ظلت عوامل التمرد على النظام السوري كامنة مدة خمس وعشرين سنة، لا بدفع من مجزرة حماة وما رافقها من مجازر تخطت بتوحشها وتأثيرها فصيل الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، ولتطول أغلبية المجتمع السوري، بل بسبب ظواهر عديدة أخذت تبرز في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وما تلاه، كالفساد، وتعثر التنمية، وتخريب مفاصلها الرئيسة (القطاع العام)، إضافة إلى انعدام قدرة حكومات حافظ الأسد المتعاقبة على تلبية حاجات المواطن الأساسية، ناهيكم بإطباق قبضة الأجهزة الأمنية على آلاف المواطنين واعتقال اليمين واليسار على السواء، وسطوة العسكر، وفرض الإرادة البعثية بالمطلق، وإلغاء ما كان يسمى تجاوزاً بالهامش “الديمقراطي” إذ جرى حلُّ النقابات، واستصدرت قرارات تجيز لرئيس مجلس الوزراء أن يحل، حتى المؤتمر العام لأية نقابة، إذا ما جرى الاعتراض على نتائجه أمنياً..!
وإذا كان ما ذكر أسباباً وجيهة لهبة الشعب السوري في آذار 2011 إضافة إلى مراوغة النظام حول الإصلاح، والتملص منه بذرائع شتى لا تثبت أمام الواقع والحقيقة، فإن الفكرة الرئيسة المستفادة من مواجهة المحتجين بالرصاص الحي هي بإيجاز: أن الذي يحكم سورية عصابة بكل المعاني، نعم هي عصابة نهب وسلب لما يملكه الشعب السوري، ولكل ما في البلد من ثروات ومقدرات، وإلا ما مبرر تلك الحرب التي أشعلها النظام تحت شعار “الأسد أو نحرق البلد” مستعيناً بدولتين كبريين هما روسيا وإيران وتفويضهما بفعل أيِّ شيء لقاء أن يبقى النظام قائماً.. المعتقد أنه، من هنا، يمكن فهم تصفية ما عرف بخلية الأزمة في وقت مبكر بوجود الإيرانيين أو بأيديهم..! ويبدو أن خلية الأزمة أدركت عمق الجرح السوري، وتكوّن لديها رأي مفاده إصلاح ما يمكن إصلاحه.. (بغض النظر عن طموحها السياسي الذي أفقد رأس النظام صوابه.. ليقود الأحداث في اتجاه من له مصلحة بتدمير سورية). ومن هنا تفسير دخول روسيا على الخط.. إذ عند الشعور بعجز الإيرانيين عن القدرة على إبقاء النظام الذي تهدَّدَ وجوده، جاءت روسيا لا لتكون شريكة للإيرانيين فحسب، بل لـ: “تلهف البيضة وقشرتها”، فهي من قتل وشرَّد ودمر وثبَّت بشار في مكانه، ولكن المسألة في النهاية ليست بالبساطة التي ظنَّها الروس..! فثمة مجتمع دولي، وإن ظل متفرجاً، وثمة من له مصالح أيضاً سواء من دول الجوار أم من الدول العظمى وكلاهما يتربص.. وهذا ما يصطدم به الروس اليوم ولا يستطيعون القفز فوقه، فثمة من هم أقوى منهم في الميزان الدولي أو يوازونه، على الأقل، وثمة دول أخرى لروسيا مصالح اقتصادية وسياسية معها لا تستطيع تجاهلها أيضاً، صحيح أن النظام يحاول اللعب على هذه التناقضات في محاولة منه للبقاء أكثر مدة ممكنة..! لكن مجمل الظروف التي نشأت، وبإرادة النظام نفسه، لم تعد تؤهله للبقاء وأولها ذلك الشعار الذي رفعه، وعمل بموجبه، فإما بقاؤه أو حرق البلد، وها هي ذي البلد قد غدت قاعاً صفصفاً، فعلى أي أساس بقاؤه؟! قد يصدق نفسه بأنه حارب الإرهاب وانتصر عليه، ما يبرر بقاءه، لكن هذه المغالطة لا تنطلي على أحد فليس هو الذي انتصر كما أن الشعب السوري هو الذي دفع، وما يزال يدفع الثمن (ولا أعني قتلى الجيش وما يستتبع ذلك، أبداً، فذلك مؤجل إلى أن تصمت المدافع كلياً..) فهو الذي يعاني اليوم مرارة الحصول على رغيف الخبز أبسط متطلبات عيشه.. والمتوقع حدوث انفجار ما لهذا السبب بالذات، فالشعب ليس بغافل عمن يسرق قوت يومه، وقد نشر رجل الأعمال “فراس طلاس” يوم 20 نيسان 2020 توضيحاً حول ثروة عائلة الأسد ورداً على إشاعات تقدر الثروة بأربعين مليار دولار وبعضها توصلها إلى مئة مليار، محاولاً إنصافهم فهو قريب من العائلة (سابقاً) قال: “إنَّ ثروة عائلة الأسد/ مخلوف تتراوح بين أربعة عشر إلى ثمانية عشر مليار دولار، وهذه الثروة موجودة في عدة دول عبر شركات، وشراكات معقدة عُرِف معظمها، وقال: إنَّ هذا يشكل نحو ٧٥٪ من حجم الفساد الكبير في سورية ويبقى ٢٥٪ موزعة بين الضباط والمسؤولين بنسب متفاوتة”. ويبدو أن لفراس مصلحة في تخفيض حجم ثروة شركاء نهب سورية والسوريين..!
أما “لؤي حسين” زعيم تيار بناء الدولة المسمى “معارضاً”، فقد “فَسْبَكَ” على صفحته: بـ”أن الأسد باق، وسيترشح لانتخابات 2021 وسوف ينجح..!” وواضح ما في هذا التصريح من احتقار للشعب السوري، واستصغار لشأنه، وللتضحيات التي قدمها على مذبح سعيه نحو الحرية، وتخلصه من الاستبداد والفساد الذي أخذت روائحه تصفع روح السوريين كافة، بل العالم بالفضائح التي تمس رأس النظام وشركاءه وحاشيته، ويعد عاملاً رئيساً في تفسخه وبالتالي إسقاطه، وهو الذي قد سقط، في الحقيقة، منذ الأيام الأولى لهبة الشعب التي لم يكن أحد يتوقع لها أن تتجلَّى بتلك القوة وذلك الزخم، فالمجتمع الدولي ليس بأقل معرفة بطبيعة النظام، ولعل معظم دوله باتت تزدريه.. فما كتبه “ساطع نور الدين” في مقالة نشرتها صحيفة “المدن” التي (يرأسها) مشيراً إلى حلفاء الأسد ذاتهم بقوله: “إن موقف القيادة الروسية من الأسد شخصيًا، تدرج من عدم الثقة إلى عدم التقدير إلى عدم الاحترام، وصولاً إلى الازدراء المعبَّر عنه أخيرًا بطريقة لم يسبق لها مثيل.” واستند نور الدين إلى مواقف كثيرة سابقة وإلى عدة مقالات نشرتها الصحافة الروسية مؤخراً وتصاريح لروس مقربين من الكرملين، والأهم من ذلك كله هو دلالة “الاستبانة” التي استمزج من خلالها “معهد روسي رسمي” رأي عيِّنات من الشعب السوري “في سياق الحملة الروسية الراهنة على النظام في دمشق، أفادت أنه فقط 23% من السوريين يؤيدون إعادة ترشيح الأسد في الانتخابات الرئاسية المقررة العام المقبل”.
وتكاد تجمع معظم التقارير الصحفية التي نشرت خلال الأيام الماضية إلى أنَّ الروس هم من أخذ يسرّب أنباء حالات الفساد الخاصة برأس هرم السلطة، والغاية هي الضغط على بشار لتسوية الوضع بحسب اللجنة الدستورية التي شكلت وفق القرار 2254 فالأسد ما يزال يماطل ويطلب المستحيل بعينه وهو أن يبقى في السلطة كما كان قبل العام 2011 ويسعى الروس جادين إلى حلّ مناسب مدفوعين لا بضغط الأوضاع السورية الداخلية، ولا بالضغط الدولي وقرب موعد تطبيق قانون سيزر بل لأنهم في مأزق اقتصادي وضائقة مالية خانقة بعد كورونا، وانهيار أسعار النفط، ويتطلعون إلى إعادة الإعمار في سورية فلعلها تنقذهم، لكن الغرب عموماً وأمريكا يشترطون أن لا تبدأ مرحلة الإعمار قبل أن تسوَّى القضية السورية، ولا يمكن أن تسوَّى مطلقاً والحال كما كان عليه قبل 2011..! ولعلَّ ما نشرته وكالة الأناضول قبل أيام ترجمة عن “المجلس الروسي للشؤون الدولية” يوضح ما سيجري إذ يرى التقرير أن ثمة تحليلاً يقول بـ “توافق تركي أمريكي روسي إيراني” على تنحية بشار الأسد ووقف إطلاق النار، مقابل تشكيل حكومة انتقالية تشمل المعارضة والنظام و”قسد”. وفق أحد اثنين:
أولهما: أن تقبل القوى الموجودة على الساحة السورية بمناطق نفوذ بعضها بعضاً، وتبقى سوريا منقسمة على هذا الأساس إلى ثلاث مناطق للنفوذ والسيطرة.. الأولى تحت حماية طهران وموسكو، والثانية منطقة سيطرة المعارضة السورية بدعم من أنقرة، والثالثة منطقة شرق الفرات التي تقع تحت سيطرة واشنطن ومليشيات “قسد”. أما ثانيهما فيقضي بانسحاب كامل لجميع القوات الأجنبية، وتوحيد البلاد بعد تحقيق تحول سياسي يستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، ما يعني تنحي الأسد، ووقف إطلاق النار بشكل تام على مستوى سورية.” ولعلَّ الثاني أنسب للسوريين…!
وتأتي فيديوهات رامي مخلوف، و(بغض النظر عن دواعيها، أو من خلفها)، لكنها ببساطة تؤكد عمق تفسخ النظام ما يشير إلى قرب سقوطه أو إسقاطه.. وإزاحة العثرة التي تسد مجرى سريان مياه جديدة في النهر السوري…!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا