المؤسسة الدينية والنظام السوري

روجيه أصفر

مرت أشهر طويلة منذ اتخذ رئيس النظام السوري بشار الأسد قرار إلغاء منصب مفتي البلاد وتحويل صلاحياته لمجلس علمي يترأسه وزير الأوقاف، وفي حين أنّ الوقائع دلّت على أنّ هذا الإلغاء لم يطل مفتي المدن والمحافظات استناداً إلى البيانات التي ظلّ مفتي دمشق عبد الفتاح البزم يصدرها بخصوص القضايا الفقهية بعد إصدار القرار، وتحديداً حتى نيسان (أبريل) من العام الحالي، لا يبدو أنّ المجلس العلمي الذي يترأسه وزير الأوقاف يريد السير على خطا المفتي السابق أحمد حسون بالإكثار من ظهوره الإعلامي.

ويمكن اليوم بعد الأشهر الطويلة التي تفصلنا عن القرار، أن نقوم بمراجعة أوسع لعلاقة النظام السوري منذ عصر الأسد الأب بالمؤسسات الدينية في البلاد، وكيف شُكّلت تلك العلاقة وكيف أثّرت على تلك المؤسسات.

عندما وقف بشار الأسد في عيد الأضحى الماضي ليصلي صلاة العيد أمام كاميرات التلفزيون الرسمي كما جرت العادة، وقف من بعيد قليلاً رجلٌ ظُنّ أنّ نجمه قد أفل. لم يكن هذا المشهد عودةً فعليةً للمفتي السابق أحمد حسون إلى واجهة الأحداث، ولم يكن بالطبع تراجعاً عن الوقائع التي خلقها إلغاء النظام السوري للمنصب نفسه بعد إقالة حسون. كان -على الأغلب- إشارةً مبهمةً على أنّ الرجل بقي قريباً من النظام السوري، لا أكثر.

قبل ذلك المشهد وعند صدور قرار إقالة حسون، أثار مرسوم بشار الأسد الذي ألغى منصب المفتي في سورية عدة تساؤلات حول الدافع وراء اتخاذ قرارٍ من هذا القبيل، وحول تأثير ذلك في مستوى سيطرة النظام على المؤسسة الدينية السنية السورية، خاصةً مع تفويض ما كان من صلاحيات المفتي إلى المجلس العلمي الفقهي الذي يضم رجال دين من طوائف مختلفة، على رأسهم وزير الأوقاف.

جاء القرار في لحظة غير متوقعة للكثيرين، مع تراجع دور وفاعلية المفتي حسون وتطور خلافه مع شخصيات دينية على رأسها وزير الأوقاف، وأيضاً بعد مجموعة من الخطوات التي مهّدت لهذا الإلغاء. لكن من حيث الجوهر، يعتبر القرار ترجمةً لرغبة النظام في التخلص من منصب المفتي بمعناه التاريخي ودوره التقليدي، والذي يتمتع بقدراتٍ على حجب الشرعية الدينية عن النظام وتجييش المواطنين السنة في هذا الاتجاه أو ذاك. ويعزّز القرار بسط سيطرةٍ أكبر على المؤسسة الدينية تخدمُ مصالحه، وتُصوّر على أنها تغييرٌ تقدمي في مسيرة المؤسسة الدينية.

لم يكن قرار إلغاء منصب المفتي ابن ساعته، بل هو تعبيرٌ عن سياق سبق الحرب الحالية وتأثّر بها، وصولاً إلى لحظة القرار المناسبة، إذ تأتي هذه الأحداث في سياق تطورات الثورة السورية التي انطلقت سنة 2011 لتعمّق انقساماً صامتاً كان حاصلاً في المجتمع السوري، وتطلقه إلى العلن بأشكال مختلفة؛ منها السلمي ومنها العنفي، شاملاً بطبيعة الحال فئة رجال الدين الذين اصطف قسمٌ منهم إلى جانب النظام فيما اختار القسم الآخر -لغايات مختلفة- الجانب المعاكس له. وفي إطار معركة النظام لمواجهة التمرد عليه، الذي اتّخذ في جانبٍ منه طابعاً دينياً طائفياً، جرّد النظام أدواته الدينية، وعلى رأسها المفتي أحمد حسون، لحشد تأييد «شرعي» له ولممارساته ضد من اعتُبروا خارجين عليه.

رأى النظام في المؤسسة الدينية السنية وأفرادها سلاحاً مهماً في معركةٍ نظر إليها أحياناً كثيرة على أنها تمردٌ سني ضد نظامٍ علوي، ولكنه قد يكون اعتبرها أيضاً خاصرةً رخوة، إذ قد تداعب أحلام التمرد أفكار بعض رجال الدين ممن يتمتعون بشعبية وقدرة على تجييش جماهير المؤمنين، خاصةً مع تصدر بعضهم المشهد كشيخ الجامع العمري في درعا مطلع الثورة، واستهداف النظام لجوامع رمزية لها مكانتها عند سنة سورية كالجامع المذكور في درعا، وجامع خالد بن الوليد في حمص، والجامع الأموي في حلب.

وقد كانت مواجهة النظام أو اختلافه مع جزء من أعضاء طبقة المشايخ التقليدية في سوريا خلال نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، مثل حسن حبنّكة وجماعة زيد، وقبل ذلك المواجهات في جامع السلطان بين النظام البعثي ومجموعة مروان حديد التي دعمها المشايخ التقليديون عام 1964، والمظاهرات التي رافقت كتابة دستور عام 1973، كلها قد وفّرت للنظام ذاكرةً غير مرتاحةٍ تماماً لنفوذ المشايخ، وهو ما ساعد كثيراً -وفي الوقت نفسه- على العمل على تقريب وجوهٍ كثيرةٍ منهم إليه عبر سنوات حكم نظام الأسد.

بعد مرور 11 سنة على انطلاق الثورة يظهر هذا الجانب من الصراع وكأنه قد استنفد أولويته وتراجع إلى مرتبةٍ أخرى، وقد حان الوقت لإعادة ترتيب بعض جوانب هذه المؤسسة على أساس نظرة النظام الأصلية لها منذ ما قبل 2011 بكثير، ولكن أيضاً على أساس أداء أفرادها خلال الحرب، وعلى غرار إعادة ترتيب النظام لمجموعات أخرى وعلاقته بها مع تراجع دور شخصيات كانت معروفة في السابق، اجتماعياً واقتصادياً وتجارياً، لصالح وجوه لصيقة به ظهرت وازدهر نشاطها خلال الحرب.

يمكن اختصار إعادة ترتيب هذه المؤسسة بتقليص دور الفرد كالمفتي إلى درجة الإلغاء، مقابل منح صلاحيات وأدوار أكبر -ولو نظرياً- لأجسام حكومية مؤسساتية كوزارة الأوقاف، أو مجالس مندرجة ضمنها كالمجلس العلمي الفقهي، يسهل التحكم بها، واللعب على تناقضاتها، وتغييرها.

لتيسير فهم هذه الإشكاليات الراهنة وتحليلها، لا بد من المرور بالمحطات أو الحقبات الرئيسية التي مرّت بها العلاقة بين النظام السوري في عهدي حافظ وبشار الأسد والمؤسسة المذكورة. من ثم سينتقل المقال لعرض ومناقشة خلفيات قرار النظام بشأن منصب المفتي.

