خالد عبد الناصر يدعوني لزيارته ويعدني بمفاجأة

سعيد الشحات

في منزله قال لي :” أقدم لك “باتريس لومومبا ابن الزعيم الأفريقي”..وباتريس يكشف أسرار اغتيال والده وعملية تهريبه وأخوته إلى مصر.
دعاني الصديق الدكتور خالد جمال عبد الناصر قائلا :”بكره الساعة 11 عاوزك تكون عندي ضروري فيه مفاجأة”..حاولت الاستفسار عنها لكنه رفض، فسألته:”هل اصطحب مصورا صحفيا، وجهاز تسجيل؟”..أجاب:”أكيد” فتأكدت أنني بصدد موضوع صحفي لكن لا أعرف عنه شيئا”
كنت يوم 26 فبراير عام 2001 حين وصلت في الموعد المحدد إلي فيلته في”أرض الجولف” بمصر الجديدة، ووجدت عنده الصديق الكاتب أمين إسكندر تبادلنا السلام، وبعد دقائق دخل شاب أسود، فاستقبله خالد بفرح وأعناق حارة، قائلا لنا :”أقدم لكم باتريس باتريس لومومبا”.
سلم “باتريس” علينا متحدثا بنفس لهجتنا المصرية، وهيأت نفسي لجلسة صحفية نادرة بطلها ابن جمال عبد الناصر، مع ابن لومومبا زعيم الكونغو وقائد نضالها الوطني وأحد الرموز في أفريقيا التاريخيين الذي اغتيل بطريقة درامية مؤثرة يوم 17 يناير 1961 بتواطؤ أميركي بلجيكي مع عميلهم “موبوتو سيسيكو” الذي أصبح رئيسا فيما بعد، وكان عبد الناصر هو الذي أذاع نبأ الاغتيال إلى العالم يوم 12 فبراير 1961،معلنًا أن أسرة لومومبا تعيش في القاهرة تحت حماية الجمهورية العربية المتحدة.
امتدت الجلسة حتى الرابعة عصرا، وشهدت ضحكا وبكاء، رأيت حب خالد الكبير وحنانه الفياض لباتريس، ودموعه التي غالبته أكثر من مرة حين كان يستدعي بعض مواقفه مع أبناء لومومبا، وزاد من حرارة الجلسة انضمام عبد الحميد عبد الناصر، واتصال خالد بالفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة خلال حرب أكتوبر 1973 ،وكان من شهود حدث اغتيال لومومبا وطرفا في عملية تهريب أبنائه لمصر، حيث كان قائدا لكتيبة من الجيش المصري ضمن قوات دولية تابعة للأمم المتحدة في الكونغو لحفظ السلام فيها، واستطاعت مصر في عملية معقدة تهريب أبناء لومومبا(فرانسوا، وباتريس، وجوليانا “إلى مصر قبل اغتيال الأب.
قال خالد أنه لم يريى باتريس منذ 7 سنوات، وأضاف: “عاش هو وأخوته أخوة لنا في مصر 24 هو وأخوته، أتذكر أول مرة رأيته فيها وكأنها حدثت أمس. عبد الناصر قال لنا تعالوا أنا عايزكم..كانت الساعة الثامنة «مساء».. ذهبنا لنجد باتريس وفرنسوا وجوليانا..كانوا يتكلمون فرنساوي، ونحن لا نعرفه، تواصلنا بلغة الأطفال..كان عندنا سينما في المنزل، عبد الناصر قال لنا: روحوا شوفوا سينما يا ولاد.. فتفرجنا على فيلم طرزان..بعد ذلك عرفت أنهم أخذوا شقة في الزمالك وذهبوا الى مدرسة فرنسية..فاتت سنة والتانية، وفي يوم من الأيام سألنا الوالد: انتم مبتسألوش ليه عن أولاد لومومبا؟.
وطلب سكرتيره محمد أحمد ليجيء بهم ونلعب الكرة، ولما كنا نذهب الى الاسكندرية في المعمورة..يأتون معنا، أصبحنا عائلة واحدة..ويوم وفاة الزعيم عاش باتريس معي شهرا كاملا..لم يتركني لحظة واحدة..كنت في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وهو في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كان عبدالناصر يقول لنا: لومومبا قال لي وصيتك أولادي، والأفضل أن يتحدث في هذه النقطة باتريس، اتكلم يا باتريس”.
وتكلم باتريس: بعث الوالد للرئيس عبد الناصر جواب قبل ما نصل للقاهرة عام 1961، قال له:أنا باعت لك أولادي،وهم أولادك..الخطاب كان عن طريق السفارة المصرية، كان موجود محمد عبدالعزيز اسحق، مستشار في السفارة، ويقوم بعمل السفير وكان صديقا لأبي..بعد ذلك حدثت عملية تهريبنا.
يتذكر “باتريس”:”في يوم ونحن في المنزل جاء اسحق ليلا بسيارة جيب تابعة للأمم المتحدة، كان معه الضابط مصطفى حنفي(السفير فيما بعد)..وكان ضمن قوات الأمم المتحدة..وكان سعد الشاذلي موجودا، وضعوا «شنطنا» في السيارة..كان عمري 9 سنوات، وضعونا في السيارة أنا وفرنسوا وجوليانا بطريقة لاتكشفنا ،ومرت السيارة من وحدة مظلات وصاعقة كانت تحاصر المربع الذي يقع فيه البيت.
يضيف: “كانت مصر لها مبنى وهو الآن مستشفى، قضينا الليلة فيه..وفي اليوم التالي استخرج اسحق جواز سفر على أنه زوج لإفريقية ونحن أولاده، وأطلق أسماء عربية علينا..أنا كان اسمي عمر..وفي المطار أخذ الشاذلي جنود صاعقة ووضعهم فيه..وقال لهم، إذا لم يطلعوا بسهولة يطلعوا بأي وسيلة..كانت الطائرات تطلع من الكونغو الى أوروبا مساء، وطلبوا منا أن نعمل نائمين ثم حملونا إلى الطائرة.. كادت العملية تنكشف بسبب موظف كان بيشوف صورنا مع الوالد..وحين رأى صورنا الملحقة بجواز سفر اسحق..قال: أصحاب الصور مش ممكن يكونوا أولاد هذا الرجل، كانت صورنا مهزوزة قصدا حتى لا يتم كشف حقيقتها..رد اسحق: الأولاد صغار وناموا، وأنا دبلوماسي..وازاي نصحيهم، هذا كلام غير منطقي..كان هناك ضباط مصريون حول اسحق فارتبك الموظف، وقال: خلاص؟.
صعدت الطائرة فأنهينا تمثيلية النوم.. واستمرت الرحلة حوالي أسبوعا، نزلنا في الجزائر ترانزيت ساعتين..ومنها إلى برشلونة ترانزيت لمدة يوم..ثم سويسرا يومين أوثلاثة، ومنها إلى مطار القاهرة..كان فيه صحفيون ينتظروننا في المطار..حتى وقتها لم يكن أحد يعرف أين نحن.؟.
سألت باتريس: “أين كانت الأم من كل هذا العذاب؟..رد خالد:”يا جماعة أنا كل ما أسمع القصة دي دموعي بتغلبني”..أمسك باتريس بيديه، قائلا :”خلاص بلاش نكمل يا خالد”..لكن خالد طالبه بالاستمرار، وتركنا، وواصل باتريس سرد ذكرياته المؤلمة: الوالدة انضمت إلينا بعد سنة هي ورولا..ووقت القبض على الوالد كانت معه، ورولا كان عنده سنتين تقريبا، وضربه عسكري بسنك البندقية وقت القبض على الوالد، فأحدث جرحا شديدا بجانب أذنه.
يتذكر، فور وصولنا إلى القاهرة، فضل الرئيس عبد الناصر أن نتوجه إلى منزل اسحق، حتى نتعلم العربية، وهو كان صديق الوالد. كان اسحق عامل الرابطة الافريقية الموجودة في الزمالك. وكان بيسافر كثيرا الى افريقيا..كانت علاقته قوية بزعماء حركات التحرر الافريقية..وفي الفترة التي قضيناها معه في المنزل، رأيت زعماء تحرر أفارقة كثيرين يأتون إليه. بقينا عامين عند اسحق. حتى أخذ لنا الرئيس عبدالناصر فيلا مستقلة نقلنا فيها.
سألته عن وداع الوالد لحظة تهريبهم ؟..رد باتريس بتأثر، وصوت مخنوق:”واحنا ماشيين لم نكن نعرف ايه اللي بيحصل في البلد..مسكنا بَسْنا (قبلنا)..وقال: خلوا بالكم من بعضكم وانتم رايحين لأبوكم وهو هيخلي باله منكم..عاوزكم تدرسوا..لازم تخلصوا دراستكم..أخذنا في حضنه مرة أخرى..وذهب معنا حتى السيارة..وبعد أن ركبنا..ردد أكثر من مرة:خلي بالكم من بعضكم..خلي بالكم من بعضكم”..لم أكن أعرف أو أحد من اخواتي أنها آخر مرة نراه فيها، والمؤكد أنه كان يعلم ذلك”.
لاحظ الدكتور خالد تأثر باتريس فقال:”معلهش ياباتريس”..رد:”خلاص ياخالد”،وأكمل بصعوبة:”عرفنا بعد ذلك إن الوالد كان يعرف إنهم سيذبحوننا لو مسكوه..كان هذا أكثر ما يشغله ويؤلمه..كان تصوره أنهم من الممكن أن ينفذوا ذبحنا أمامه، وكمان كان فيه اقتراح بأن يتم توزيع كل واحد فينا الى زعيم افريقي مثل نكروما في غانا ،وسيكوتوري في غينيا..وفي آخر لحظة، رفض أبي وقال: كلهم يذهبون الى جمال عبدالناصر هو سيكون والدهم بالفعل، وجئنا”
سألته: كيف عاملكم عبدالناصر؟رد باتريس:أب يعامل أولاده، معنا في كل تفاصيل حياتنا، يسألنا عن كل شيء. يقول لنا: روحوا اتفرجوا على سينما..العبوا كرة. أخي الأكبر فرنسوا لعب الكرة في فريق الزمالك مع جيل فاروق جعفر لكنه لم يستمر.. كان يتابعنا في دراستنا، دون أن نحس بشيء.
يتذكر خالد: “كان موبوتو يزور مصر أيام السادات، فتم فرض حصار أمني على باتريس وأخواته في الفيلا ومنع اتصالهم بأي أحد، فكنت أحمل وجبات الكباب والكفتة أنا وعبد الحميد وعبد الحكيم ونذهب إليهم بالعند في السادات”.
انتهت جلستنا في الرابعة عصرا، وعانق خالد باتريس بتأثر، وقال: “باتريس ابني، ولومومبا كان أخا لأبي جمال”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى