على الرغم من أن الساسة الإسرائيليين تحدثوا بشكل واضح وصارخ عن قتل إسرائيل الأطفال الفلسطينيين -وفي حالة وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة أييليت شاكيد، “الأمهات الفلسطينيات اللواتي يلدن ‘الثعابين الصغيرة’”، فإن تقرير هيئة الإذاعة البريطانية، وغيره من التقارير الغربية عن الحرب الأخيرة، لم تتحدث عن ذلك.
* *
في حين أن وسائل الإعلام الأميركية والغربية الرئيسية وإعلام الشركات تبقى دائماً منحازة إلى جانب إسرائيل، فإنها غالبًا ما تتصرف كما لو أنها كانت طرفًا ثالثًا محايدًا. لكن هذا ببساطة ليس هو واقع الحال.
فلنأخذ تغطية صحيفة “نيويورك تايمز” للحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة كمثال. يشكل تقريرها المنشور في 6 آب (أغسطس) بعنوان “القتال بين إسرائيل وغزة يستعر لليوم الثاني” التقرير الغربي السائد النموذجي عن إسرائيل وفلسطين، وإنما بنكهة مميزة لصحيفة “نيويورك تايمز”.
بالنسبة للقارئ غير المطلع، سوف يعثر في التقرير على لغة متوازنة بين جانبين متساويين. ويشكل هذا التكافؤ الأخلاقي المضلل إحدى أكبر النقاط الفكرية العمياء للصحفيين الغربيين. فإذا لم يناصر هؤلاء بوضوح خطاب إسرائيل حول “الأمن” و”الحق في الدفاع عن نفسها”، فإنهم يصنعون أوجه تشابه زائفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما لو أن للكيان القائم بالاحتلال العسكري والشعب الخاضع للاحتلال حقوقا ومسؤوليات متماثلة وقابلة للمقارنة.
من الواضح تماماً أن هذا النوع من المنطق لا ينطبق على تغطية الحرب الروسية-الأوكرانية. بالنسبة لصحيفة “نيويورك تايمز” وجميع وسائل الإعلام الغربية الرئيسية، لا يوجد أي شك في مَن هم الأخيار ومن هم الأشرار في تلك المعركة الدموية.
لطالما كان “المسلحون الفلسطينيون” و”الإرهابيون” هم الأشرار بالنسبة للغرب. ووفقًا لمنطق تغطيته الإعلامية، فإن إسرائيل لا تشن حروبًا غير مبررة على الفلسطينيين، والتي لا يكون الفلسطينيون هم الذين استفزوها لتشنها، وهي ليست مُحتلاً عسكرياً غير نادم، أو نظام فصل عنصريا. هذه اللغة الأخيرة يمكن أن تستخدمها فقط وسائل الإعلام “الراديكالية” و”اليسارية” الهامشية -وإنما ليس صحافة التيار السائد.
تحدثت المقدمة الموجزة لتقرير “نيويورك تايمز” المذكور عن عدد القتلى الذي يرتفع، لكنها لم تذكر في البداية أن الفلسطينيين العشرين القتلى بينهم أطفال، مؤكدة بدلاً من ذلك أن الهجمات الإسرائيلية قتلت “قائداً متشدداً”.
وعندما يتم الكشف عن مصرع الأطفال الفلسطينيين الستة الذين قتلتهم إسرائيل في الفقرة الثانية، يوضح التقرير على الفور، ومن دون بدء جملة جديدة، أن “إسرائيل قالت إن بعض الوفيات بين المدنيين كانت نتيجة لقيام المتشددين الفلسطينيين بإخفاء الأسلحة في مناطق سكنية”، وأن آخرين قُتلوا بصواريخ فلسطينية أسيء إطلاقها و”أخطأت” أهدافها.
في 16 آب (أغسطس)، اعترف الجيش الإسرائيلي أخيرًا بأنه هو الذي كان وراء الضربات التي قتلت 5 صبية فلسطينيين صغار في جباليا. وسواء ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” ذلك أم لا، فإن ذلك لا يهم كثيرًا في نهاية المطاف؛ الضرر قد وقع، وهذه كانت خطة إسرائيل منذ البداية.
كان عنوان قصة محطة هيئة الإذاعة البريطانية (بي. بي. سي) في 16 آب (أغسطس)، “أطفال غزة معتادون على الموت والقصف”، لكن القصة لا تذكر على الفور من هم المسؤولون عن “الموت والقصف”. حتى المتحدثون العسكريون الإسرائيليون، كما سنكتشف لاحقًا، سيوافقون على مثل هذا البيان، على الرغم من أنهم سيلقون دائمًا باللوم مباشرة على “الإرهابيين الفلسطينيين”.
وعندما تكشف القصة أخيرًا عن أن فتاة فلسطينية صغيرة، ليان، قتلت في غارة إسرائيلية، يلاحَظ أن اللغة صيغت بعناية بحيث تخفف اللوم عن قتلتها الإسرائيليين. يقال لنا إن الفتاة كانت في طريقها إلى الشاطئ مع عائلتها، عندما “مر الـ”توك توك” الخاص بهم قرب معسكر عسكري تديره حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية”، والذي، “في اللحظة نفسها، (…) كانت تستهدفه نيران إسرائيلية”. ولا تذكر كاتبة القصة شيئًا عن الكيفية التي توصلت بها إلى استنتاج أن العائلة لم تكن هي الهدف.
يستطيع المرء أن يستنتج بسهولة من القصة أن نية إسرائيل لم تكن قتل ليان -وبالتالي، بالمنطق نفسه، أيّاً من الأطفال السبعة عشر الآخرين الذين قتلوا خلال الحرب التي استمرت ثلاثة أيام على غزة. وإلى جانب ذلك، حاولت إسرائيل، وفقاً لـ”بي بي سي”، إنقاذ الفتاة الصغيرة. وللأسف، “لم يستطع أسبوع من العلاج في مستشفى إسرائيلي إنقاذ حياتها”.
وعلى الرغم من أن الساسة الإسرائيليين تحدثوا بشكل واضح وصارخ عن قتل الأطفال الفلسطينيين -وفي حالة وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة أييليت شاكيد، “الأمهات الفلسطينيات اللواتي يلدن ‘الثعابين الصغيرة’”، فإن تقرير هيئة الإذاعة البريطانية، وغيره من التقارير الغربية عن الحرب الأخيرة، لم يذكر ذلك. لكنه نقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، قوله إن “موت المدنيين الأبرياء، وخاصة الأطفال، أمر مفجع”. وبالمناسبة، كان لابيد هو الذي أمر بشن الحرب الأخيرة على غزة، التي أسفرت عن مقتل ما مجموعه 49 فلسطينيًا.
حتى قصة يفترض أن تكون ذات أهمية إنسانية عن طفلة فلسطينية مقتولة تجنبت بطريقة أو بأخرى اللغة التي يمكن أن توجه اللوم إلى إسرائيل عن القتل المروع للفتاة. بل إن تقرير “بي. بي. سي” حاول أيضًا تقديم إسرائيل في ضوء إيجابي، حيث عمد إلى اقتباس بيان جيش الاحتلال الذي قال فيه إنه “رُوِّع لمقتل (ليان) ومقتل أي مدنيين”.
لم يتم اختيار هذين النموذجين من صحيفة “نيويورك تايمز” ومحطة “بي. بي. سي” لأنهما أسوأ الأمثلة على تحيز وسائل الإعلام الغربية، ولكن لأنه غالبًا ما يتم الاستشهاد بهاتين المؤسستين على أنهما وسيلتا إعلام “ليبراليتان”، إن لم تكونا “تقدميتين”. ومع ذلك، تمثل تقاريرهما أزمة مستمرة في الصحافة الغربية، وخاصة فيما يتعلق بفلسطين.
لقد كُتبَت كتب عن هذا الموضوع، وشُكلت منظمات مجتمع مدني لمساءلة وسائل الإعلام الغربية، ونُظمت العديد من الاجتماعات مع هيئات التحرير لممارسة بعض الضغط على المحررين الغربيين، ولكن من دون جدوى.
وبسبب يأسهم من الروايات المؤيدة لإسرائيل، والتي لا تتغير في وسائل الإعلام الغربية، كثيراً ما يجادل بعض المدافعين عن حقوق الإنسان المؤيدين لفلسطين بأن هناك هوامش أكبر داخل وسائل الإعلام الرئيسية في إسرائيل مقارنة بنظيراتها في الولايات المتحدة، على سبيل المثال. لكن هذا التصور غير دقيق أيضًا.
كانت هذه التسمية الخاطئة لوسائل الإعلام الإسرائيلية، التي يُفترض أنها أكثر توازنًا، نتيجة مباشرة للفشل في التأثير على التغطية الإعلامية الغربية لفلسطين وإسرائيل. وغالبًا ما يتم دعم هذه الفكرة الخاطئة بحقيقة أن صحيفة إسرائيلية، مثل “هآرتس”، تعطي مساحات هامشية للأصوات الناقدة، مثل الصحفيَّين الإسرائيليين جدعون ليفي وأميرة هاس.
ومع ذلك، فإن الدعاية الإسرائيلية، وهي واحدة من بين الأقوى والأكثر تعقيداً وتطوراً في العالم، لا يمكن موازنتها بسبب أعمدة عرَضية يكتبها عدد قليل من الصحفيين المعارضين.
إضافة إلى ذلك، غالبًا ما يتم الاستشهاد بصحيفة “هآرتس” كمثال على الصحافة العادلة نسبيًا، ويعود ذلك ببساطة إلى أن البدائل -“تايمز أوف إسرائيل” والـ”جيروسالم بوست” وغيرها من وسائل الإعلام الإسرائيلية اليمينية- تظل نموذجية في قسوتها ولغتها المتحيزة وسوء تفسيرها للحقائق.
غالبا ما تفيض الأحكام المسبقة المؤيدة لإسرائيل من وسائل الإعلام الغربية إلى وسائل الإعلام المتعاطفة مع فلسطين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وبقية العالم، خاصة تلك التي تنشر الأخبار باللغتين الإنجليزية والفرنسية.
بما أن العديد من الصحف والمنصات الإلكترونية تستخدم وكالات الأنباء الغربية كمصادر، فإنها تتبنى، عن غير قصد في كثير من الأحيان، اللغة نفسها المستخدمة في مصادر الأخبار الغربية، وبالتالي تصور المقاومين أو المقاتلين الفلسطينيين على أنهم “متشددون”، وجيش الاحتلال الإسرائيلي على أنه “قوات الدفاع الإسرائيلية”، والحرب الإسرائيلية على غزة على أنها “انفجار” للعنف.
في مجملها، تسيء هذه اللغة تفسير النضال الفلسطيني من أجل الحرية وتقدمه على أنه أعمال عنف عشوائية ضمن “صراع” طويل الأمد حيث “يقع المدنيون الأبرياء، مثل ليان، في تقاطع النيران”.
في الحقيقة، أصبحت الحروب الإسرائيلية القاتلة على غزة ممكنة، ليس فقط بسبب الأسلحة الغربية والدعم السياسي، ولكن من خلال سيل لا نهاية له من التضليل الإعلامي والتحريف. وعلى الرغم من أن إسرائيل قتلت الآلاف من المدنيين الفلسطينيين في السنوات الأخيرة، إلا أن وسائل الإعلام الغربية ما تزال ملتزمة بالدفاع عن إسرائيل كما لو أن شيئا لم يتغير.
*رمزي بارود Ramzy Baroud: صحفي ورئيس تحرير مجلة “ذا بالستاين كرونيكل”. وهو مؤلف لخمسة كتب، آخرها “هذي السلاسل سوف تكسر: قصص فلسطينية عن النضال والتحدي في السجون الإسرائيلية” (مطبعة كلاريتي، أتلانتا). وهو زميل باحث أول غير مقيم في مركز الإسلام والشؤون العالمية جامعة إسطنبول الزعيم.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Fake Neutrality: How Western Media Language Misrepresents Palestinians, Shields Israel
المصدر: (كاونتربنش) / الغد الأردنية