تاريخ العلاقة بين الطرفين: صدامات وأشهر عسل متعاقبة

شهدت علاقة نظام الأسد مع المؤسسة الدينية السنية في سورية خلال نصف قرن محطاتٍ مفصليةً أساسية وفترات مدٍّ وجزر. ويمكن النظر إلى مسيرة هذه العلاقة على أساس خمس حقبات زمنية تختلف عن بعضها من حيث السمات التي طبعت هذه العلاقة:

الحقبة الأولى تمتد من استلام حافظ الأسد للسلطة في سورية سنة 1970 حتى الأزمة التي اصطلح على تسميتها محلياً بأحداث الإخوان المسلمين في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إذ كانت سلطة حافظ الأسد لم تستتب له تماماً، وكان للقوى المدنية والأهلية مجالاً لا بأس به من حرية التحرك والتعبير، بما في ذلك النقابات والمؤسسة الدينية والأجسام الأهلية المشابهة، وكانت سلطة النظام على المؤسسة الدينية السنية في مستوياتها الأدنى مقارنةً بما صار إليه الحال لاحقاً، وكان الطرفان يتلمسان إمكانيات صوغ علاقة تناسب كلاً منهما، فالنظام كان يسعى لتوطيد حكمه والإمساك بمفاصل الحياة في البلاد، بينما سعت المؤسسة الدينية للحفاظ على استقلاليتها ومجال نشاطها التقليدي على الأرض.

الحقبة الثانية امتدت منذ أحداث الإخوان المسلمين التي شكّلت مرحلةً انتقاليةً في العلاقة بين الطرفين نحو شكلٍ جديدٍ عزّز فيه نظام حافظ الأسد إحكام قبضته السلطوية على مفاصل الحياة في البلاد، بما في ذلك نشاط المؤسسة الدينية التي وُضعت في موقعٍ مشبوه نظراً للتمرد المسلح ضد النظام الذي تورط فيه الإخوان المسلمون وقتها، وبات رجالات المؤسسة الدينية ونشاطاتهم محل تضييق شديد من قبل النظام، كما بدا أن إحكام السيطرة على هذه المؤسسة ضرورةٌ وجوديةٌ للنظام جرّاء التمرد الحاصل، فكانت حالة الصدام مع الإسلاميين وحواضن المشايخ والجوامع، وتعزّز الخطاب التالي لهذه الإحداث الذي يفيد بتحريم الخروج على الحاكم وسرديات من التاريخ الإسلامي ترفض الفتنة والتمرد على السلطة القائمة نظراً لمقدار العنف المرتكب والخسائر الفادحة الناجمة عنه.

الحقبة الثالثة تبدأ من أواخر الثمانينيات حتى وفاة حافظ الأسد، حيث شهدت العلاقة بين الطرفين ارتياحاً أكثر قياساً بالتوتر شديد المستوى الذي ساد في الحقبة السابقة، تمثّل في تواصلٍ غير معلنٍ تماماً حينها بين الطرفين؛ أي النظام وقادة الإخوان المسلمين والمحسوبين عليهم، ترافق مع دعواتٍ مشروطة للعودة إلى سورية من دول المنفى، ولكن دون إسقاط القانون السابق القاضي بإعدام المنتسبين إلى التنظيم، وإفراج واسع عن قرابة 300 معتقل إسلامي مطلع التسعينيات. شكلت هذه الحقبة، بالإضافة إلى الحقبة التالية لها. فترة «وئام» بين النظام والمؤسسة الدينية السنية، امتدت بحقبتيها -على تمايزهما- قرابة عقدين من الزمن. امتازت هذه الحقبة بصعود الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وتقريبه من رأس السلطة، مع الحفاظ على مكانة المفتي أحمد كفتارو.

الحقبة الرابعة بدأت مع وصول بشار الأسد إلى السلطة وامتدت إلى نهايات العقد الأول من الألفية في عامي 2009 و2010، وشكلت امتداداً للحقبة السابقة، وزاد عليها بشار الأسد انفراجةً متعددة الأوجه، منها ما هو نحو الوسط الديني الدمشقي تحديداً، بما فيه من قبيسيات، مع الاهتمام بعلاقة الرئيس وزوجته بالأوساط البرجوازية الدمشقية من «أبناء العائلات»، وانتشرت الموالد ونشاطات القبيسيات، مع الحفاظ على تقريب البوطي، وتعيين أحمد بدر الدين حسون مفتياً خلفاً لأحمد كفتارو الذي بقي في منصب مفتي الجمهورية منذ سنة 1964 حتى وفاته، وكان؛ أي كفتارو، آخر مفتٍ منتخب من قبل مجلس الإفتاء الأعلى في عملية ديمقراطية تمنح المفتي المنتخب بعداً تمثيلياً وقدراً من الفاعلية رغم التضييق. شهدت هذه الحقبة أيضاً توجيه الإخوان المسلمين رسائل «ناعمة» للنظام، كتعليق النشاطات المعارضة له سنة 2008، وبعض الأحداث التي كان لها تأثيرٌ غير مباشر على موقف جزءٍ من طبقة رجال الدين السنة تجاه النظام، كتورطه في اغتيال رفيق الحريري، ودوره النشط في إرسال الجهاديين من سورية وعبرها إلى العراق من خلال شبكات محلية مرعية أمنياً.

