لم تكن الكلمة الناقدة في تاريخ اللغة، ووعي الإنسان، حين تأتي في مكانها المناسب، أقل حدَّة وتأثيرًا من أيِّ موقف عنف يستخدمه المستبد، ومن هنا كان خوف المستبد من قول كلمة الحق، والحق هنا هو حق المجتمع العام، ومن تأثيرها في نفوس العامة، فهي تنبههم إلى مرارة عيشهم، في ظل الاستبداد، وتفضح قسوة الظلم الواقع عليهم. ومَن أولى بمثل هذه الكلمة المؤثرة غير الكلمة الصحفية التي تتكرر على نحو أو آخر وبأشكال مختلفة في ملامستها لمعاناة الفرد والمجتمع. فالكلمة التي تقدم الحقيقة مقدَّر لها أن تشكل مع الزمن رأيًا عامًا سرعان ما يتحول إلى صوت ينتقل إلى حركة ورهبة. وصدق من قال “إن السوط الاجتماعي (النقد الاجتماعي) أشدُّ قسوة من سوط الجَلّاد.” وعلى ذكر هذه العبارة فقد مرَّ شيء مشابه في كتاب “رسائل نهرو إلى أنديرا” للكاتب المصري “أحمد بهاء الدين”.. وكانت أنديرا (1917- 1984) صبية يافعة تراسل والدها “جواهر لال نهرو” (1889– 1964) وهو سجين سياسي إذ هو أحد زعماء حركة استقلال الهند، وأحد مؤسسي حركة عدم الانحياز العالمية عام 1961 وهو أيضًا أول رئيس وزراء لبلاده بعد الاستقلال.
تسأله ابنته الشابة عن بعض شؤون حياتها، وما الذي يمكنها أن تفعله وما لا يمكن فعله، وهي التي غدت، فيما بعد، رئيسة وزراء الهند، وحملت اسم أنديرا غاندي، ويبدو أنها سألته عن فعلٍ ما خاص بها، فكان جوابه “افعلي ما تشائين”، لكن عليك أن تفعليه في العلن. وكان يعني أن الذهنية الاجتماعية تستطيع أن تميز الفعل الحسن من الآخر السيِّئ، وتستطيع أن توازن عند الضرورة الحال الاجتماعية دون حدوث أي خلل. وهذا لا يعني الخضوع للتقليد الاجتماعي، بل يعني أن المجتمع قادر على تقويم العمل النشاز، وتوجيه الفرد إلى خطئه، إن وجد، أما إذا كان الفعل جديدًا وذا أهمية فلا بد أن تكون حوامله الاجتماعية ناضجة أو في طريقها إلى ذلك! والمستبد رغم قسوته ورغم القوَّة المفرطة التي يستند إليها في حياتنا المعاصرة إذ اعتماده على الجيش والسلاح والأجهزة الأمنية، فإنه يخشى تأثير الكلمة الحرة، ومن هنا حين أتى حافظ الأسد على تعريف الثقافة، كشأنه في تعريف المكونات الاجتماعية الأخرى كلها، فقد عرّفها على “أنها الحاجة العليا للبشرية..” وبذلك أفقدها قيمتها ومحتواها، وكانت غايته نقل الثقافة من حيِّز الواقع إلى ضرْبٍ من الحلم أو الوهم، فالثقافة عمومًا في معالجتها للواقع العام سوف تتعرض لأفعال المستبد الذي يعرف نفسه ظالمًا وناهبًا لخيرات شعبه ومسيطرًا على عقول أبنائه، ومسخِّرًا طاقاته لخدمة كرسيِّه، وشعاراته الفارغة. تحضرني هنا حكاية صغيرة حدثت بداية سبعينيات القرن الماضي وهي من وجهة نظري في غاية التفاهة لو أنها تركت لتمر بسلام. لكن القيادة السياسية استنفرت لها، رغم أنها غلطة مطبعية تحصل في عديد الصحف يوميًا، لكنها هنا سجنت المدقق الذي أثبتت وثائقه أنه دققها ووضعها ضمن دائرة حمراء لكن عقوبة السجن طالته لمدة شهور، وهو مدرس اللغة العربية! وأما الغلطة فهي سقوط حرف الحاء من عبارة “الحزب القائد” التي كانت تكرر في صحافة السبعينيات يومياً، ولعلَّ القارئ يمرُّ عليها دونما انتباه. لكنها عندما شغلت الدولة كلها أخذت اهتمامًا خاصًا وصارت مجال تندر يومي كلما جاء ذكر القائد وحزبه. كما أنَّ جريدة “الدومري” لم يحتملها المستبد سوى عدة أشهر، فهو رضيع الاستبداد مع حليب الأم وزعم أنه جاء باسم الحرية والإصلاح وتحديث ما لا يمكن تحديثه ولا تطويره.!
