لتركيا نفوذ كبير في الشمال السوري، لكنه يفتقر إلى الاستمرارية، فوجودها يشكل قطاعاتٍ متفاوتة الاتساع، تفصل بينها فجوات عريضة، ترى السلطات التركية أن مجموعاتٍ مسلحةً يمكن أن تنفذ منها إلى الداخل التركي لتنفذ عمليات إرهابية، وهي ترغب في سد هذه الثغرات بتمديد مناطق النفوذ لتشمل كامل الحدود التي تتشاطرها مع سورية، وعلى عمقٍ كافٍ يؤمن منطقة تامة العزل بينها وبين المجموعات التي تراها خطرة على أمنها. لذلك، هي تريد تشكيل قلق لهذه المجموعات المسلحة الكردية، بما يزعزع قدرتها على التجمع، وتشكيل كيان سياسي وعسكري أكثر خطورة. تعتقد تركيا اليوم أن الوقت قد حان، وأن الظروف قد نضجت، للقيام بعمليتها التي بموجبها سيمسح عسكريون أتراك وعرب المنطقة المحاذية للحدود، من الجسر الروماني في عين ديوار أقصى الشرق، إلى قرية ميدان إكبس في عفرين غرباً، في خط واحد لا ينفصل، وبعمق استراتيجي كافٍ. وحتى تحقق تركيا هدفها هذا، تدرك أنها بحاجة إلى موافقة كل من أميركا وروسيا معاً. أميركا هي الراعي الرسمي للجماعات التي تسيطر على هذه المنطقة، وتدعمها بالسلاح والمال، وما زالت تحتفظ بعدد رمزي من القوات الأميركية هناك، ما يجعل أي دخول من دون موافقتها أمراً عسيراً، وتركيا في حاجة كذلك لموافقة روسيا المسيطرة فعلياً على الأجواء السورية، وتمتلك، إلى حد كبير، القرار السياسي السوري، الذي يمكن توجيهه ليغضّ النظر عن امتداد عسكري كهذا.
وتحتاج موافقات من هذا النوع من تركيا إلى حملة دبلوماسية ناجحة على الجبهتين المتناقضتين، خصوصاً في ضوء كثير من الأجواء الملبدة بين تركيا وأميركا، بعد محاولة ضم كل من السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي والتشويش التركي عليها، بالإضافة إلى التقارب الروسي التركي الذي تراه أميركا غير ضروري، ويساهم في توتر العلاقات بينهما، وإشكالات تزويد تركيا بطائرات إف 16 الأميركية. في وسط هذه الفوضى، على الدبلوماسي التركي الانخراط بنقاشات محمومة، ليجد لطلبه آذاناً أميركية مُصغية. وعلى الجانب الآخر، عليه أن يعطي روسيا مبرّرات كافية تسهل العملية في الشمال السوري، وقد يكون هذا الوقت هو الأنسب، وأولى سفن شحن القمح الأوكراني قد تحرّكت ووصلت إلى المياه الإقليمية التركية، وقد رعت تركيا والأمم المتحدة اتفاقاً ييسّر تصدير القمح بين الروس وأوكرانيا، وقد التقى بوتين وأردوغان في طهران وسوتشي، ولا بد أنهما قد خصّصا جزءاً كبيراً من لقاءيهما لهذا الأمر.
قبل سنوات، رفضت أميركا فكرة العملية التركية هذه، وما زالت تجد أن حزاماً أمنياً من هذا النوع سيعوق الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، لكن تركيا لم تفقد الأمل، خصوصاً أن الرفض الحالي جاء على ألسنة بعض أعضاء الكونغرس ومن لجنة الشؤون الخارجية فيه، كذلك رفضه مسؤول ثانوي في البنتاغون (نائب مساعد وزير الدفاع)، بمعنى أنه ما زال في الإمكان الحديث مع مسؤولي الصف الأول وإقناعهم، وربما لدى أردوغان بعض ما يُقايض به. ولكن من جهة أخرى، لا تبدو مهمته مع روسيا سهلة أيضاً، رغم الروابط بين البلدين، ورغم أن تركيا أحد زبائن الغاز الروسي الذي لم ينقطع أو ينقص، وما زال نصف غازها يتدفق من روسيا، وتبني الأخيرة محطة نووية على البحر المتوسط ستزود تركيا بعشرة بالمائة من حاجتها إلى الكهرباء.
لدى أميركا وروسيا أسباب كثيرة لرفض الطلب التركي، ورغم شعور تركيا بامتلاكها مغريات كثيرة للطرفين، فإن أردوغان غالباً ما سيواجه “فيتو” من الدولتين، ولا يمكن أن تقوم تركيا بمغامرة من هذا النوع على مسؤوليتها، لكن استمرار الحال على ما هو عليه سيؤهلها للتقدّم خطوة بخطوة، ويمكن أن نستعيد بالذاكرة كيف كانت الحدود قبل ست سنوات، لنعرف فائدة أسلوب الخطوة بخطوة بالنسبة إلى تركيا.
المصدر: العربي الجديد