أوقعت الجزائر نفسها في مأزق دبلوماسي حرج، عندما وضعت دبلوماسيتها إعادة نظام الأسد إلى الحظيرة العربية في مقدمة أولوياتها، فالأسد لم يبذل أدنى مجهود لتغيير سلوكه، ليس تجاه شعبه، بل التخفيف من إدمانه على تجارة المخدرات، التي تحوّلت إلى أداة فتاكة تدمّر المجتمعات العربية، دون التمييز بين أبناء قومجي ممانع يدعم الأسد وأبناء معارض للأسد وسياساته.
لم تجد الجزائر مخرجاً أفضل من أن يطلب النظام السوري نفسه عدم دعوته إلى القمة، وهذه سابقة لم تحصل في تاريخ العلاقات الدبلوماسية، وتسلط الضوء على حجم الحرج الذي وقعت فيه الجزائر، فمن جهةٍ كان صعباً على الدبلوماسية الجزائرية التي أيدت الأسد، حتى في عز ارتكابه المذابح وبكل صنوف الأسلحة، التراجع عن دعوته، بل كانت تعتبر أن انعقاد القمة في الجزائر فرصةٌ لإحراج الأنظمة الرافضة لعودة نظام العصابة السوري، ولإثبات أن كل ثورات الشعوب ضد حكامها المستبدّين هي حروب سوداء” العشرية السوداء”، ضلت خلالها الشعوب طريقها وجرى تأديبها.
ومن جهة ثانية، تكشّفت للجزائر أن علاقاتها مع دول عربية كثيرة، إما دخلت في طور الأزمة مع بعض الدول، أو أن هناك أزمة تتشكّل مع دول أخرى. وفي هذا المناخ، سيكون صعباً على الجزائر إضافة حمل ثقيل بحجم دعوة الأسد، الذي بات تاجراً للمخدّرات بشكل علني، وباتت تجارته تهدد بإغراق عواصم عربية وتدمير مجتمعاتها، انتقاما من العرب والعروبة. غير أن اللافت في إخراج خبر طلب النظام السوري عدم طرح موضوع دعوته إلى القمة الصياغة ذات الرومانسية الكثيفة، فوزير خارجية النظام فعل ذلك حرصاً من نظامه على توحيد الكلمة والصف العربي في مواجهة التحدّيات التي تفرضها الأوضاع الراهنة على الصعيدين، الإقليمي والدولي، بمعنى أن النظام السوري أراد الظهور بمظهر المضحّي من أجل ألا تُخدش وحدة الصف العربي في ظل التحديات التي يواجهها العالم العربي، وبالتالي فإن من الأفضل التركيز على هذه التحدّيات بدل الدخول في سجالات، من شأنها استنزاف طاقة العرب، حول هل يحضر نظام الأسد القمة أم لا يحضر!
هل من عاقل في الدنيا يصدّق أن هذا النظام الذي شتم العرب أكثر مما شتمهم أعداؤهم، وحاول تحميل الدول العربية آثام جرائمه بحق الشعب السوري، بدعوى أن تعاطفهم مع هذا الشعب هو سبب الخراب السوري، أن يهتم بعد ذلك بوحدة الصف العربي وسواها من هذه الكليشيهات التي أقلع حتى غوار الطوشة عنها؟ لو كان الأمر كذلك، لكانت الدبلوماسية الجزائرية الذكية قد انتهزت الفرصة، وطلبت منه تخفيف إرسال شحنات المخدرات إلى العواصم العربية بادرة حسن نية، بدل أن يتمنّى للعرب التوفيق في قمتهم والصفاء في علاقاتهم والهناء في عيشهم.
ليس سرّاً، أنه لولا تشدّد بعض العواصم العربية، ورفضها الإذعان للضغوط الإقليمية والدولية، لكان بشار الأسد حاضراً في قمة الجزائر المقبلة، ولانتهزها فرصة لاختراق حالة العزلة التي يعيشها منذ عقد، ومن المؤكّد أنه سينتهزها فرصة أيضاً لمساعدته في فك العزلة الغربية عنه، وسيحاجج بأن العقوبات المفروضة على نظامه هي سبب معاناة الشعب السوري، وأن المطلوب من العرب نجدة شعبهم السوري، وبالطبع من دون أن يقدّم أي تنازل لهذا الشعب، حتى لو على مستوى الإفراج عن عشرات آلاف المعتقلين ظلماً، أو على الأقل إخبار ذوي المفقودين والمغيبين عن مصير أبنائهم، أو حتى التعهد بالسماح للاجئين بالعودة بأمان إلى بلدهم.
كان المخطط أن تكون قمة الجزائر مناسبة لتشريع الوضع العربي الحالي، أي إشهار انتصار الثورات المضادّة، وتجريم كل ثورة ضد نظام حاكم، مهما كانت الأسباب والمبرّرات، وتحويل ما هو شاذ إلى طبيعي، القمع بوصفه سياسة لحماية أنظمة الحكم التي هي في النهاية الدول، والفساد بوصفه ضرورة للحفاظ على توازنات القوى داخل الأنظمة الحاكمة، والعبث بمصائر الشعوب بوصفه حقاً سيادياً وعملاً ضديا للسياسات الخارجية التي تتلطى خلف شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية وسواها.
كان حضور بشار سيشجّع تياراً عربياً، رغم أقليته، ولكنْ له صوت مرتفع، يدعو إلى حرية كل نظام التصرّف وفق ما يرتئيه من مصلحةٍ في علاقاته الخارجية وسياساته الداخلية، ولا يجوز العتب أو اللوم، فكل نظامٍ قادرٌ على تقدير الفرص والمخاطر التي تواجهها بلاده، وله الحق في تحديد أنماط الاستجابات المناسبة، حتى لو تعارضت مع المصالح القومية العليا، ومع أمن النظام الإقليمي العربي. ولكن يبدو أن من سوء حظ الأسد أن حامله الجزائري أثقلته أحمال كثيرة في علاقاته العربية، وبات هو نفسه موضع اتهام من أطراف عربية كثيرة، سواء لجهة علاقاته المثيرة للشك مع إيران من دون أي مبرّر يستدعي ذلك، أو علاقاته مع أثيوبيا التي تشهد علاقاتها توتراً مع مصر والسودان، بالإضافة بالطبع إلى علاقاته المتدهورة مع المغرب، الذي يملك علاقات واسعة مع غالبية الدول العربية.
النقطة الإيجابية في هذا الملف أن عدم استطاعة الجزائر تحمّل أعباء دعوة نظام الأسد تعني، فيما تعنيه، انهيار جهود إعادة تعويم الأسد عربياً، وانتهاء مرحلة جرى فيها الدفع بقوّة لإعادة الأسد إلى الحظيرة العربية، بل يمكن القول إن ذلك سيستتبعه تجميدٌ للعلاقات التي نشأت بين الأسد وبعض الدول العربية في المرحلة السابقة، وهذه المرّة بالدليل القاطع؛ لا يمكن إعادة تأهيل رئيس عصابة وتاجر مخدّرات.
المصدر: العربي الجديد