وفي عودة إلى عنوان المقالة أقول: لقد عرفت سورية نوعًا من الحرية في سنوات مختلفة من عصرها الحديث، لكن أكثر الحكام الذين كانوا ضد حرية الكلمة هم الذين وصلوا إلى الحكم بانقلابات عسكرية أو بالوراثة. فقد تفوَّقوا في مصادرتهم للكلمة الحرة حتى على أولئك المستبدين الإقطاعيين الذين مرّواَ على بلاد الشام، وخاصة في أواخر الحكم العثماني أيام أخذت الصحافة في الظهور وسيلة لإنهاض المجتمع من سبات طويل وجهل عام مقيم. ما يعني بإيجاز أنها آذنت بعهد جديد يتعاطى مع الحضارة التي غيرت في المجتمع الغربي أدوات عمله وأساليبه، وفي تفكيره وعلاقاته، ونزعت عن كاهل المجتمع عبوديته للحكام السابقين، ووسعت في حرية الأفراد كثيرًا كما منحت المرأة دورًا أكبر مشاركة منها في بناء الحياة الجديدة. بينما هي في عالمنا ما تزال تئن تحت وطأة الأنماط الإقطاعية السابقة والراسخة إذ لم تكن الدولة لتكتفي بالقوانين التي كانت تصدرها لتقييد حرية الصحافة، وهي كثيرة رغم دقتها وتحديدها لكيفية الكتابة ومحتواها إلا أنها عينت مراقبًا عامًا على الصحف والمطابع، أطلق عليه اسم المكتوبجي. وبما أن الصحفي مشاغب بطبعه، وأن مهنته مهنة المتاعب وجوهرها نبش المخبوء وإظهار الحقائق، فلم يكن يخضع دائمًا لذلك المكتوبجي الذي يعرقل شغله دونما وجه حق، فهو غالبًا جاهل في شؤون اللغة العربية، ولا يأخذ الكلمة في سياقها العام، بل يأخذها بما قد توحيه أحيانًا، فكلمة ثورة أينما جاءت لا تعني غير الثورة على السلطان، وحين يسأل المكتوبجي عن القانون الذي يعتمده، يشير إلى رأسه. وعلى ذلك فقد تمرد بعضهم عليه، وهو “سليم سركيس” صاحب كتاب “غرائب المكتوبجي” فما كان منه إلا أن استدعى فرقة الفَلَق وتوجَّه إلى حيث سليم وعمل له فلقًا.
وإذا كان المكتوبجي استخدم الفلق الذي كان سائدًا لدى الخوجة (محفِّظ القرآن) واستخدامه مثار سخرية، فإنَّ زهير مشارقة نائب رئيس الجمهورية العربية السورية، ونائب رئيس الجبهة الوطنية التقدمية، في فترة الثمانينيات والتسعينيات استخدمه عندما كان مديرًا لدار المعلمين العامة بحلب مع طلابه الذين سيغدون زملاء له بعد سنوات قليلة. أما بشار الأسد فقد أزعجته الأصوات العالية لملايين السوريين وهي تهتف للحرية. فلم يجد غير الرصاص ردًا حاسمًا، وإن قتل مئات الألوف وشرَد الملايين، وهدم مدنًا على رؤوس سكانها..!
المصدر: إشراق