ظل أيمن الظواهري مثالاً للنجاة إلى أن فارق الحياة، على مدى 20 عاماً واجهت مجموعة من القادة الإسلامويين الآخرين (بمن فيهم أبو مصعب الزرقاوي وأسامة بن لادن وأبو بكر البغدادي وأنور العولقي) نهايات عنيفة على يد القوات الأميركية، بيد أن الظواهري ظل على قيد الحياة، وبدا أنه منيع أمام الاستخبارات والطائرات المسيرة الأميركية.
ثم لقي الرجل الذي خلف بن لادن كأمير لتنظيم “القاعدة”، في عام 2011، حتفه أخيراً، بعد أن أصيب بصاروخين من طراز هيلفاير (Hellfire) أثناء جلوسه في شرفة منزل آمن في العاصمة الأفغانية، كابول. ووفقاً للرئيس الأميركي جو بايدن، وهو من أعلن عن نجاح الضربة في خطاب متلفز، مساء الإثنين، لم تقع إصابات بين المدنيين.
ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، ينهي مقتل الظواهري فصلاً من الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب وتهدف إلى تسليم المسؤولين عن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) إلى العدالة، ولو أن دور الظواهري في التخطيط لتلك الهجمات ضخم في بعض الأحيان. والحق أن حقيقة إقامة الظواهري في كابول وقدرة الاستخبارات الأميركية على استهدافه هناك تجدد المناقشات المستمرة منذ مدة طويلة، حول قرار سحب القوات الأميركية من أفغانستان، وطريقة التعامل مع نظام حركة “طالبان”. وفيما يعني “القاعدة” يشكل موت الظواهري تحدياً فورياً وقصيراً يتناول الشخص الذي يخلفه، وتحدياً أكثر صعوبة وطويل المدى يتعلق بحل عدد من التجاذبات والتناقضات الداخلية التي عالجها التنظيم على مدى سنوات معالجة سطحية.
دكتور التطرف
ولد الظواهري عام 1951 في مصر، وهو ينحدر من عائلة مصرية ثرية ومرموقة، وكان والده محمد جراحاً، وسار الظواهري الشاب على خطاه في المهنة، وتخرج في جامعة القاهرة طبيباً عام 1974، بيد أن دعوته الحقيقية كانت قضية “تطرف”، في صيغة الكفاح المسلح ضد الدولة المصرية. وهو اعتقد أن حكامها ارتدوا عن الدين وأقلعوا عن تطبيق الشريعة، وأنشأوا علاقات ودية بالدول الكافرة، بما في ذلك إسرائيل. وكانت تلك الأيديولوجية وراء اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981، وهي الحادثة التي تورط فيها الظواهري، من دون أن يضطلع فيها بدور حقيقي، وبعد أن أمضى نحو أربع سنوات في السجن تعرض خلالها للتعذيب، وأجبر على الشهادة ضد إخوانه الإسلاميين ظهر الظواهري في أواخر ثمانينيات القرن الماضي كقائد لحركة “الجهاد الإسلامي” المصرية (EIJ) والمعروفة أيضاً باسم “جماعة الجهاد”، وهي منظمة مصرية في المنفى سعت إلى إطاحة الحكومة المصرية. وفي التسعينيات، لجأ الظواهري إلى أفغانستان وتقرب من بن لادن، وفي نهاية الأمر دمج منظمته مع منظمة الرجل السعودي الثري، ثم حصل اندماج رسمي في يونيو (حزيران) 2001، قبل وقت قصير من هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، وأطلق على التنظيم الجديد اسماً جديداً، وهو لا يزال الاسم الرسمي لـ”القاعدة”.
وفي أفغانستان، تجاهل الظواهري استراتيجية التطرف الإقليمي المحلي واستبدلها بالقتال العالمي الذي انتهجه بن لادن، ونص هذا على أن مهاجمة الولايات المتحدة والغرب هو شرط أساسي للثورة في العالم الإسلامي، ووفقاً لذلك التفكير لن يكون من الممكن تحقيق التغيير المنشود في الداخل إلا من طريق ضرب الولايات المتحدة وإخراج قواتها العسكرية ودبلوماسيتها من المنطقة، وهذا المفهوم كان أساساً لهجمات 11 سبتمبر، واستمر شعاراً لتنظيم “القاعدة”، على الرغم من فشله في صوغ استراتيجية ناجحة على مدار العشرين عاماً الماضية، وبعضها في قيادة الظواهري.
وسيتذكر الناس الظواهري في أمور كثيرة منها عدد من النصوص الأيديولوجية، والمجلدات الضخمة عن التاريخ والدين، تتضمن مذكرات من 500 صفحة بعنوان “فرسان تحت راية النبي” (Knights Under the Prophet”s Banner)، وكتاباً أحدث من 850 صفحة في النظرية السياسية الإسلامية، وتاريخ جهود التبشير الغربية في الشرق الأوسط، كما أنه ترك وراءه مجموعة كبيرة من الخطب والمحاضرات المسجلة في مقاطع فيديو أو مقاطع صوتية ويبلغ مجموعها مئات الساعات، إن لم يكن أكثر، وعلى الرغم من ذلك فلم يكن بليغاً بشكل مميز، بل افتقر بشكل لافت إلى الكاريزما، ومن المحتمل أن يكون نشاطه الإعلامي المتواصل والممل والمتكرر، أضر بسمعته أكثر مما نفعها.
وإلى ذلك، كان الظواهري منتجاً جداً لدرجة تدفع المرء إلى التساؤل كيف اتسع وقته لإدارة شؤون منظمة إرهابية عالمية. وعلى الجانب الأكثر إثارة للجدل في إرثه، وهو ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً باسم “داعش”)، وتفوقه على “القاعدة”، وحيازته موقع المنظمة المتطرفة الأكثر نفوذاً في العالم. وعندما تولى الظواهري قيادة “القاعدة”، بعد وفاة بن لادن في عام 2011، صار زعيم الحركة المتطرفة العالمية من دون منازع. وفي أواخر عام 2014 تغير الوضع. وإلى اليوم يتمتع تنظيم “داعش” بسمعة “أقوى من سمعة “القاعدة”. وهي نتيجة ساعد الظواهري على تحقيقها.
وفي منتصف عام 2013، شرع الظواهري في تسوية نزاع بين مرؤوسين متنافسين في العراق وسوريا. وكان البغدادي أعلن عن توسع فرع “القاعدة” الذي قاده، والمعروف بـ”دولة العراق الإسلامية”، وبلغ سوريا، وأسس ما سماه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. وعلى الرغم من ذلك، فإن زعيم الفرع السوري من تنظيم “القاعدة” ويدعى “جبهة النصرة” اعترض على التطفل الحاد وناشد الظواهري التدخل علناً. وفي رسالة حصلت عليها قناة “الجزيرة”، ونشرتها في عام 2013 أمر الظواهري البغدادي بالتراجع عن مطالبة وحصر نشاطه في العراق، بيد أن البغدادي رفض وادعى أن الأمر مخالف للشريعة. وبعد مدة قصيرة أعلن تنظيم “داعش” أن الظواهري و”القاعدة” قد انحرفا عن المسار الإسلاموي الحقيقي وتساهلا مع الحكام المسلمين المرتدين والشيعة. وهؤلاء اعتبرهم الإسلاميون السنة مرتدين وكفاراً، وبعد ذلك بعام أعلن تنظيم “داعش” نفسه خلافة متجددة، واستولى على مدن مهمة ومساحات شاسعة من الأراضي في العراق وسوريا، واستقطب انتباه العالم ومخيلة المتعاطفين مع الإسلاميين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ومنهم آلاف سافروا إلى المنطقة للانضمام إلى التنظيم.
وبعدها بعامين، انسحب من تنظيم “القاعدة” الفرع السوري الذي تدخل الظواهري لإنقاذه، ساعياً وراء دور أكبر في التمرد السوري على نظام بشار الأسد في دمشق. وبغية تلبية احتياجات جمهور أوسع وطمأنة حلفاء جدد، تخلى قادته عن قسم الولاء للظواهري، فصرح هذا باستنكاره الخيانة هذه، وهكذا فقد تنظيم “القاعدة” محله في قلب العالم العربي. وتلا ذلك الطعن في سلطة الظواهري مرتين، وخسر في المرتين، وفي الوقت نفسه، فاقم تراجع “القاعدة” مقتل عدد من قياداته البارزة التي لجأت إلى سوريا، في غارات مسيرات.
ولم تكن الأمور في الوقت نفسه تسير على ما تشتهي “داعش”، وما إن أزف عام 2019 حتى كانت “الخلافة” فقدت السيطرة على آخر معاقلها في العراق وسوريا، وفي أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام قتلت القوات الأميركية البغدادي ثم في فبراير (شباط) من العام الحالي، قضت على خليفته.
ملاذ آمن
ولا يصح وصف عهد الظواهري بالفوضى العارمة، فتحت قيادته قاومت فروع “القاعدة”، في شمال أفريقيا والصومال واليمن تقدم “داعش” وظلت موالية له، وتشكلت فروع جديدة في جنوب آسيا ومالي. ونشط فرع مالي بشكل خاص، ولا ينكر أنه كان في موقع القيادة حين تفوق منافس “القاعدة” عليها، ودمر قيادتها، ويصح هذا حتى حين وسع الظواهري الزعم أنه نجح في المحافظة على تماسك منظمته، في موازاة هذا لم يبلغ الظواهري هدفه الرئيس وهو مهاجمة الولايات المتحدة. ووفق ما أوضحت الباحثة نيلي لحود، لم توجه القيادة المركزية لتنظيم “القاعدة” هجوماً ناجحاً واحداً على الولايات المتحدة منذ 11 سبتمبر. ويعود تاريخ آخر عمل إرهابي دولي ناجح نفذته إلى عام 2002 في مومباسا بكينيا، وهذه عملية خطط لها قبل 11 سبتمبر.
ومن ناحية أخرى، بدت عودة “طالبان” إلى السلطة في أفغانستان في أغسطس (آب) 2021 وعداً بقلب حظوظ “القاعدة”، والحق أن تنظيم “القاعدة” أشاد باستعادة “طالبان” الحكم ورأتها انتصاراً عظيما لقضية “الإسلاموية العالمية”. ويخشى كثيرون أن تمنح “طالبان” التنظيم مجالاً لتمتين قدراته وإعادة بنائها. ولا شك في أن لمثل هذه المخاوف مبرراً، على على الرغم من أن علاقات “القاعدة” بـ”طالبان” معقدة. فوفق ما أفاد به البنتاغون أخيراً، “في حين أن علاقات مديدة تربط قادة القاعدة بكبار قادة طالبان، يتمتع التنظيم بقدرات محدودة على السفر والتدريب داخل أفغانستان، ومن المحتمل أن تقيده جهود طالبان الرامية إلى مجاراة الشرعية الدولية”. وبحسب البنتاغون، فقد تنتهي صلاحية تلك القيود “في أثناء مدة قد تمتد بين 12 و24 شهراً”. وهذا مرآة واقع ينبه إلى أن تداخل مصالح تلك المجموعات في كثير من الأحيان، لا يعني أنها متطابقة. ويسعى تنظيم “القاعدة” إلى تدمير النظام الدولي، في المقابل، تسعى “طالبان” للانضمام إليه (حتى لو كان ذلك بهدف تخريبه فحسب). وفي هذا الإطار، قد يكون أحد مقاطع الفيديو الأخيرة للظواهري نقداً مبطناً لحركة “طالبان” بسبب سعيها لتمثيل أفغانستان في الأمم المتحدة. فهذه في نظره تمثل نظاماً عالمياً كافراً يجب تدميره بدلاً من الانضمام إليه.
وغلب ضعف الثقة وقتاً طويلاً على علاقة “القاعدة” بـ”طالبان”، وفي هذا السياق تظهر الوثائق التي عثر عليها في مجمع باكستان، حيث قتلت القوات الأميركية بن لادن في عام 2011، أن الرجل كان قلقاً جراء النهج الذي تسلكه قيادة “طالبان”. فهو رأى أنها منقسمة بين معسكر من المؤمنين الأتقياء وفصيل منافق ينفذ أوامر الاستخبارات باكستانية، ومستعد ربما لخيانة مبادئ “القاعدة”. وقد ردد ذلك صدى مخاوف الإسلامويين العرب الآخرين: ففي أواخر التسعينيات، على سبيل المثال، اشتكى الخبير الاستراتيجي الإسلاموي السوري أبو مصعب السوري، من أن فصيلاً من قيادة “طالبان” لا يريد أن يتعاطى كل ما له علاقة بـهذه الحركة المتطرفة، ويحصر سعيه في إنشاء دولة محافظة في أفغانستان، واتخذت قيادة “داعش” موقفاً أشد قطعاً، وحجتها أن للشطر المناهض للإسلاميين في “طالبان” الغلبة على قيادة الحركة، ومنذ الإعلان عن مقتل الظواهري، سخر أنصار “داعش” على الإنترنت منه لاعتقاده أن “طالبان” ستحميه، ملمحين إلى أن الحركة قد قدمته بدلاً من ذلك على طبق من الفضة للأميركيين.
وثمة مبالغة في هذه الادعاءات، فـ”طالبان” ليست حركة موالية لأميركا وقيادتها لم ترغب في موت الظواهري، والمنزل الذي استهدف فيه الظواهري، بحسب ما سرت الأنباء كان ملكية لأحد كبار مساعدي سراج الدين حقاني، وزير داخلية حكومة “طالبان”، والأرجح أن الظواهري أقام هناك بناء على دعوة حقاني، ولكن ربما كان شخص آخر في “طالبان” مهتماً بمكافأة 25 مليون دولار قدمتها واشنطن فوق اهتمامه بحماية الزعيم الإسلامي المسن، والحق أن إقامة الظواهري في أفغانستان التي تسيطر عليها “طالبان” تثير تساؤلات حول تعهدات “طالبان” بمنع استخدام أراضيها في شن هجمات إرهابية، وقدرة القوات الأميركية على قتله هناك تشكك في احتمال اضطلاع أفغانستان بدور منصة لإحياء “القاعدة”، وإن سمحت “طالبان” بذلك. وجلي أن الولايات المتحدة ما زالت تحتفظ بعيون وآذان لها محلياً في أفغانستان إلى عدد من المتعاونين الراغبين، ربما داخل “طالبان”.
من التالي؟
والتحدي الأكبر الذي يواجه “القاعدة” على المدى القريب هو خلافة الظواهري. ويعتقد معظم المحللين أن الخليفة المتوقع هو المقاتل المصري الشاب سيف العدل الذي انتقل للإقامة في إيران بعد مدة وجيزة على هجمات 11 سبتمبر، ثم يأتي في مرتبة تليه عبدالرحمن المغربي صهر الظواهري المغربي، ورئيس العمليات الإعلامية لتنظيم “القاعدة”، وهو يقيم كذلك في إيران. ولا ينبغي أن يغفل عن أن كليهما مقيم في إيران. وهما لم يقيما في إيران طوعاً ربما إلا أن وجودهما هناك يعقد احتمال اختيارهما، فإيران شكلاً هي عدو تنظيم “القاعدة”، ويشتم أنصاره الشيعة الإيرانيين وقوات الأمن، ويعتبرونهم “روافض” مرتدين ضربوا صفحاً عن الشرق الأوسط، وذبحوا السنة في العراق وسوريا واليمن، ولن يكون يسيراً على تنظيم “القاعدة” تصوير زعيمه التالي في صورة الممسك بزمام الأمور من حيث يقيم إقامة شبه جبرية في إيران، وهذا من شأنه أن يقوي الشكوك في أن التنظيم في قبضة طهران.
وبناءً عليه، قد يخرج القائد التالي بدلاً من ذلك من إحدى جماعات تنظيم “القاعدة”، وبحسب تقرير حديث أصدرته الأمم المتحدة، يأتي يزيد مبارك في شمال أفريقيا وأحمد ديري في الصومال في المرتبتين بعد القياديين المقيمين في إيران إلا أن سيف العدل والمغربي المقيمين في إيران والعاملين في الظل زمناً طويلاً قد لا يرغبان في التخلي عن السلطة لقادة الفروع الإقليمية في تنظيم “القاعدة”. وليس واضحاً ما إذا كان هؤلاء القادة مهتمين بتولي زمام الأمور، وهم لم يبدوا التزاماً باستراتيجية “استهداف العدو البعيد” التي اعتمدها الظواهري.
وليس واضحاً ما ينتظر تنظيم “القاعدة” بعد ذلك، ومن غير المرجح أن يزول التنظيم وصورته لا تزال تتمتع في نظر فروعه الإقليمية بقدر كبير من المشروعية النضالية والرمزية، ما يوفر هوية يمكن الالتفاف حولها لكنه لن يكون قادراً بعد الآن على تجاهل المشكلات التي تفاقمت منذ هجمات 11 سبتمبر، على غرار العلاقة غير المريحة بإيران، وانعدام الثقة والتوافق مع جزء من “طالبان”، وغياب الاستراتيجية المشتركة بين القيادة المركزية والفروع، ولم يكن يوماً من السهل إدارة منظمة عالمية من المتشددين الملتزمين أيديولوجياً، وفي حال “القاعدة”، ازدادت صعوبة الأمر.
- كول بانزل هو زميل في معهد هوفر بجامعة ستانفورد ومحرر مدونة “جهاديكا” Jihadica.
المصدر: اندبندنت عربية