سيبقى يوم الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر 1961 يوماً حزيناً في وجدان أمتنا، يوماً تحطمت فيه أول وحدة في تاريخنا المعاصر، وكان محطة من المحطات التي أحدثت تحولاً فارقاً شديد الاهمية والتأثير في كل ما جرى ويجري اليوم في منطقتنا العربية، ومحطة حزينة أخرى، بغياب عبد الناصر في ٢٨ أيلول/ سبتمبر ١٩٧٠ والفراغ الذي خلفه، لتتوالى من بعده حلقات التراجع والردة، والتسابق خلف مخططات الدوائر الغربية والإمبريالية، والتسليم لها في التوجه والقرار والتبعية، والزحف لاسترضاء الكيان الصهيوني للتطبيع معه سراً وعلناً؛ لتتوالى حلقات السقوط من كامب ديفيد إلى وادي عربة إلى أوسلو. إلى الاتفاق الإماراتي العلني الذي لن يكون – كما تدل المؤشرات – الاتفاق الأخير في مسار اتفاقات التطبيع مع العدو الإسرائيلي.
ونحن حينما نتوقف عند تجربة الوحدة والانفصال فإننا لا نتوقف عند هذا اليوم لنتباكى على الوحدة ونقلب مواجعها ونستحضر تجربة انتهت وفات زمانها كما يردد الانفصاليون، وإنما نستحضر تجربة الوحدة والانفصال؛ لأننا وصلنا إلى الزمن الذي أصبح فيه مجرد بقاء الدولة الوطنية الموحدة والحفاظ عليها والحيلولة دون تفككها وانقسامها إلى دويلات الطوائف والإثنيات إنجازاً في ظل مشاريع التقسيم والفدرلة التي يتم التحضير لتنفيذها توافقاً مع مشروع الشرق الأوسط الجديد بديلاً عن سايكس بيكو الذي استنفذ أغراضه ومراميه.
إن التوقف عند حدث الانفصال ليس أيضاً استرجاعاً لعقارب الزمن للوراء، وإنما للتوقف عند الدروس المستفادة من تجربة الوحدة والانفصال بعد عقود على مرورها؛ لنستلهم منها طريقاً مأموناً على طريق النضال الوحدوي.
1- إن الشعور العربي بالهوية المشتركة حقيقة لا يمكن إنكار وجودها لدى المواطن العربي أياً كانت الدولة التي ينتمي إليها، ويحمل هويتها وجنسيتها. والهوية العربية حقيقة تاريخية وثقافية ووجدانية بالرغم من كل محاولات نزعها من وجدان الأمة العربية. وفي هذا الصدد لا بدّ من الإشارة إلى أن الفكر القومي في توجهاته قد وقع في مطب الالتباس في دعوته للوحدة رداً على الانفصال حين ربط الانفصال والتجزئة واستمرارها بالعوامل الخارجية، دون إدراك أن الفعل الخارجي يستند دائماً إلى عوامل داخلية ذاتية ارتكزت على طبيعة البنى الحاكمة، وإطاراتها السياسية والثقافية التي قامت بتجذير عوامل التجزئة والانفصال واستدامتها، كما أن الفكر الوحدوي في مرحلة متقدمة ربط أيضاً الخلاص من التجزئة بإقامة الديمقراطية باعتبارها تقود أوتوماتيكياً إلى الوحدة، والتركيز في الدعوة للديمقراطية بأولويتها على الوحدة، والانغماس في الهم القطري والقبول بالإنكفاء القطري بدون السعي الجدي الفاعل للانفتاح على القضايا القومية العربية، مما دفع إلى أن يكون الخيار الديمقراطي خياراً ضيقاً في الحدود القطرية بدلاً من أن يكون مشدوداً دائماً إلى الأهداف القومية، إذ بقدر ما تنجح الديمقراطية في تحقيق الاندماج القومي ثقافياً واجتماعياً وتخطي عوامل الانقسام الأهلي والطائفي والاثني، بقدر ما توفر الإمكانية الموضوعية لإلغاء الكيانات القطرية. وقد أثبتت التجربة أن تلك الكيانات القطرية القائمة على الاستبداد السياسي والمتصادمة مع النهج الديمقراطي ببعده القومي قد فشلت في درء المخاطر التي تجتاحها لتصل إلى أنها باتت مهددة حتى في سيادتها الوطنية.
2- إن ديمومة واستقرار أية وحدة بين قطرين أو أكثر مرهون بدور وفعل المؤسسات في كيان دولة الوحدة. وإذا كانت القيادة السياسية القومية صاحبة الرصيد الشعبي تشكل عاملاً إيجابياً في صناعة الوحدة وفرض وجودها؛ فإن الفرد الحاكم أو الزعيم مهما بلغت إمكاناته وقدراته فإنه يبقى معرضاً للخطأ أو الارتداد والنكوص. وقد أثبتت التجربة أن الزعامة لوحدها لا تشكل ضماناً للوحدة وديمومتها. كما أن الرهان على الحالة الشعبية العارمة واندفاعها باتجاه الوحدة وإن كانت مطلوبة لوجودها، فإن استمرار الوحدة والحفاظ عليها يحتاج لوجود مؤسسات فاعلة وقادرة على الإحاطة بها والدفاع عن مكتسباتها من خلال توفير المشاركة السياسية الفاعلة في دولة الوحدة وفي بنى مؤسساتها، وإطلاق فعاليات الشعب ومنظماته وأحزابه وإشراكهم في عملية صنع القرار السياسي وتعزيز الحوار والتفاعل بين كافة المكونات السياسية في المجتمع، وإدارة التباينات والخلافات باعتبارها مصدراً للتنوع والقوة. كما أثبتت التجارب الإنسانية أن الإنجازات التاريخية مهما بلغت أهميتها فإنها معرضة للانتكاس في غياب مؤسسات قوية وقادرة على تعبئة طاقات الشعوب والدفاع عن منجزاتها وحمايتها وصيانتها من عوامل الارتكاس.
3- إن بناء نظام سياسي ديمقراطي يرتكز على العدالة الاجتماعية ويهدف إلى الانعتاق من الدكتاتورية، ويحمي الحريات ويصون الحقوق، ويتمتع فيه جميع المواطنين بالحماية القانونية في ظل نظام قضائي مستقل وعادل، وفي إطار نظام اقتصادي يراعي العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، والتوزيع العادل للثروة الوطنية في دولة الوحدة؛ هو المدخل الحقيقي لاستمرار الوحدة واستقرارها. إذ لا معنى للديمقراطية السياسية في ظل التمييز الاجتماعي والفوارق الواسعة بين طبقات المجتمع، ولا معنى لأي إنجاز اجتماعي واقتصادي في ظل أنظمة الاستبداد والقهر والفساد. وقد أكد عبد الناصر في ميثاقه الوطني على ” أن الديمقراطية هي الحرية السياسية والاجتماعية، ولا يمكن الفصل بينهما، إنهما جناحا الحرية الحقيقية، وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب “.
إن الوحدة قوة للأمة، والانفصال ضعف وإضعاف لها، واستيعاب دروس الوحدة والانفصال ركيزة أولى في بناء دولة الأمة، وفي ابتكار أشكال جديدة على طريق إعادة الوحدة؛ يبدأ من التأسيس لعمل وطني متجذر في الساحات الوطنية، ويؤثر في عملية التغيير للبنى الفكرية والسياسية والاجتماعية، واستكمال مشروع بناء الدولة الوطنية، مقدمة للعمل على صعيد جمع قوى الأمة ونخبها على المشروع القومي لأمتنا لتحريرها وتحررها ونهضتها.
تلك مقدمات لا بد منها لاستكمال ما بدأه عبد الناصر على طريق هذا المشروع للنهوض بقوى الأمة الشعبية والثقافية والسياسية، وإعادة الاعتبار لدورها في الخلاص من حالة الضعف والارتهان للخارج، والدفع نحو بناء الاتحاد الاقتصادي بين الأقطار العربية، وتفعيل مؤسسات الدفاع المشترك، وتعديل نظام الجامعة العربية ليكون جامعا للأمة بدلاً من كونه جمعاً بروتوكولياً للأنظمة، مستفيداً من تجارب الوحدة الأوروبية وغيرها، تمهيداً للاندماج القومي؛ ليكون للأمة دورٌ وثقل فاعل في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء. وفي خطاب لعبد الناصر في يوم الوحدة جاء فيه ” لقد كان الكفاح من أجل الوحدة هو بنفسه الكفاح من أجل القوة.. من أجل الحياة، ولقد كان التلازم بين القوة والوحدة أبرز معالم تاريخ أمتنا؛ فما من مرة تحققت الوحدة إلا تبعتها القوة، وما من مرة توفرت القوة إلا وكانت الوحدة نتيجة طبيعية لها. وليس محض مصادفة أن إشاعة الفرقة وإقامة الحدود والحواجز كان أول ما يفعله كل من يريد أن يتمكن فى المنطقة ويسيطر عليها، وكذلك لم يكن محض مصادفة أن محاولات الوحدة فى المنطقة لم تتوقف منذ أربعة آلاف سنة طلباً للقوة بل طلباً – كما قلت – للحياة”.