الحقبة الخامسة التي استمرت حتى اليوم بدأت بعد تململ طبقات ممتعضة من التمدد الديني مع الانقلاب على الجهاديين سنة 2009 وإقصاء البوطي من الحلقة المقربة من بشار الأسد، مترافقةً مع دلالات مشكلة مسلسل ما ملكت أيمانكم المبني بحسب مخرجه على مذكرات جهادي، عالجها المسلسل في تطرقٍ للتطرف الديني في سورية، وكان رفضه البوطي في بيانٍ علني. انتهت المشكلة بحسب مذكرات الشيخ سارية الرفاعي المعارض للنظام باعتذار البوطي من مخرج المسلسل في مكتب رئيس المخابرات العسكرية اللواء آصف شوكت. مع كل ما يمكن استنتاجه من حادثةٍ مشابهة، والقرار القاضي بنقل المدرسات المنقّبات إلى وظائف حكومية عادية، والتضييق على المدارس الشرعية، وحلّ مجالس إدارات المؤسسات الأهلية الدينية الخيرية وفرض انتخاب مجالس جديدة لا مكان لرجال الدين فيها، وزيارة بشار الأسد وزوجته إلى فرنسا والحديث عن علمانية الدولة التي يدها إسلامية والأخرى مسيحية. يضاف إلى ذلك محاولة تغيير قانون الأحوال الشخصية التي لم تمر، واستبدال كتاب التربية الدينية المدرسي بكتاب «روحي» عابر للأديان، الأمر الذي أتت ثورة 2011 لترفعه عن طاولة البحث والتنفيذ. تشبه الحقبة الخامسة هذه الحقبةَ الثانية التالية لأحداث الإخوان المسلمين من حيث كونها تعبّر عن حالة صدام بين الطرفين.

مع اندلاع ثورة 2011 والتعامل العنيف للنظام معها، عاد الخطاب الديني التقليدي المشابه لفترة أحداث الإخوان المسلمين للظهور والمناداة بحرمة الخروج على الحاكم، وأنّ الفتنة أشد من القتل، مع تبرير عنف النظام وأفعاله من قبيل «اضرب من شئت وحالف من شئت»، في حين اختارت فئةٌ تبدو محدودةً من رجال الدين الخروج على النظام رافضةً أفعاله، وترفع الصوت ضده، أو تلوذ بالصمت محتفظةً برأيها لنفسها، وبروز دور للمفتي حسون في تبرير خطوات النظام وتأمين غطاءٍ دينيٍّ لها، ولو كان غطاءً واهياً.

إعادة ترتيب المؤسسة الدينية على ضوء التاريخ والحاضر

لا تبدو أسباب إلغاء منصب المفتي مقتصرةً على سببٍ واحدٍ أو نوعٍ واحد من الأسباب، فتوقيت القرار يبدو مبنياً على أحداث وتطورات جرت في السنوات الأخيرة (الحقبة الخامسة)، كفاعلية المفتي حسون ونوع حضوره بين رجال الدين السنة، وعلاقته المتوترة بوزير الأوقاف، وتسويق تحويل منصب المفتي إلى مجلسٍ متنوعٍ كإنجاز يحسب للنظام. كلها أحداث مهّدت لترتيب إجراءات القرار وإعلانه في وقتٍ يناسب النظام ويخدم مصالحه. ولكن هذا لا يعني أن القرار معزولٌ عن نظرةٍ عميقةٍ من نظام البعث إلى تاريخ المنصب وتمتّع شاغله قبلاً بصفاتٍ تمثيليةٍ وفعاليةٍ شعبية، وبالتالي الأخطار -ولو النظرية- التي يشكلها عليه.

فالنظام له موقفٌ مبدئي سلبي من منصب المفتي بسبب سمات هذا المنصب تاريخياً، كقدرته على منح الحاكم الشرعية وحجبها عنه، وكذلك صفة صاحبه التمثيلية بسبب انتخابه من قبل مجلس الإفتاء الأعلى، والذي بالإضافة إلى منحه الشريعة والتمثيل، يشكل صلة المفتي بالمؤمنين وقناة قدرته على تجييشهم.

في حالة المفتي، وبغض النظر عن هوية الشخص الذي يتولى المهمة، يبقى للمنصب وزنٌ روحي وإرثٌ تاريخي كخليفة لشيخ الإسلام في العهد العثماني، المرجع الديني الأهم الذي يُعد مشاركاً أساسياً في تعيين أي حاكمٍ والانقلاب عليه. فبالإضافة إلى القوة العسكرية، يحتاج المنقلب في سياقٍ مشابه إلى رفع الشرعية الدينية عن الحاكم لتشريع الانقلاب عليه أو خلافته، وهو الأمر الذي يوفّره شيخ الإسلام أو المفتي، بصفته شاغل المنصب الذي يمكن أن يقف في وجه السلطة حين تحيد عن الطريق القويم، الأمر الذي ذكره رمزياً الشيخ أسامة الرفاعي في كلمته بعد تعيينه مفتياً من قبل أطراف في المعارضة السورية، إذ أشار إلى حادثةٍ جرت مع المفتي السوري الأسبق أبو اليسر عابدين، وكيف وقف في وجه السلطة المتمثّلة بوزيرٍ في الحكومة.

القيمة المضافة تقليدياً لشاغل منصب المفتي، والتي يخشاها النظام، هي صفته التمثيلية وشرعيته التي يكتسبها من القبول المفترض أن يحظى به في أوساط رجالات المؤسسة الدينية السنية من علماء وشيوخ، إذ جرت العادة قبل تعيين المفتي حسون أن يتم انتخاب المفتي في عملية ديمقراطية من قبل مجلس الإفتاء الأعلى، الأمر الذي يمنح شرعيةً وصِفةً تمثيليةً وقدرةً على التأثير في العلماء والشيوخ والمسلمين، والوصول من خلالهم إلى جمهور المؤمنين وتجييشهم.

لطالما تخوف النظام من بروز أي شخصية أو جهة على الصعيد الشعبي على أساسٍ اجتماعي أو ديني أو نقابي مثلاً، فحتى غير المشكوك في ولائهم للنظام يبقى هناك حدود لمدى قبول النظام بحالةٍ جماهيريةٍ لهم في بيئاتهم الأصلية. ينطبق ذلك على الضباط وأعضاء مجلس الشعب والأعيان المحليين ورجال الدين.

ما سبق يجعل منصب المفتي في موقعٍ غير مناسبٍ للنظام منذ البداية، وهو السبب الأساسي الذي يفسّر كل ما جرى لاحقاً عبر عقودٍ زمنية من العلاقة بين النظام ومنصب المفتي وشاغله، ويشرح السياسات التي جرى اتباعها في هذا الشأن وصولاً إلى إلغاء منصب المفتي.

خطوة خطوة نحو إلغاء المنصب

دعم نظام البعث اختيار الشيخ كفتارو لمنصب المفتي سنة 1964 لما عرف عنه من مهادنةٍ وجنوحٍ نحو تجنب المواجهات وتفادي معاداة السلطة، عدا عن قيامه قبل ذلك بسنوات بدعم مرشح البعث في دمشق رياض المالكي في مواجهة مرشح الحركة الإسلامية مصطفى السباعي، وذلك نتيجة عداواتٍ نشأت بين كفتارو وبعض أفراد تلك الحركة، وحصلَ أن انتُخب من مجلس الإفتاء الأعلى بفارق صوتٍ واحد، لكن لم يسمح له بعدها بجمع المجلس على الإطلاق، فجُرّد من القدرة على تأمين استمرارية صفته التمثيلية والقدرة على التواصل من خلال مجلس الإفتاء مع المؤمنين. وعَرفَ عهدُه الطويل في منصب المفتي التعاون بين رجال الدين والسلطة، واتباع سياسة «واحدة بواحدة»، أو أمر مقابل أمر، طالما كان ذلك سياسةً ممكنة. ثم أتى أحمد بدر الدين حسون معيّناً بشكلٍ كامل من قبل النظام السوري، في عمليةٍ تنقل هذه الصلاحية من المؤسسة الدينية إلى النظام السياسي، وتُفقِد حسون منذ البداية أي صفةٍ تمثيليةٍ فعلية، ليلعب دوراً شديد التماهي مع السلطة، حتى وصف بـ«الانبطاحي».

في ترجمةٍ لموقف النظام الأساسي الرافض لمنصب المفتي وكل ما يعنيه، رعى النظام النزاع التاريخي القديم بين وزير الأوقاف والمفتي وحافظَ عليه، حتى قبْل الوزير الحالي والمفتي المعزول، بسبب الصلاحيات المتداخلة على نحوٍ كبير، ليقيد المفتي ويُبقي على تنافس الطرفين على الولاء وتقديم الطاعة لكسب رضى النظام طمعاً في مناصرة أحدهما ضد الآخر.

قد تبرز حادثة تفسير القرآن على نحوٍ خاطئ من قبل المفتي السابق أحمد حسون في عزاء المطرب صباح فخري، ثم البيان الصادر عن المجلس العلمي الفقهي منتقداً التفسير وصاحبه بشدة دون أن يسميه، لتشكل في نظر المتابعين سبباً لإلغاء منصب المفتي بعد ذلك ببضعة أيام، ولكن بغض النظر عن دور هذه الحادثة في قرار الإلغاء من عدمه، تبرز مجموعة من القرارات والخطوات التي مهّدت لقرار إلغاء منصب المفتي.

تمت تهيئة الظروف لإلغاء منصب المفتي منذ عملية تعيينه التي سلبته شرعية مجلس الإفتاء الأعلى المغيّب وتمثيليّته، ثم مع تراجع دور المفتي حسون الذي تحول إلى دورٍ ضارٍّ بالنظام مع تنامي الرفض لخطابه ضعيف السند الديني في الأوساط الدينية والمحافظة، حتى اقتصر دوره الفعلي على «علاقات مميزة بالطوائف المسيحية التي تتقبّله أكثر من شيوخ المسلمين». فمنذ أكثر من عشر سنوات كان هناك تبرم رسمي غير معلن من تصريحات الحسون المستفزّة، وقصوره العلمي الفقهي الذي يثير حفيظة المشايخ والعلماء التقليديين، والذي انعكس عجزاً عن التغلغل في أوساط رجال الدين السنة ما عدا فئةٍ قليلةٍ ممن رعى هو صعود أفرادها. وتورد مصادر كانت مقربة من المؤسسة الدينية السنية والنظام السوري أن المفتي كان مجرد منفذ لتعليمات الطبقة الثانية أو الثالثة من ضباط الأمن لا أكثر.

وزارة الأوقاف كانت قد جهّزت قانوناً جديداً قبل قرابة 5 أعوام، أصدره رأس النظام السوري سنة 2018، يزيد من تحجيم دور المفتي، إذ ينص على أن تعيينه يأتي بمقترح من وزارة الأوقاف، ويحدد ولايته بثلاث سنوات، مانحاً وزارة الأوقاف صلاحياتٍ أوسع على حساب المفتي. وتعزّزت النظرة لمنصب المفتي على أنه ممثلٌ شرعي غير فاعل للمسلمين السنة منذ زمن طويل، ويمكن الاستعاضة عنه بصيغةٍ أكثر ملائمةً للنظام، ولو على حساب امتعاض فئةٍ من المجتمع السني ومؤسسته الدينية، وهو ليس امتعاضاً مبنياً على التعاطف مع شخص أحمد حسون، بل على فقدان منصب روحي رمزي للسنة.

إلغاء منصب المفتي واستبداله بمجلس في سبيل تعزيز سيطرة النظام

يحقق إلغاء منصب المفتي واستبداله بمجلس عدة منافع للنظام، فـ«إعادة تركيب العمامة» في مكانٍ آخر برعاية وزارة الأوقاف يحقق للنظام خدماتٍ أكثر من وجوده. بالإضافة إلى الهدف الجوهري بالتخلص من منصب المفتي المقلق للنظام وإرثه التاريخي وقدراته النظرية، يمكن أن يُقدّم هذا الإلغاء من الناحية النظرية على أنه تطورٌ تقدمي يحوّل عمل الفرد إلى عملٍ جماعي مؤسساتي، دون إهمال إمكانية استعمال المجلس وكأنه «محكمة تفتيش» حين اللزوم لقمع أفراد جانحين من رجال الدين السنة، فصحيح أنه لا يُخشى من استعمال المجلس ضد مكوناتٍ دينية غير سنية -إذ يضم المجلس ممثلين عن هذه المكونات وبحصص أكبر من وزنها العددي الحقيقي- ولكن الخوف من أن يستعمل المجلس لكم الأفواه بين السنة أنفسهم، «فعلى غرار محكمة أمن الدولة السابقة يصبح هناك محكمة أمن الدين».

يأتي إلغاء المنصب وربط الشؤون الدينية الإسلامية بوزارة الأوقاف والمجلس العلمي الفقهي برئاسة وزير، ليعني أيضاً تسليم الأمور لموظف إداري لا قيمة روحية له، بالإضافة إلى أن الوزارة جزءٌ من حكومةٍ أكثر قابلية للمساءلة القانونية من حيث الشكل، والتغيير الدوري دون أي صعوبةٍ تذكر، أو إحداث حالة صدمة في الشارع السني. تكفي المقارنة بين عدد وزراء الأوقاف منذ سنة 1964 البالغ 13 وزيراً، مقابل مفتيين فقط للفترة نفسها، للاستدلال على ذلك.

يظهر أنه بات للنظام سيطرة أكبر بعد هذه التطورات على المؤسسة الدينية السنية؛ استبعاد لمنصب مؤثر، وتحويله لوظيفةٍ بيروقراطية حكومية ضمن مجلس يسهل التحكم فيه، واستعماله، وتغيير رأسه وأفراده.

مهما يكن الأمر من أسباب اتخاذ النظام قراراً بإلغاء منصب المفتي، فهناك اتفاقٌ على أن القرار لم يلقَ صدىً إيجابياً لدى المسلمين السنة وشيوخهم، مؤيدين للنظام ومعارضين، لما للمنصب من رمزية روحية وتاريخية رغم فقدانه فعاليته عبر الزمن بفضل إجراءات النظام.

يبدو القرار موضوع النقاش غير عكوسٍ في المستقبل القريب، خاصةً مع بقاء النظام حاكماً في سورية. وتُظهر الأسابيع التالية لإعلان القرار عدم وجود ردّات فعلٍ يُخشى منها، في حين يبقى التساؤل إن كان المجلس العلمي الفقهي سيبقى على ما هو عليه من نشاطٍ محدود وفاعليةٍ شبه معدومة، أم أن دوراً مرسوماً له في إطار تعميق سيطرة النظام على المؤسسة الدينية السنية سيظهر في مقبل الأيام، خاصةً مع التخوّف من تحويل المجلس إلى «محكمة أمن الدين»، أداةً لقمع المخالفين وتعزيز الرأي الواحد.

المصدر: الجمهورية. نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى