كُتب وقِيل الكثير حول المباحثات والمفاوضات والصفقات والشروط المتبادلة بين الغرب وإيران حول الملف النووي الخاص بالأخيرة، وإمكانية التوصل إلى اتفاق بشأنه، لا سيما في ضوء الرد الأمريكي، وإعلان الإيرانيين بأنهم قد بدأوا بدراسة هذا الرد لبيان الموقف منه.
وهناك تصريحات مستمرة من جانب المسؤولين الأمريكان، وعلى أرفع المستويات، تؤكد الإصرار الأمريكي على منع تمكّن إيران من صناعة القنبلة النووية. هذا في حين أن بعض المسؤولين الإيرانيين لوحوا في أكثر من مناسبة بأنهم قد وصلوا إلى العتبة النووية، وأن ما يمنعهم من صناعة القنبلة المعنية هو عدم وجود قرار سياسي أو فتوى بذلك.
واللافت هو الإصرار الأوروبي على ضرورة التوصل إلى الاتفاق بحجة المحافظة على الاستقرار، ومنع انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط؛ بينما الواقع هو أن العين الأوروبية، خاصة في فرنسا، مركّزة على إمكانية الاستثمارات الضخمة في إيران، وإقامة شراكة تجارية معها، والاستفادة من النفط والغاز الإيرانيين في ظروف الحرب الروسية على أوكرانيا وتفاعلاتها على صعيد ارتفاع أسعار الطاقة في الدول الأوروبية، والتداعيات الاقتصادية التي سيؤدي إليها ذلك، بالإضافة إلى النتائج السياسية التي ستتبلور عبر صناديق الاقتراع.
هذ في حين أن الجميع يعلم أن ما تعانيه مجتمعات ودول منطقتنا من خلخلة كبرى في سائر الميادين، وعلى كل المستويات، إنما كان، وما زال، بفعل التدخل الإيراني السافر المباشر عبر قوات الحرس الثوري بواجهاته المختلفة، أو التدخل المقنع عبر الأذرع الإيرانية، سواء المذهبية منها أم «العلمانية».
الخطر الذي تواجهه منطقتنا لا يتمثل في حصول إيران على القنبلة النووية أو المفاعلات النووية. ففي الحالة الأولى ستكون هناك روادع وضوابط، وتحديات تقنية. ويدرك الإيرانيون قبل غيرهم بأنهم إذا فكّروا في استخدام السلاح النووي بصورة جدية ضد الأهداف التي يسمونها في حملاتهم الإعلامية الشعاراتية، فإنهم سيكونون عرضة لهجمات تدمير ساحقة لا يمتلكون حتى البنى التحتية المطلوبة لحماية أنفسهم منها.
أما في حالة المفاعلات النووية السلمية، فلا توجد جهة رافضة لذلك وفق ما هو معلن، لأنه من المفروض أن تخصص تلك المفاعلات لأهداف سلمية تكون في صالح الشعب الإيراني، وربما في صالح شعوب الإقليم أيضاً مستقبلاً، هذا إذا ما اُعتمد العقل مرجعاً في عملية اتخاذ القرارات في ميدان ضبط معادلات التوازن التي من شأنها ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة، وفتح الآفاق أمام مشاريع التنمية المشتركة التي ستضمن مستقبلاً أفضل للشباب والأجيال المقبلة.
ولكن الأخطر من القنبلة أو القنابل النووية، هو ما أدت إليه، الأفعال الإيرانية التخريبية سابقاً، وتؤدي إليه راهناً في دول ومجتمعات المنطقة، وهي أفعال باتت مكشوفة واضحة فاقعة، أدت إلى انهيار أربع دول حتى الآن؛ والحبل على الجرار كما يقول المثل، وذلك إذا ما استمرت الأفعال المعنية، خاصة إذا ما رُفعت العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام الإيراني، وحصل الأخير على الأموال المجمدة، واستفاد من الامتيازات المقدمة، فإن مسألة احتمالية تمدده ضمن المزيد من دول المنطقة، وممارسة التدخلات والاستفزازات فيها ستصبح أقوى؛ وهو الأمر الذي سيتسبّب في ظل التباينات العربية الراهنة على مستوى الدول، والمشكلات الداخلية التي تعاني منها كل دولة، في المزيد من الخلخلة والانهيارات، ما لم تكن هناك مساع جادة لمواجهة الإنهيارات بإرادة جماعية، وعقلية استراتيجية تتجاوز حدود الذهنية الارتجالية في إدارة الأزمات، وهي ذهنية ترتكز على ردود الأفعال الآنية، والبهرجة الإعلامية التي لم تثبت نجاعتها حتى الآن.
ما تواجهه منطقتنا هو حصيلة عقود من سياسة تصدير «الثورة» التي اتبعها النظام الإيراني الحالي منذ سيطرته على الأوضاع في إيران عام 1979؛ وهي السياسة التي تمحورت حول استغلال المظلوميات الشيعية، ونسج العلاقات مع النظام السوري في عهد حافظ الأسد منذ بداية الثمانينات، وقد أسفرت تلك السياسة في نهاية المطاف عن الهيمنة على الأوضاع في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن.
إن مواجهة هذه السياسة تستوجب جملة من الخطوات الاستراتيجية وعلى مختلف المستويات. فعلى المستوى الداخلي، لا بد من طمأنة سائر المكوّنات المجتمعية من دينية ومذهبية وقومية، وذلك لسد الطريق أمام القوى الإقليمية والدولية، التي عملت، وستعمل باستمرار، على استغلال قضايا هذه البلدان، طالما لا توجد حلول وطنية تزيل الهواجس، وتعزز الثقة بين سائر مواطنيها من دون أي تمييز أو استثناء.
فالشيعة مثلاً، هم أصلاً جزء لا يتجزأ من الواقع والتاريخ العربيين الإسلاميين، ولكن الذي حصل قديماً، وما زال مستمراً في وقتنا هذا، هو أن هذه الحقيقة أُهملت أو تم تجاهلها، وكان التمييز غير العادل الذي عانوا، ويعانون منه كثيراً، مما أدى إلى استغلال قضيتهم، والاستثمار في مظلومياتهم من الجانب الإيراني، الذي أراد من خلال ذلك بلوغ غايات سياسية، وتمرير مشاريع توسعية؛ والتفصيل في هذا الموضوع يأخذ الكثير من الوقت والجهد، لذلك لن نفصله هنا، غير أن ما يسعف في هذا المجال هو وجود مادة تراثية وتاريخية ضخمة، يستطيع كل باحث أو مهتم أن يعود إليها، ويطلع حتى على التفصيلات المملة.
أما ما حدث في لبنان واليمن والعراق، فهو يمثل النموذج الحي الذي عاصره الكثير من أبناء جيلنا من موقع الواعي المهتم، وهم الذين تابعوا عمليات الاستغلال المدروسة للمظلوميات الشيعية؛ وراقبوا الخطط التي اعتمدت لتشكيل الميليشيات المسلحة التي غدت مع الوقت أقوى من الجيوش النظامية نفسها، بميزانياتها الضخمة، وأسلحتها المتطورة، وقدرتها على تجنيد أعداد كبيرة من الناس، وذلك عن طريق استغلال مشاعرهم ونزعاتهم المذهبية، فضلا عن حاجاتهم.
أما على المستوى الإقليمي، فقد أصبحت دول المنطقة ومجتمعاتها في حاجة ماسة إلى عمل جماعي، لأن المشكلات الكبرى التي تعاني منها الدول المأزومة/ المنهارة، باتت تفوق طاقة أي دولة من تلك الدول بكثير؛ وهي تستوجب جهوداً تفاهمية بين القوى الإقليمية التي تتقاطع مصالحها مع مشاريع الاستقرار والتنمية، وتتناقض مع مشاريع التوسع بصورة عامة، خاصة الإيرانية منها التي ترمي إلى إحداث تغييرات جوهرية في البنية المجتمعية للدول التي تهيمن عليها، وتستهدف مصادرة قراراتها السيادية، وإرغامها على السير ضمن المسارات المنسجمة مع توجهات النظام الإيراني.
وكل هذه القضايا لن تعالج بحوار منفرد هنا، أو إرسال سفير من هناك، أو عقد صفقة أو صفقات اقتصادية في مكان آخر. وبناء على ذلك باتت التوافقات الإقليمية ضرورة ملحة، لتكون نتائجها أساساً لأي حوار جدي مع الجانب الإيراني نفسه، وذلك بغية الوصول إلى قواسم مشتركة إن أمكن، لتجنيب المنطقة المزيد من الانهيارات والتداعيات والحروب، ولكن إذا ما ثَبت انسداد هذا الطريق، لا بد من التوجه إلى المجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لبيان الموقف الجماعي الموحد، والتمسك بالأولويات.
وتجدر الإشارة بخصوص هذا المسار إلى وجود الكثير من مراكز الضغط والقرار في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، يمكن التواصل معها، سواء ضمن الأحزاب الحاكمة والمؤسسات التابعة لها، أم الأحزاب المعارضة والهيئات المرتبطة بها. أما الاتفاقيات الثنائية التي كانت هي القاعدة حتى الآن، فقد أثبتت التجارب باستمرار جدواها المحدودة على صعيد مشكلة عامة تعاني منها المنطقة كلها.
فما فعله النظام الإيراني حتى الآن بدول المنطقة، يتجاوز النتائج الكارثية لقنابل نووية، والقادم ينذر بما هو أسوأ إذا ما سارت الأمور على منوالها الراهن. والمخاطر الاستراتيجية التي تهدد مجتمعاتنا بصورة وجودية لا يمكن معالجتها بعقلية تكتيكية مزاجية، وإنما هناك حاجة إسعافية إلى خطط شاملة، بعيدة المدى، تضع حلولاً لجملة المشكلات التي تعاني منها هذه المجتمعات. ومن نافل القول هنا هو أن تلك الخطط لن تكون ذات جدوى من دون وجود إرادة حقيقية مصرة على تطبيقها؛ وذلك حتى يتم تعطيل مفعول القنابل الأخطر من القنبلة النووية، ومن بين المقصود هنا: القنابل المذهبية والقومية، وقنابل الجهل والحاجة. والأمر الإيجابي هنا هو أن الموارد المادية التي تستوجبها تلك الخطط موجودة، ولكن شرط الاستغلال العادل الرشيد لها بعيداً عن الفساد والهدر.
أما الحديث عن إمكانية المصالحة مع سلطة بشار الأسد المسؤولة عن تدمير سوريا شعباً وأرضاً بالشراكة مع النظام الإيراني، أو العمل على دفع الأمور نحو مصالحة بينه وبين المعارضة الرسمية المغلوبة على أمرها؛ أو المراهنة على إمكانية اقناع «حزب الله» برفع حصاره عن المجتمع والدولة اللبنانيين؛ أو محاولات كسب ود الميليشيات المرتبطة بالمشروع الإيراني في العراق، واستمالتها على أمل توجيهها للإسهام الإيجابي في المشروع الوطني العراقي المستقل؛ والأمر كذلك بالنسبة إلى الحوثيين وحلفائهم في اليمن، فهذا فحواه أن الوعي بالمخاطر الجدية للطوفان العام الذي يهدد الجميع، وإرادة الاستعداد لدرء مخاطره، لم يتبلورا بعد.
المصدر: القدس العربي