامل.
يرحل عماد شيحا في فرنسا، بعيداً عن بلادٍ أحبّها، وأوصى بدفنه فيها. لم يعد يطيق البلاد التي لم تفتح له صدرها قط. هكذا يكتمل الألم، فقد أعطى لبلاده كل عمره، ولم تعترف به، وصار لاجئاً من أجل المعالجة الصحّية، فهل هذه بلادٌ من أصله. هذا ليس شعور عماد وأمثاله. لا، أبداً، هذا شعور أغلبية السوريين، معارضين وموالين في هذه الأوقات.
البلاد التي لا تحترم مواطنيها، وليس فقط مثقفيها وسياسييها ومعتقليها، هي بلاد الطغاة، الذين أتوا بالاحتلالات، وطردوا أهلها منها بعد اعتقالٍ وقتلٍ وتجويعٍ. رغم كل الكلام عن طرد البلاد أبناءها، فقد أفنوا حياتهم من أجلها، وهذا يعني أن هاجس العودة إليها وتأسيسها من جديد حلم لا يتغير أبداً، وهو ما سيكون في يومٍ ما، وحينها سيتم إنصاف كل من أفنى عمره من أجل ناس بلاده، ومن أجل استعادة الحرية.
المصدر: العربي الجديد