متى سوف يصبح لدينا في عالمنا العربي القناعة بأن السلطة هي وسيلة من وسائل تنظيم و تطوير المجتمع و ليست وسيلة من وسائل السيطرة على المجتمع و الدولة و غنيمة لا يمكن التفريط بها او التخلي عنها إلا بوسائل الإكراه المكلفة و المدمرة للدولة و المجتمع
و كم أحسد بريطانيا -التي لم تكن عظمى من فراغ- عندما نرى و نسمع هذه السلاسة التي تم بها تخلي بورس جونسن عن السلطة و رئاسة الوزراء و رئاسة حزب المحافظين مع العلم أن القانون الأساسي لحزب المحافظين الذي لم يتغير منذ انشائه عام ١٨٣٢ ينص على أن رئيس الحزب ينتخب مدى الحياة حيث أن أوربا أيضا وقتها كانت مصابة بالمرض -الذي مازال مستوطنا عندنا- الذي يؤمن بالصفات الاستثنائية للزعيم و بأنها سمات خلقية لا تتغير بمرور الزمن فتمنحه الشرعية مدى الحياة
و لكن المجتمعات السائرة في درب التطور لا تبقى جامدة عند مرحلة معينة فقد تطورت القناعة السياسية في حزب المحافظين مطلع القرن العشرين، بأن الرئيس يبقى في الحكم طالما أنه لم يخسر في الانتخابات العامة، و عند خسارته الانتخابات عليه الاستقالة و افساح المجال لمن هو أكفأ رغم قانون الحزب لم يتغير..
ثم تطورت هذه القناعة في أواخر القرن لمرحلة جديدة عندما فازت مارغريت تاتشر في الدورة الثالثة عام ١٩٨٨ بأنه لا يمكن لإنسان طبيعي أن ينجح في دورة انتخابية أخرى بعد احد عشر عاما في رئاسة الوزارة و خمسة عشر عاما في رئاسة الحزب فتم الاجماع على اجبارها على التخلي عن السلطة لجون ميجر في منتصف مدها الثالثة عام ١٩٩٠ رغم أنها لم تخسر انتخابات و لم ترتكب أي خطأ سياسي.. و لكن فقط لتزيد فرص الحزب في النجاح بانتخابات ١٩٩٢
و لأن المجتمعات السليمة المتطورة تنتقل فيها الظواهر و القناعات الايجابية و تكبح و تقاوم الظواهر السلبية و السيئة عكس المجتمعات المتخلفة
فقد انتقلت هذه القناعة إلى حزب العمال و تخلى انطوني بلير عن السلطة لطوني أدمز في منتصف دورته الثالثة..
ثم تطورت القناعة السياسية لمستوى أعلى مع ديفيد كامرون الذي استقال بعد فشله في انجاح الاستفتاء على البقاء في الاتحاد الأوربي فاعتبرها بمثابة الفشل في انتخابات عامة.. و على نفس الوتيرة استقال جونسن و سلم السلطة بكل سلاسة
رغم أن القانون الاساسي للحزب لم يتغير و لا يوجد دستور مكتوب يجبره على الاستقالة او يدعمه للتمسك بالسلطة لكنها القناعة السياسية أهم من اي قانون او دستور
لذلك أقول لكل السوريين أنه ليس مجدي إضاعة كل هذا الوقت و الجهد في اللجنة الدستورية و كتابة دستور لا يساوي ثمن الورق الذي يكتب عليه إذا لم تتشكل القناعة المجتمعية و السياسية بطبيعة السلطة و محداداتها و علاقتها بالمجتمع و تطويره و ليس التسلط عليه و قهره
فلن يفيد أي نص قانوني او دستوري يتم اختراقه يوميا.. و يستطيع أي رجل أمن في أدنى المراتب نسف كل ما يتم كتابته ثم وضعه على الرف دون ادنى مساءلة او مسؤولية..
و إذا كان لابد من كتابة دستور فليكون وثيقة دستورية مرنة تحدد الخطوط العامة و بذل الجدل أكثر في تطوير القناعة المجتمعية و السياسية للتجاوز الدائم للأفضل و الأكثر تطورا مثلما فعلت بريطانيا العظمى.. العظمى.
المصدر: صفحة بسام شلبي