يوم رحيلك…. يوم شهادة لك

د. مخلص الصيادي

في مثل هذا اليوم 28 أيلول سبتمبر 1970 رحل جمال عبد الناصر، قائد هذه الأمة، ورجلها الأول، وكان قدر الله أن يرحل بعد أن جمع رؤساء الدول العربية على الأمر الأهم في حياة هذه الأمة، على فلسطين، ومقاومتها، وجهاد شعبها، وحرمة دم هذا الشعب، فلا يراق إلا زكيا في الصراع مع العدو الصهيوني، واعتبار ذلك كله مظهر من أهم مظاهر الأمن القومي العربي، فكان هذا آخر عهد عبد الناصر في الحياة، وآخر عقد وأقوى عهد يجمع عليه النظام العربي كله، والأمة العربية كلها، فكأنه بذلك كان الوصية المقدسة الأخيرة له، وضعها بين أيدي هؤلاء الرؤساء، لتكون معيارا لهم يُقاس عليه مدى صدق النظام العربي، ومدى التزامه، بأقدس قضاياه، وأكثرها تعبيرا عن الالتزام بهذه الأمة.

وحين أعلنت وفاة ناصر في ختام تلك القمة العربية، ظهرت الفجيعة على أجلى صورها، وخرجت الأمة كلها، ليس في مصر وحدها، وليس في فلسطين المجاهدة وحدها، وإنما في كل الدوائر التي تحدث عنها جمال عبد الناصر والتزم بها، في كل الدائرة العربية “الوطن العربي”، وفي كل العالم الإسلامي، وفي أفريقيا ودول العالم الثالث، خرج الجميع في مشهد لم يألفه العالم الغربي، لذلك سلط عليه الضوء باعتباره ظاهرة غير مسبوقة، حتى وصفتها إحدى المجلات العالمية بأنها أكبر جنازة في التاريخ الإنساني كله، وقد لا يكون لها شبيه في قادم الأيام.

كان ملفتا لأنظار الجميع أن هذا الحراك الجماهيري تخطى التقسيمات والانحيازات والاختلافات والصراعات الطبقية والاجتماعية والسياسية الوطنية والقومية، ظهر جمال عبد الناصر وهو مسجى في رحلته الأخيرة إلى مثواه من مجلس قيادة الثورة إلى الجامع الذي أخذ اسمه رمزا لوحدة الوطن والأمة ولوحدة العالم المتطلع إلى العدل، والاستقلال، والحرية، والكرامة.

كانت جنازته مبرأة من كل عيب، وكانت شهادة له على مكانته في أمته، وفي العالم، وأيضا شهادة له على عمق التغيير الذي أراده لهذه الأمة.

وبسبب هذه الحقيقة التي برزت بوضوح شديد، في ذلك المشهد المهيب، وقف النظام العربي، والنظام الدولي، متهيبا أمام هذا المشهد، خشية أي انفجار مفاجئ لا يمكن السيطرة عليه، قد يحدث اثناء التشييع الذي امتد من المحيط الى الخليج، بل إن نظما عربية معروفة بعدائها لجمال عبد الناصر، أمرت أجهزتها الأمنية بأن توفر كل الأجواء الآمنة للتظاهرات والمسيرات الشعبية التي انطلقت تعبر عن حزنها بفقد قائدها، وتعاهده على المضي على الطريق نفسه متمسكة بأهدافه في الحرية والكرامة والعدل، وبالتحرير، وبفلسطين.

ولأن جمال عبد الناصر كان يقود ثورة شاملة، وكان يخوض معارك على غير جبهة، وكان ينتصر أحيانا وينهزم أحيانا، وكان يتخذ قرارات سياسية واجتماعية، فإن من الطبيعي أن يكون هناك من يؤيده في قراراته ومعاركه، وهناك من يعارضه، هناك من يرى أنه أسرع في خطواته، وهناك من يرى أنه أبطأ، هناك من يرى أنه أحسن في اختيار أولوياته، وهناك من يراه غير ذلك، وهذه حالة طبيعية تشهدها الثورات والمجتمعات إزاء أي ظاهرة، لكن الملفت هنا، أن كل هذه الاختلافات وضعت “خلف الظهر” أمام حدث الوفاة، وشعر الجميع ـ كل من زاويته ولأسبابه ـ  أنه فقد شيئا عزيزا كان له حسابه في كل شيء، وكان له حضوره الإيجابي في كل موقف، وكان وزنه لا يغيب في موازين كل قرار، وكل إجراء، وكل حدث، وكل تطور.

هنا في هذا المشهد، مشهد الوداع، الذي غطى الوطن كله، وغطى دوائر الالتزام كلها، العربية والإسلامية وتلك المتطلعة الى الحرية، نستطيع أن نستحضر قول الامام احمد بن حنبل رحمه الله  في محنته الكبرى” قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز”، وهذه فراسة مؤمن تستأهل أن يستشهد بها، ففي هذا اليوم بعيدا عن السلطة، وصولجانها، وأجهزتها، وإعلامها، وكل مؤثراتها، يكون الحكم الحاسم هو موقف الناس، عموم الناس، الموقف الحر، الطليق، وقد كان.

في مشهد مماثل إلى حد كبير، مشهد يوم التنحي 9 /10   يونيو 1967، وهو مشهد أدهش الجميع لأنه كان كمشهد الوفاة شاملا وحاسما، رغم عظم الهزيمة، ورغم مسؤوليتها عنها، كانت مطالب الناس متمثلة بعودة جمال عبد الناصر إلى موقع القيادة ليمسك بزمام الأمور، ويستعيد للوطن كرامته وعزته، وقد كان للناس ما أرادوا.

لكن مع الوفاة لم يعد هناك مجال للحديث عن عودة، فالقائد رحل، قضاء الله حسم كل أمر، وبات على الأمة أن تبحث لها عمن يقود المسيرة التي ترتضيها، ولأن مسيرة جمال عبد الناصر كانت مسيرتها، فقد عبرت في الشعارات التي أطلقتها يوم الرحيل عن التمسك بهذه المسيرة، وعن الطلب من القيادة القادمة الالتزام بخط جمال عبد الناصر: اجتماعيا بالعدل والتقدم، وقوميا بالأمن القومي وفلسطين، ودوليا بالالتزام بقواعد الحياد الإيجابي وعدم الانحياز لغير حقوق الشعوب في الحرية وفي التخلص من الاستعمار والاستغلال والتمييز.

والذي يسترجع الشعارات التي رفعها الناس في ذلك اليوم العصيب، ويدقق فيها، لن يعجزه أن يتلمس قلق الناس وخوفهم من التنكب عن مسيرة عبد الناصر، والنكوص عنها، وإذا كان للشعراء نفحات صادقة من استطلاع المستقبل، والتقاط الروح الحقيقية للناس، فقد التقط محمود درويش هذه اللحظة وهذا المعنى بقوله” نعيش معك… نسير معك… نجوع معك… وحين تموت نحاول ألا نموت معك”، وهذه الخشية التي كانت تلف الأمة، هي ما وقعت فيه الأمة، كانت البداية في خروج البندقية عن اتجاهها الوحيد الصحيح، اتجاه العدو الصهيوني، وحلفائه، والتي تجسدت لاحقا في كامب ديفيد، فخرجت مصر العظيمة من معادلة الصراع، فلم تعد فلسطين ولا الأمن القومي العربي المعيار للموقف الوطني والقومي، ثم تتالت الانهيارات باتفاقات السلام المزعومة، ثم بما لحقها من اتفاقات وتحالفات تستند إلى ما دعي بالاتفاقات الإبراهيمية، وذلك بعد أن تحقق لأعداء الأمة تدمير العراق وإخراجه في دائرة الفعل، وإلحاقه مدمرا مجزءا بنظام طائفي عنصري في طهران.

والذي يدقق فيما يجري في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وما يجري من التحاق بركب الأحلاف والخطط الأمريكية والإيرانية لإخضاع المنطقة، وغرس القواعد الأمريكية، والإيرانية، والروسية، فيها، يشعر أن هناك جهدا مركزا لكي ” نموت”، يموت هذا الشعب فلا يبقى له قدرة على صنع شيء، ولا تبقى له قدرة على إعاقة ما يخطط له ولوطنه.

وإذا كانت محاولة القضاء على هذا الشعب، وعلى هذه الأمة احتاجت كل هذا الوقت منذ فقدنا لجمال عبد الناصر، فذلك لعظم ما أحدثه ذلك القائد العظيم، ولقوة ما استنهض من طاقات هذه الأمة ومكامن القوة والعزة فيها، وما سلط عليه الأضواء من قدرة هذه الأمة على إحداث التغيير وإعادة التوازن لعالم أقيم أصلا على قواعد الاستغلال والتمييز وسرقة ثروات الشعوب والتحكم بمصائرها.

