كان لافتاً أن يُطلق وزير خارجية تركيا، مولود جاووش أوغلو، تصريحاتٍ هي الأولى من نوعها بخصوص علاقة بلاده مع النظام السوري، حيث اعتبر أن إخراج الإرهابيين، ويقصد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ومخرجاته، من المناطق التي يسيطرون عليها في شمالي سورية “حق طبيعي للنظام”، وأن بلاده على استعداد لتقديم “كل أنواع الدعم السياسي لعمل النظام السوري في هذا الصدد”، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً بين أوساط عديدة من السوريين، طُرحت خلاله تساؤلات عن الأسباب والدوافع وراء هذا التغير في الموقف، أو على الأقل في النبرة أو اللهجة، حيال نظام الأسد، وعما إذا كانت المرحلة المقبلة ستشهد متغيرات في العلاقات بين تركيا ونظام الأسد، بالافتراق مع ما كانت عليه طوال السنوات العشر الماضية؟
وفيما استغرب ناشطون سوريون تصريحات جاووش أوغلو، وأعرب بعضهم عن غضبه واستغرابه منها، إلا أن المعارضة السياسية السورية، ممثلة بالائتلاف الوطني لقوة الثورة والمعارضة، ومعه هيئة التفاوض والحكومة المؤقتة، آثرت الصمت، وحاولت تغطية رأسها بالتراب، حيث نأت بنفسها عما حملته التصريحات، وكأنها غير معنيةٍ بما جاء فيها، فيما وجّه المجلس الإسلامي السوري، في بيان أصدره، المشايخ والخطباء والمفتون، بأن يكون محور خطبة الجمعة الماضية، في جميع المساجد، مركّزاً على أن “أكبر إرهاب يُمارس اليوم داخل سورية هو إرهاب العصابة المجرمة الطائفية الحاكمة”، في ردّ غير مباشر على تصريحات الوزير التركي، لكن المجلس استدرك، فيما ما يشبه محاولة لإرضاء للجانب التركي، عبر التأكيد على أن يكون المحور الثاني من الخطبة أن “قسد” والحزب الديمقراطي (الكردي) وحزب العمال الكردستاني، عصابات إرهابيّة، وهي من أدوات النظام الإرهابيّ المجرم في حربه على السوريّين وجوارهم التركي، وأنّ محاربة إرهابهم لا تكون بدعم وتقوية إرهابٍ آخر أكبر منه”.
ولعل الجديد أن تصريحات جاووش أوغلو، هذه المرّة، ذات طابع سياسي، ومختلفة عما أُعلن في السابق عن وجود اتصالات أمنية واستخباراتية فقط، بعيداً عن وجود أي تواصل سياسي أو نيّة لفتح قنوات اتصال دبلوماسي مع نظام الأسد. وجاءت في أعقاب محاولات إيرانية للوساطة بين تركيا ونظام الأسد، وبعد مرور أسبوع على انفضاض قمة طهران الثلاثية، التي جمعت قادة الدول الثلاثة الضامنة لمسار أستانة، إضافة إلى مطالبة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الولايات المتحدة بالخروج من سورية.
ويبدو أن الوساطة الإيرانية، القائمة على استغلال حاجة تركيا الأمنية في سورية، من أجل دفعها إلى فتح حوار سياسي مع دمشق، وبالتالي ثنيها عن القيام بعملية عسكرية في الشمال السوري، قد جعلت وزير خارجية نظام الأسد يخفف من حدّة لهجته المعادية لتركيا، فلم يهاجمها كعادته، بل لم يعتبرها قوة احتلال حين سئل خلال وجوده في طهران، بالتزامن مع انعقاد قمة طهران الثلاثية، عن تهديدها بتنفيذ عملية عسكرية في الشمال السوري، بل اعتبر أنه “لا ينفع تركيا أو غير تركيا أن تخترق الحدود السورية، وأن توجد مناطق آمنة، لأن هذا سيخلق نوعاً آخر من الصراع بين الدولة السورية والدولة التركية”، وتعامى عن وجود قوات تركية منتشرة في مناطق عديدة في الشمال السوري عندما اعتبر أن اختراق تركيا الحدود السورية “سيؤثر على علاقة الشعبين الشقيقين والصديقين في تركيا وفي وسورية”. كما حرص على التذكير بفترات تحسّن العلاقات بين تركيا وسورية سابقاً، “انتعش خلالها الاقتصاد التركي، وشهد الاقتصاد السوري قفزات مماثلة”.
وتجد مستجدّات الموقف التركي حيال نظام الأسد صداها في تقارير وسائل إعلام تركية عديدة، تحدثت أخيرا إن القيادة التركية تجري عملية تقييم لتعاملها مع الملف السوري، بشقيه، الإنساني والسياسي، بغية وضع خياراتها قبل موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في منتصف يونيو/ حزيران المقبل، وراحت بعض وسائل الإعلام التركية، من بينها المقرّبة من الحكومة، إلى الحديث عن احتمال عودة العلاقات مع النظام، كما حصل بين تركيا ودول أخرى، مثل السعودية والإمارات، فيما ذهبت صحيفة حرييت إلى الحديث عن وجود “نقاش” حكومي للشروع في فتح حوار مع نظام الأسد، يخصّ “الحفاظ على وحدة سورية، وضمان أمن اللاجئين العائدين، ونشاط حزب العمال الكردستاني”، وأذرعه ومخرجاته السورية كافة، وبالتالي قد لا يكون مستبعداً قيام الساسة الأتراك ببعض التغيرات في توجهاتهم وسياستهم حيال الملف السوري، حيث تجادل أوساط سياسية تركية بأن محاربة التنظيمات الإرهابية الكردية في الشمال السوري تقتضي مزيدا من التنسيق والتعاون مع الطرف الروسي، والانفتاح على النظام السوري، وبما يوفر لتركيا فرصاً سياسية تمكّنها من تنفيذ (وتوسيع) عملياتها العسكرية والاستخباراتية ضد تلك التنظيمات.
وبصرف النظر عن المماحكات حيال تصريحات جاووش أوغلو، تغيرت أولويات الموقف التركي حيال الملف السوري، منذ نهاية 2016، من إسقاط نظام الأسد إلى التركيز على المخاطر والتهديدات التي يحملها مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، فضلاً عن أنه محكومٌ باعتبارات وحسابات داخلية وخارجية، لذلك جاءت التصريحات على خلفية الشكوى التركية من أن كل “الولايات المتحدة وروسيا لم تفيا بوعودهما في إخراج الإرهابيين من المنطقة، وهذا يدلّ على عدم إخلاصهما في محاربة الإرهاب”.
داخلياً، لن يتوقف السعي التركي الهادف إلى تحقيق إنجاز ما في الملف السوري، وبما يتطلب القيام بعملية عسكرية في الشمال السوري تحت يافطة محاربة التنظيمات الإرهابية ممثلة بقوات سوريا الديمقراطية وسواها، خصوصا وأن العملية تبدو كأنها حاجة داخلية للقيادة السياسية، غايتها حماية الأمن القومي التركي، وتلقى قبولاً في أوساط القوميين الأتراك. يضاف إلى ذلك أن حزب العدالة والتنمية (الحاكم) يريد تحقيق إنجاز على صعيد ملف اللاجئين السوريين في تركيا، من خلال سحب ورقتهم من أيدي أحزاب المعارضة، التي طرحتها ورقة أولى للتداول في بازار حملاتها الانتخابية المبكرة للانتخابات العامة المقبلة. وبالتالي، يريد الحزب الحاكم تقديم نفسه للناخب التركي قادراً على حل هذه القضية، من خلال إعادة مليون لاجئ سوري أو أكثر إلى “بيوت الطين” التي تبنيها تركيا في مناطق الشمال السوري.
التغير في التعامل مع الملف السوري سيحمله معه الرئيس أردوغان في زيارته المقبلة إلى روسيا، ولقائه مع الرئيس فلاديمير بوتين بمنتجع سوتشي في الخامس من أغسطس/ آب الجاري، لكن السؤال هو، ما هو المقابل الذي سيقدمه بوتين؟ وهل سيتم التوافق خلال القمة على تأمين هواجس تركيا الأمنية، مقابل اتخاذها خطوات تعيد، في نهاية المطاف، علاقاتها مع نظام الأسد؟
المصدر: العربي الجديد