عن دار موزاييك للدراسات والنشر صدرت مذكرات دولة العبث – سيرة ومذكرات، للكاتب السوري فواز العلو. هذا أول عمل أقرأه له. يعتمد فواز العلو في سرد مذكراته على ربطها بسنوات عمره منذ دخوله الى جامعة دمشق عام كلية العلوم قسم الجيولوجيا، عام ١٩٧٥م. ومنتهيا في تاريخ ٢٠١٥م حيث هرب وعائلته من سوريا الى تركيا واوروبا، بعد تداعيات الثورة السورية ربيع عام ٢٠١١م. والعنف الدموي الذي مارسه النظام على الشعب السوري.
يعتمد الكاتب في سرده لغة المتكلم، الشخصية المحورية في المذكرات عادل ابن دير الزور وقد يتناوب على السرد بعض اصدقائه ايام الجامعة، لكن المذكرات ستستمر بلسان عادل حتى النهاية.
عادل جاء الى دمشق من مدينته دير الزور في مطلع العام الدراسي لعام ١٩٧٥م، وكان قد سجل في كلية العلوم قسم الجيولوجيا، جاء محملا بصورة وردية عن دمشق، وكذلك عن الجامعة. كان قد سبقه بعض الى دشق طلاب آخرون من مدينته، قدموا له يد المساعدة، في موضوع السكن وفي متطلبات الحياة اليومية للجامعة. سكن مع بعضهم في الطبّالة الحي الشعبي الفقير، كان مناسبا ميزانيته المتواضعة، يسكن معه في الشقة طلاب آخرون يتقاسمون الأجر ويعيشون متضامنين في كل شيء. كانوا من كل الأرياف و المدن السورية ومن كل المكونات المجتمعية، مسيحيين وعلويين وسنة ودروز وأكراد… حصل بينهم تفاعل ونقاش مستمر طال كل شيء وخاصة السياسة، رغم ادراكهم ان الحديث بالسياسة قد يؤدي الى المهالك. لكنهم لم يصمتوا، تحدثوا وخاصة صديقهم المتميز ابن حمص المسيحي جبران، الذي تناول الفساد والمحسوبية والمظالم المجتمعية، وحكم العسكر، كان مندفعا، وقد يتحدث أمام بعض المخبرين، مما أشاع عنه أنه معارض للنظام. أغلب المجموعة التي تعامل معها عادل كانت اميل للفكر الشيوعي، على تنوعاتها. بعضهم معارض مثل جبران الذي سيتبين لاحقا انه من رابطة العمل الشيوعي أو من كان من الحزب الشيوعي السوري أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي اصطنعها النظام ليغطي استبداده بأن من يحكم سوريا أحزاب تقدمية عدة، الكل يعرف انها مجرد ديكور ديمقراطي مزيف ليغطي حقيقة النظام المستبد المطلق تحت حكم الأسد الأب.
لقد كان للنظام السوري طموحات وتحالفات اقليمية ودولية، ظهر ذلك في دخوله إلى لبنان عام ١٩٧٦م، تحت دعوى صون الدم العربي اللبناني والفلسطيني وأنه دخل ليحمي الفدائيين ويحارب الانعزاليين من الأحزاب المسيحية المارونية. لقد كان لبنان بلد التشابكات الدولية والإقليمية. الكيان الصهيوني يتدخل وفيه منظمة التحرير الفلسطينية وخلاف مستفحل بين القوى الوطنية والانعزالية، كل ذلك اشعل فتيل الحرب الاهلية اللبنانية وليدخل النظام السوري ويكون هو الحاكم لمعادلة الحكم في لبنان لعقود، حيث اجتاح الكيان الصهيوني لبنان بعد ذلك في الثمانينات، وبعد ذلك سيرحل الفلسطينيين الى تونس، ويعود لبنان مزرعة النظام السوري بالتوافق الضمني مع الكيان الصهيوني عبر الامريكان.
لم يصمت جبران عن الدور السوري في لبنان، مما أدى لاعتقاله، لفترة محدودة، لقد تتالت سنوات الدراسة على مجموعة الأصدقاء، الذين توطدت العلاقة بينهم. يلتقون مجموعة من الشباب والصبايا، يتحدثون بالسياسة ويشربون الخمر ويفكرون في مستقبلهم الذي لا يعرفون ما شكله. خاصة ان اغلبهم قانط من امكانية التوظف بعد تخرجه وفق اختصاصه. طبعا الا من له واسطة وهم نادرين. كانت صداقتهم عميقة وحصل بين بعض الشباب والصبايا عواطف حب يدركون أنه قد لا يتوج بزواج لان ذلك بعيد المنال الآن.
استمر واقع عادل واصدقائه على حاله حتى بدؤوا بالتخرج من الجامعة، تخرج عادل من الجامعة وأصبح عليه أن يشد رحاله عائدا الى دير الزور، كان ذلك مؤلما له، صحيح انه سيعود الى مدينته وأهله لكنه يفتقد الاصدقاء والصحبة الذين تعايش معهم في سنوات دراسته في دمشق، ذهب اليها شبه مراهق وعاد ممتلكا رؤية ومواقف من الحياة، كان قريبا من الشيوعيين، ولم يلتزم مع أي حزب، نموذجه الذي يقتنع به صديقه جبران.
بعد عودته الى الدير بفترة وجد فرصة عمل في سد الطبقة على نهر الفرات، عُيّن هناك، ذهب الى الطبقة وهناك اطلع على السد الذي انبهر به، وانبهر بالمهندسين الروس ودورهم المنظم والمتميز، تعلم منهم الكثير. وبعد أن استقر لفترة من الزمن هناك. كان لا بد له ان يذهب الى خدمة الجيش الإلزامي وتزوج اثناءها، واحس انه يستقر اولا بأول.
لم ينقطع عن اصدقاء الجامعة وبقي على تواصل معهم ولو بشكل متباعد. علم باعتقال صديقه جبران مع غيره من رابطة العمل الشيوعية، كذلك اعتقالات طالت اسلاميين و وطنيين ديمقراطيين وكانت قاسية جدا وممتدة على امتداد سورية.
اعتقل جبران صديقه الاهم واستمر اعتقاله ١٣ عاما جزء منها كان في تدمر. خرج عام ١٩٩٦م وقد أنهكه السجن كانت خطيبته تنتظره وتزوجا، لكنه لم ييأس واستمر مؤمنا بحق السوريين بالعيش الكريم.
يعيد عادل قراءة الوضع السوري ابتداء من مجزرة المدفعية التي قام بها إبراهيم اليوسف في مدرسة المدفعية في حلب عام ١٩٧٩م. وأن ذلك دفع النظام ليقوم بملاحقة الإسلاميين وينكل بهم. لقد كان على تواصل مع اصدقاء من حماة اخبروه وشاهد فديوهات تصور المجازر الذي ارتكبها النظام في حماة وغيرها من المدن.
عاد عادل الى الطبقة لمتابعة العمل في وظيفته بعد انتهاء خدمته الالزامية، اصبح يدرك معادلة المصالح والمحسوبيات، وان هناك طبقة سلطوية متحكمة بشؤون البلاد تعيش على نهب موارد الدولة من خلال مشاريع الدولة التي يحتكرونها وذكر مثلا عنهم الأخوين رياض وذو الهمة شاليش أقرباء الأسد الابن . تعلم أن العمل على هامش هذه المشاريع يفيده. وان الوظيفة لا تكفيه مؤونة الحياة ومتطلباتها. بدأ يأخذ مشاريع اختصاصية استفاد من كونه جيولوجي ومن موقعه الوظيفي، واصبح متعهدا وبدأت تظهر عليه مظاهر الثراء.
يتحدث عادل مفصلا عن النظام وفكرة التوريث عند الاسد الاب الذي جهز ابنه الأكبر باسل ليكون خليفته بالحكم. ولكنه قتل في حادث سير. سرعان ما احضر الابن الثاني بشار ليكون الوريث. ومن ثم تم تدريبه وتجهيزه ليكون الحاكم القادم، وحصل ذلك بسلاسة حيث سيطرة الطبقة الامنية والعسكرية على مفاصل الدولة والمجتمع السوري بحيث منعت ظهور أي عقبة من تسلم بشار الأسد الحكم، عام ٢٠٠٠م بعد وفاة الأسد الأب.
وعد بشار بمتغيرات شبه ديمقراطية، اسميت ربيع دمشق، تلقفها السوريون، ولكن لم تدم طويلا وتم إنهاؤها مع اعتقالات وسجن لقيادة الناشطين استمرت لسنوات. ودخلت سورية مملكة الصمت مجددا، لكن مع متغير جديد، ألا وهو ظهور طبقة جديدة من رموز النظام تعمل لخلق استثمارات اقتصادية على حساب سورية وشعبها.
لقد تبلورت طبقة ثرية جدا، وزاد فقر الناس بحيث اصبح السوريون جاهزون لاي متغير قادم ليرفعوا صوتهم عاليا مطالبين بالحرية والعدالة والديمقراطية. وهذا جاء على إيقاع الربيع العربي الذي تفجر في تونس ووصل الى سورية ربيع عام ٢٠١١م.
لم يقبل النظام أن يقدم أي تنازل للسوريين، كان خروج الملايين يملؤون ساحات سوريا مفاجئا للنظام. لكنه لم يكترث واعتمد الحل الأمني، شارك جبران في اعتصام ساحة الساعة في حمص وراح ضحية القتل الذي أصاب المئات الآخرين فيها أثناء هجوم الأمن والجيش لفض الاعتصام. تأثر عادل كثيرا بمقتل صديقه ونموذجه. كان مؤمنا بالثورة وبحق الناس بما فعلوا، لكنه بقي طول الوقت مع الفئة الصامتة المنتظرة إلى ما تؤول اليه الأحداث. أغلب أصدقائه اعتقلوا. وهو صار ينتقل من مدينة متوترة إلى أخرى أقل توترا ليحمي نفسه وعائلته. لقد لجأ لدير الزور بداية لكنها التحقت بالثورة، وكان نصيب اهلها القتل والاجتياح وحصلت مجزرة حي القصور فيها. هرب عادل وعائلته إلى دمشق وهناك استقر متنقلا بين بيته الذي استأجره وبين المقهى يتابع المتغيرات، ويرى أن الأحوال تسير من سيئ لأسوأ. عندها أخذ قرارا بالخروج وعائلته خارج سوريا. لقد تبين ان احد اولاده يحتاج لورقة تدريب جامعي دفع الرشاوي لأجلها. وكذلك اعتقلت زوجته لكونها تحدثت ضد النظام. كذلك دفع الرشاوي بالملايين طبعا لإخراجها من الاعتقال.
لقد توسع القتل والتدمير ليطال سوريا كلها. دخلت إيران والميليشيات الطائفية لمساندة النظام. خلقت داعش بأساليبها الاستعراضية للقتل والذبح وانتهاك الحرمات. سيطرت على الرقة ووصلت الى الدير وسيطرت عليها ايضا.
أصبحت سوريا بلدا للخراب وامكانية العيش بها مستحيلة. وبالنهاية غادر عادل هو وعائلته سوريا الى تركيا وأوروبا في عام ١٩٧٤م. وهو لا يعلم هل يعود الى سوريا مرة اخرى ام لا …
إلى هنا تنتهي السيرة الذاتية المذكرات .
في التعقيب عليها اقول:
ان السيرة التي بين يدينا تكاد تكون تأريخ شبه كامل لما حصل في سوريا عبر لاربعة عقود منذ بدايات حكم الأسد الأب حتى مضي سنوات على الثورة السورية. لكن قراءة الكاتب فيها ما نختلف معه ولو بشكل جزئي لكنه مهم جدا.
حاول الكاتب أن يؤكد دوما أن بنية النظام ليست طائفية وانما تمثل طبقة مصالح من القمة المتمثلة الاسد الاب والابن بعده وبدعم من الاجهزة الامنية والجيش لتصل لكل المنتفعين من النظام من كل فئات الشعب السوري. بينما الحقيقة أن الأسد الأب ومنذ انقلابه عام ١٩٧٠م على رفاق دربه البعثيين وعلى رفيقه في اللجنة العسكرية صلاح جديد، اعتمد في البنية العسكرية والأمنية على إلحاق أكبر عدد من الشباب العلويين في الجيش والأمن ضباط ومتطوعين بحيث اصبحوا مع الزمن هم النسبة الغالبة في الامن وقيادات الجيش وضباطه. نموذجهم في السابق رفعت الاسد وسرايا الدفاع، نموذجهم الحالي الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة ، وهذا لا يلغي أن اجندة النظام تعتمد على استثمار الولاء الطائفي العلوي بغض النظر عن وجود الكثير من العلويين الشرفاء المعادين للنظام. لكن الاغلب الاعم أصبحوا من المنتفعين منه وحاضنته الشعبية وشبيحته وواغلين في دم الشعب السوري. وهذا لا يلغي وجود هامش شعبي سوري انتهازي من كل الفئات، ولذلك كان الحراك المعارض للنظام من الطليعة المقاتلة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي يتصرف وفق نظرية رد الفعل الطائفي على فعل النظام وليس العكس، رغم ادانتنا المنطق الطائفي في التحرك. نحن مؤمنين بسوريا الوطن للكل والشعب المتساوي بحكم المواطنة وأمام القانون و بالدستور، لكن هكذا كان واقع الحال.
كذلك هناك ملاحظة على المذكرات وهي إعطاء رابطة العمل الشيوعي اكبر من حجمها في معادلة العمل السياسي المعارض في ثمانينات القرن الماضي. نعرفهم وهم اصدقاء شخصيين اختلفنا واتفقنا كنا معا في المعتقلات. كانت سوريا بوجهها الوطني الديمقراطي أحزاب خاصة المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري بقيادة رياض الترك وكذلك من بقية القوى الوطنية الديمقراطية وكذلك النقابات المهنية وجمعيات حقوق الإنسان. ومنها رابطة العمل الشيوعي و الاسلاميين الطليعة المقاتلة والإخوان في واجهة الصراع مع النظام، طبعا مع اختلاف بينهم في قراءة الحال السوري وكيفية مواجهة تداعياته.
كذلك مهم التنويه حول دور النظام السوري لأكثر من نصف قرن في قضايا العالم كلها وأنه على انسجام مع النظام الدولي القائم قدم مع الروس وقدم مع الامريكان، يغازل دول الخليج ويدعي حماية العرب من العدو الصهيوني الذي يلتقي معه بالسر ويتوافق وإياه على كل الملفات.
في لبنان تقاسم الأدوار النظام السوري والكيان الصهيوني. ترك الجولان المحتل وعدم التحرك عبر عقود لأي عمل تحريري حقيقي. قبول دور معادي للعراق منذ الصراع بين العراق وايران. ما قبل احتلال الكويت والمشاركة في حرب تحرير الكويت مع الامريكان وجوائز الترضية التي حصل عليها.
ثم من صنع داعش فكريا وسياسيا وكيف تم إنتاجها في سجون النظام وانطلقت كالكلاب المسعورة ضد الثورة والثوار والمناطق المحررة وكيف ارتد الغرب عن دعم الثورة واهتم بالحرب على داعش. و انكفأت الدول العربية الخليجية الداعمة للثورة السورية وترك السوريين وثورتهم للضياع والاغتيال.
من المستفيد من مقتل مليون سوري واكثر ومثلهم مصابين ومعاقين ومبتوري الاضلاع. وملايين اللاجئين الموزعين في جميع أنحاء العالم. سوريا المحتلة من الامريكان رعاة الانفصاليين من حزب العمال الكردستاني، في الشمال الشرقي لسوريا. وكذلك سوريا المدمرة وشعبها الذي أصبح اغلبه تحت خط الجوع…هذا هو النظام السوري وهذه أفعاله.