لم يكن جمال عبد الناصر مثيلا لعمر بن الخطاب، ولا لعمر بن عبد العزيز، ولا لصلاح الدين الأيوبي، ولا لأحمد عرابي، ولا عمر المختار أو عبد الكريم الخطابي، ولكن كان فيه من كل واحد من هؤلاء العظام الذين ينيرون تاريخنا ووجداننا شيء، كان فيه، العزة، والكرامة، والطهارة، والوطنية، والبراءة من شهوات السلطة والمال، والرؤية الحقيقية والقويمة لما تملكه الأمة من قدرات، وما تواجهه من أعداء، وكان يعرف بدقة طريق التقدم والتحرر والعدل، وكان يملك العزيمة على المضي في هذا الطريق، ومما يدهش أنه كان في حياته العائلية بسيطا إلى حد يستشعر معه كل فرد منا  عرف هذا الجانب من عبد الناصر  أن فيه شخصيا شيئا من عبد الناصر.

حين يطلع الواحد منا على ما كتبته السيدة فتحية كاظم زوجة جمال عبد الناصر عن ذكرياتها معه، يستشعر أن هذا الرجل “العظيم” كان عظيما في قلوب الناس لأنه كان “واحدا منهم”.

تذكر السيدة فتحية أنه كان حريصا حين مغادرة البيت أن يضع في جيبه نسخة من كتاب الله، ويوما افتقد هذه النسخة، ولم يرغب في الخروج دونها فأحضرت له نسخة أخرى، ثم وجدت بعد ذلك النسخة الثانية، فصار لا حقا يأخذ النسختين معه، وفي اجتماعات القمة الأخيرة كانت نسختا المصحف بصحبته، وهما الآن معروضتان في بيته الذي تحول إلى متحف.

وفي كتابها هذا ـ وكتب أخرى لمن عملوا معه ـ توكيد على حرص عبد الناصر ألا تكون السلطة أداة وسبيلا لأحد من أبنائه أو أهله في الحصول على امتيازات مادية أو تعليمية أو معنوية، وعلى أن يكونوا وغيرهم سواسية كأسنان المشط، بل إنه كان حريصا على تجريد أبنائه من آثار “بيت الرئاسة” في كل ما يعترض لهم، حتى لو كان الحق معهم.

درج المتتبعون لمسيرة عبد الناصر الشخصية على القول بأنه بطبيعته ونزاهته وصرامته، أتعب من جاء بعده، وقد تكون العبارة مغرية تشجع على اعتمادها في وصف خصوصية جمال عبد الناصر، لكن التدقيق في الأمر يكشف لنا حقيقة مرة وقاسية، وهي أننا من النادر أن نجد أحدا من الحكام بعد جمال عبد الناصر حاول ان يلزم نفسه بمثل هذا السلوك، أو أن يجعله مقياسا يقيس عليه تصرفاته، ومواقفه من المال العام، ومن الخلق الشخصي، ومن سلطان الحكم وسلطته.

في يوم رحيله نفتقد جمال عبد الناصر، نفتقد كل شيء كان زمن عبد الناصر، نفتقد كل شيء دعا إليه جمال عبد الناصر أو عمل لأجله، كما نفتقد كل شيء تركه جمال عبد الناصر بعد أن فكك خلفاؤه كل المؤسسات والصروح والمشاريع الاقتصادية والثقافية والعلمية التي تركها عهده لنا. بل وفككوا الأمة كلها، فككوا الشعوب والأوطان، والثروات عرقيا وطائفيا ومذهبيا، واستجلبوا كل القوى الغازية ليكون لها مكانا في أرضنا، ترتع فيه كيفما تشاء، حفاظا على هذه النظم وعلى مصالح القوى الحاكمة.

لكن يقيننا أن قيمة وقيم جمال عبد الناصر مازالت في قلوب وعقول هذه الأمة جيلًا بعد جيل، وأن أحدًا لم يقدم بعدُ طريقًا آخر للخلاص والانعتاق مما نحن فيه، ويبقى لنا الأمل بإمكانية استعادة تلك الطريق والنهوض مجددًا، ولو بعد حين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى