على أهمية دورها عبر العصور، باتت التكنولوجيا في العقود الأخيرة المتغير المستقل بامتياز (par excellence) في السياسة الدولية، تتمحور حولها سياسات الدول وتتقلب، تتقدّم بها أو تشيح عنها فتتأخر. وتعد تقنية استخراج الغاز الصخري أحد الأمثلة البارزة التي تبيّن مدى تأثير التكنولوجيا في السياسة الدولية، فمنذ عام 2013 تحولت الولايات المتحدة بسببها الى أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، وبحسب وكالة الطاقة الأميركية، بلغ إنتاج الولايات المتحدة عام 2021 نحو 18,9 مليون برميل يوميا تشمل النفط الخام وأنواع المشتقات البترولية الأخرى (20% تقريبا من إنتاج العالم). في حين بلغ إنتاجها من الغاز في العام نفسه 935 مليار متر مكعب، متجاوزة روسيا (700 مليار متر مكعب). وأدّى هذا التطور الذي قادته التكنولوجيا إلى تغييرين مهمين، تمثل الأول بتقلص أهمية منطقة الخليج العربي مصدرا للطاقة بالنسبة للاقتصاد الأميركي (وإن زادت أهميتها بالنسبة للاقتصاد العالمي.) وتجسد الثاني في تحول أسواق الطاقة لدول الخليج العربية من الغرب إلى الشرق، إذ بات الجزء الأكبر من نفط المنطقة وغازها يتجه إلى اليابان والصين والهند وغيرها من الاقتصادات الآسيوية، بدلا من الولايات المتحدة وأوروبا (وإن حصلت تغيرات هنا أخيرا بسبب أزمة أوكرانيا). وقد أدى ذلك إلى اهتزاز العلاقة الخليجية -الأميركية التي قامت عقودا على صيغة “النفط مقابل الأمن”. وكان أبرز تعبير عن ذلك إشاحة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بوجهه بعيدا عن الهجمات التي تعرّضت لها منشآت أرامكو في سبتمبر/ أيلول 2019، وأدت الى إخراج نصف إنتاج السعودية النفطي من الخدمة. وجاءت تصريحات ترامب صادمة لدى إجابته عن سؤال صحافي بشأن ما إذا كان سيردّ على تلك الهجمات، إذ قال: “ولماذا ينبغي أن أرد؟ هذا هجوم على السعودية وليس على الولايات المتحدة”.
وجاء تزعزع العلاقة الأمنية بين دول الخليج وواشنطن نتيجة مباشرة لفطام الأخيرة عن نفط الأولى، وقد دفع ذلك دول الخليج إلى محاولات (ما زالت في بداياتها) لتنويع شراكاتها الأمنية، خصوصا مع الدول التي باتت تعتمد على الخليج مصدرا رئيسا للطاقة، الصين تحديدا. ففي عام 2019، تحدّثت تقارير عن توقيع الكويت صفقة لتأجير جزيرتي وربة وبوبيان إلى الصين. وفي أواخر عام 2021، تدخل الرئيس بايدن شخصيًا لوقف إنشاء ما وصفت حينها بقاعدة صينية في ميناء خليفة في الامارات. وفي إبريل/ نيسان 2022، أرسل بايدن رئيس المخابرات المركزية، بيل بيرنز، إلى الرياض لإقناع السعودية بوقف شراء صفقة أسلحة صينية كبيرة، بعد أن كانت صحف أميركية كشفت قبل ذلك عن بناء الصين منشأة لإنتاج الصواريخ البالتسية شمال الرياض. وكانت تقارير صحافية أميركية أخرى ذكرت أن أحد أسباب تخلي الإمارات عن صفقة إف 35 اشتراط الولايات المتحدة وقف مشروع “5G” الذي تنفذه شركة هواوي في الإمارات.
ورغم أن دول الخليج ما زالت لا تملك خيار استبدال تحالفها الأمني مع واشنطن بآخر مع بكين، خصوصا أن الصين نفسها لا ترغب بذلك، ولا تقوى عليه أيضا، إلا أن حجم المصالح الذي يربط دول الخليج العربية بالصين بات كبيرا إلى درجة يصعب التخلّي عنها، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الطرفين عام 2019 نحو 180 مليار دولار، وهو العام الذي أزاحت فيه الصين الاتحاد الأوروبي عن مكانته شريكا تجاريا أول لدول الخليج العربية. وليس أبلغ من التعبير عن حجم المصالح الكبرى مع الصين إلا صمت دول الخليج المطبق عن الانتهاكات المريعة التي ترتكبها حكومة بكين بحق مسلمي الأويغور في إقليم سينغيانغ (تركستان الشرقية).
باختصار، باتت اقتصادات دول الخليج مرتبطة بالصين أكثر من أي وقت مضى، لكنها ما زالت أمنيًا معتمدة على الولايات المتحدة. حتى حينه، تمكّنت دول الخليج من إنشاء توازن بين الطرفين. ولكن مع احتدام المنافسة بين عملاقي العالم، كما تدلّ كل المؤشّرات، قد يُفرض على دول الخليج أن تختار بين مصالحها الاقتصادية ومصالحها الأمنية، وهو أمر قد تدفع دول الخليج العربية ثمنه غاليًا إذا لم تتبع استراتيجيات مختلفة عما اعتادته، سواء في سياساتها الدفاعية أو الاقتصادية.
المصدر: العربي الجديد