لم تتمكن “بورصة دمشق”، يوماً، من تحقيق أي ثقلٍ مؤثرٍ في الاقتصاد السوري، منذ افتتاحها في العام 2009، وحتى اليوم. ويكفي الإشارة إلى متوسط قيم التداول اليومية فيها، لتوضيح تلك الحقيقة. ففي آخر جلسة، كانت قيمة التداول حوالي 368 مليون ليرة سورية، أي نحو 88 ألف دولار وفق أسعار الصرف الرائجة حالياً. وبالاستناد إلى التقرير نصف السنوي الصادر عن البورصة، مطلع الشهر الجاري، فإن إجمالي قيم التداولات خلال النصف الأول من العام 2022، بلغ نحو 29 مليار ليرة سورية، أي ما يعادل 7 ملايين دولار أمريكي.
ورغم تواضع السوق، وانحصارها في فئة صغيرة للغاية من المهتمين والمتعاملين، كان قرار حكومة النظام أن تطرح سندات وأذون خزينة للتداول فيها، بدءاً من 8 آب/أغسطس القادم. ولم تتضح بعد تفاصيل هذه الأوراق المالية الحكومية المزمع طرحها، أو شروط الاكتتاب عليها وفترة سدادها. ومن غير الواضح بعد، إن كان الطرح المشار إليه، هو ذاته الذي تحدث عنه مسؤول في وزارة المالية، قبل أيام، معلناً عن مزاد جديد لسندات الخزينة بقيمة تتراوح بين 200 إلى 300 مليار ليرة سورية، هو الثاني هذا العام. إذ لم يشر ذاك المسؤول أن الطرح قد يكون عبر البورصة، وهي سابقة في تاريخ البلاد.
وقد تكون الإشارة إلى موعد المزاد الثاني للاكتتاب على سندات الخزينة لهذا العام، مناسبةً جيدة لتقييم الخسائر التي طالت المكتتبين على المزاد الأول، الذي تم تنظيمه في نهاية كانون الثاني/يناير الفائت، بقيمة إجمالية 200 مليار ليرة سورية، وبأجل خمس سنوات، وبفائدة سنوية تبلغ نحو 7%.
ففي يوم تسوية مزاد الاكتتاب، 3 شباط/فبراير الفائت، كان “دولار دمشق” عند 3600 ليرة للمبيع. أما اليوم، فهو عند 4150 ليرة. أي أن الليرة خسرت نحو 15% من قيمتها، خلال 6 أشهر. ومقارنةً بالفائدة نصف السنوية، 3.5%، يكون المكتتبون على سندات الخزينة قد خسروا 11.5% من قِيم أموالهم، حتى الآن. هذا بالمقارنة مع سعر الصرف. لكن بالمقارنة مع معدل التضخم السنوي، الذي تذهب تقديرات إلى أنه قرب 40%، تكون الخسارة المتحققة أكبر.
من المعلوم في مختلف دول العالم، أن الإقبال على أذون وسندات الخزينة مرتبط بثلاثة عوامل: الثقة بالاقتصاد، استقرار سعر الصرف، وربحية سعر الفائدة مقارنة بمعدل التضخم. وكل ذلك غير متحقق في الحالة السورية. ورغم ذلك، يصرّ النظام على طرح أدوات نقدية ومالية تقليدية، وكأنه يتعامل مع اقتصاد طبيعي، وليس اقتصاد حرب مشوّه، القطاعات الأبرز فيه، هي التهريب والمخدرات، والسوق السوداء.
لكن النظام، لا يعنيه ما سبق. فهو في نهاية المطاف، يقترض أموالاً من السوريين، لسدّ عجز الموازنة، على حسابهم. الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: من يشتري سندات الخزينة الخاسرة في سوريا؟!
في مطلع العام الجاري، ومع طرح المزاد الأول، أتاحت حكومة النظام المجال للاكتتاب، أمام الجمهور، وليس فقط للمصارف كما كان معمولاً به في مزادات سندات الخزينة المطروحة عام 2020. فكيف تفاعل “الجمهور”؟ يجيب مسؤول في وزارة المالية، عبر الإعلام الموالي، بأن 90% من المكتتبين على سندات الخزينة، كانوا من المصارف. وقد تكون تلك النسبة مشكوكاً بها أيضاً، فإلى أية فئة “ساذجة” تنتمي الـ 10% الباقية، إذا عرفنا أن المصارف ملزمة بعملية الشراء تلك، وفق مصادر متقاطعة!
الإشارة الأخيرة إلى دور المصارف، تفسّر توسع نشاط وزارة المالية إلى “بورصة دمشق”. إذ أن قطاع المصارف يستحوذ على 84% من القيمة الإجمالية للتداول فيها، خلال النصف الأول من العام الجاري. لذا من المرجح أن أبرز المشترين لسندات وأذونات الخزينة المزمع طرحها، سيكونون من هذا القطاع تحديداً. وقد ينضم إليهم قطاع شركات التأمين الناشط في “البورصة”، أيضاً.
ومن المفارقة أن يروّج عابد فضيلة، رئيس هيئة الأوراق والأسواق المالية، لهذا الطرح عبر “البورصة”، خلال تصريحاته في وسائل الإعلام الموالية، وهو ذاته، كان قبل نحو 6 أشهر فقط، من المنتقدين للتوسع في طرح سندات الخزينة، واصفاً أسباب الاقتراض عن طريقها، بالغامضة، متسائلاً عبر وكالة “سبوتنيك” الروسية حينها، أين تم إنفاق الـ 130 مليار ليرة سورية التي اقترضتها “الدولة السورية” قبل سنتين، وفق الآلية نفسها! في إشارة منه إلى خطورة إنفاق “الدين الداخلي” على النفقات الجارية، مما يعني مراكمة عبء الدين على كاهل “الدولة”، مستقبلاً.
لا نعتقد أن عابد فضيلة، الاقتصادي المتخصص، غيّر رأيه. لكن جاءته أوامر كان عليه تنفيذها. كما ستأتي توجيهات لإدارات البنوك العاملة في سوريا، كي تشتري سندات وأذون الخزينة المتاحة عبر “البورصة”، لتقديم المشهد وكأنه “نقلة” على صعيد تنويع الأدوات الاستثمارية في هذه “السوق” الخاملة منذ أكثر من عقدٍ من الزمن. أما ما سيحدث فعلاً، فهو اقتناص جديد لودائع السوريين في البنوك، قسراً، ودون علمهم أو إذنهم المباشر، وبتكاملٍ مع توجيهات رسمية تمنع السوريّ من أن يسحب أمواله نقداً، إلا بسقوف متواضعة، وتضطره لإيداع الأموال قسراً، كلما أجرى عملية بيعٍ لعقار أو سيارة.
المصدر: المدن