أثار سقوط ضحايا عراقيين، تسعة قتلى وعشرات الجرحى، إثر قصف منتجع سياحي كانوا يصطافون فيه في مدينة زاخو، أقصى الشمال العراقي المحاذي لتركيا، الكثيرَ من الغضب الشعبي المشروع. مصادر عسكرية ورسمية عراقية ذكرت أن قوات تركية قامت بالقصف من معسكر قريب تسيطر عليه في المنطقة في إطار قيام هذه القوات بعملية عسكرية في الأراضي العراقية لمطاردة “حزب العمال الكردستاني” بدأتها في نيسان (أبريل) الماضي. من جانبها، نفت تركيا مسؤوليتها عن القصف، واتهمت حزب العمال به، وأبدت استعدادها للتعاون مع العراق “لإزالة الغموض وكشف الملابسات” بحسب تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو.
تحت وطأة ضغط الرأي العام سارعت بغداد الى تقديم شكوى أمام مجلس الأمن الدولي ضد تركيا في رفض ضمني للعرض التركي بالتعاون المشترك لحسم موضوع الجهة القاصفة. الصحيح منطقياً وسياسياً وقانونياً أن يستنفد العراق الوسائل الدبلوماسية مع تركيا لحل الموضوع، قبل الذهاب الى الأمم المتحدة اذا فشل هذا التعاون مع تركيا. يتعلق أحد أسباب هذا الاستعجال العراقي بالصراع السياسي في البلد، إذ تدفع قوى من الإطار التنسيقي باتجاه التصعيد مع تركيا، وتغذي الغضب الشعبي بهذا الصدد، لأسباب مختلفة بينها تخفيف الضغط الذي يتعرض له الإطار به بخصوص التسريبات المرتبطة بأحد أعمدته، السيد نوري المالكي، التي يتحدث فيها عن تشكيل ميليشيا جديدة تحت غطاء الدولة وبدعم ايراني، استعداداً لخوض قتال أهلي يضمن وصول الرجل الى رئاسة الوزراء.
كما هي العادة مع الاستعجال وانتقاء المواجهات في العراق، المنتصر هو الترقيع الانتهازي الذي يؤجل المشكلة، ويساهم في تعقيدها، بدلاً من إيجاد استراتيجية عقلانية تفكك المشكلة تدريجياً وتقود إلى حل نهائي في المستقبل. لن يستفيد العراق لا سياسياً ولا قانونياً من تقديم شكوى ضد تركيا أمام الأمم المتحدة، بل قد يتضرر منها. أولاً، تركيا ليست عدوة العراق، وليس من الحكمة التعامل معها على نحو يجعلها عدواً. الصحيح بخصوص القصف الأخير هو تشكيل لجنة عراقية – تركية مشتركة لفحص الأدلة المرتبطة به، لتحديد الفاعل الحقيقي، وإذا ظهر أن تركيا قامت بالقصف بالخطأ على أساس معلومات خاطئة (وهو ما يبدو الاحتمال الأقوى الآن)، فبالإمكان تسوية الأمر عبر تقديم اعتذار للعراق، وتعويض عوائل الضحايا، وإيجاد آلية تعاون فنية تمنع تكرار مثل هذه الأخطاء في المستقبل. عبر هذا يمكن غلق ملف هذه الحادثة المأساوية واتخاذ إجراءات لضمان أن تكون الأخيرة.
ثانياً، لتركيا مصالح مشروعة في العراق ينبغي أن يتعاطى معها الأخير بمسؤولية. المصلحة المشروعة الأساسية لتركيا هي حماية نفسها من التهديد الأمني الذي يمثله لها “حزب العمال الكردستاني” عبر تنظيمه عمليات مسلحة ضد الجيش التركي انطلاقاً من جبل قنديل في شمال العراق. بإمكان تركيا، كما تفعل في كل عملية عسكرية لها، استخدام حجة الدفاع الاستباقي عن النفس بالاعتماد على المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة، التي تسمح لها، في سياق تفسير شائع لهذه المادة مدعوم بسوابق دولية، بالقيام بعمليات استباقية لتعطيل قدرة الحزب على شن عمليات مسلحة في الداخل التركي. مثلما قام العراق بمنع منظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية من شن عمليات مسلحة من داخل أراضيه ضد الدولة الايرانية، عبر تفكيك قدراتها العسكرية، على أساس طلب إيراني رسمي ومشروع بهذا الصدد، فإن لتركيا الحق القانوني نفسه بخصوص “حزب العمال الكردستاني”. إذا عجز العراق عن القيام بذلك، فهو عملياً يعطي تركيا الحق بشن عمليات عسكرية في أراضيه لتعقب الحزب، إذ أن أحد معاني مبدأ حسن الجوار في العلاقات الدولية هو ألا تتحول أراضي البلد ذي السيادة الى قاعدة لاستهداف أمن بلدان أخرى.
يقود هذا إلى جوهر المشكلة وهي هشاشة الدولة في العراق وعجزها عن احتكار السلاح وفرض سيادتها كاملةً على كل أراضيها. تتعقد المشكلة أكثر في السياق العراقي لأن “حزب العمال”، عبر تفرعاته المحلية، أصبح جزءاً من النسيج السياسي والأمني العراقي، برغم أن الدولة العراقية، كما تركيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، تعتبره منظمة إرهابية. في مطلع آب ٢٠١٤، شن تنظيم “داعش” هجوماً على منطقة سنجار غرب محافظة نينوى الشمالية، مستهدفاً أغلبيتها الأزيدية التي أصبحت بسرعة صادمة ضحية للقتل الجماعي للرجال والعبودية الجنسية للنساء. كان الانسحاب المفاجئ والسريع والغامض الدوافع لقوات البيشمركة التابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني أمام التقدم الداعشي نحو المنطقة هو الذي ترك الأزيديين من دون حماية، فيما كانت القوات الاتحادية العراقية غائبة وعاجزة عن تقديم أي مساعدة لوقف المأساة. وحده “حزب العمال الكردستاني” استطاع أن يقدم مساعدة حقيقية للأزيديين في وقت محنتهم الأشد: فتح لهم ممرات جبلية للهروب وأقام خط صد لحمايتهم من مسلحي “داعش”. شكل الحزب لاحقاً ذراعاً مسلحاً وحركة سياسية، معظم أعضائهما من الأزيديين. نال الاثنان ثقة الكثير من الأزيديين وتم دمج مسلحين ازيديين من الحزب في “الحشد الشعبي” الاتحادي تحت مسمى “الحشد اليزيدي”. فضلاً عن ذلك، هناك التفاهمات بين “حزب العمال الكردستاني” في المنطقة مع الفصائل المسلحة الشيعية المتحالفة مع إيران، كـ”النجباء” و”كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق”، وهي التفاهمات التي تزيد من حضور الحزب كفاعل أمني وسياسي في بنية الدولة العراقية.
يضيف تحالف ايران مع “حزب العمال”، عبر الحرس الثوري الإيراني، وحلفاء ايران العراقيين من الفصائل الولائية المزيد من التعقيد لمشهد العلاقات العراقية – التركية. الإطار التنسيقي مثلاً الذي تنتظم فيه القوى السياسية والميليشيوية المتحالفة مع إيران، ضَغطَ على حكومة الكاظمي لاتخاذ موقف مواجهة حاد بإزاء تركيا بعد قصف المنتجع السياحي في زاخو، مستفيداً من الغضب الشعبي من القصف ومؤججاً له أيضاً، حتى مع إدراكه جيداً أن المواجهة السياسية والدولية، بين العراق وتركيا تضر بالمصالح العراقية في آخر المطاف بسبب امتلاك تركيا أدوات ضغط مهمة على العراق، إذا قررت استخدامها كما في ملف المياه والوجود العسكري وغيرها.
ثم هناك التنافس الإيراني – التركي في العراق في سياقات مختلفة، إذ تنظر إيران بارتياب للتعاون النفطي بين اقليم كردستان وتركيا، خصوصاً في ظل الالتزامات النفطية الطويلة الأمد التي عقدها الإقليم مع تركيا ويمكن أن تكون منافساً لإمدادات النفط الإيراني في حال رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد إيران. أيضاً، علاقة إيران العسكرية مع “حزب العمال” قديمة وتعود الى عقد التسعينات، وكثير منها يجري في الأراضي العراقية، مقابل عدم نشر نفوذ الحزب في المناطق الكردية في إيران. تستفيد إيران من تمكين الحزب ومساعدته في مواجهته مع تركيا، فتركيا في آخر المطاف هي حليفة أميركا وعضو في حلف الناتو المُقلق لإيران الذي يستضيف قاعدتين عسكريتين أميركيتين، في إحداهما، قاعدة إنجرليك، أسلحة نووية أميركية.
في ظل كل هذا التعقيد المتصل في جزئه الأكبر بهشاشة الدولة العراقية وضعفها البنيوي وافتقادها لوحدة القرار والقدرة على تنفيذ قراراتها، لن يستطيع العراق، على المدى القريب، إزالة أهم الشكاوى التركية بخصوصه: وجود “حزب العمال الكردستاني” على أراضيه واستخدامها لتنظيم عمليات مسلحة. لكن ما يمكنه القيام به، في المدى المنظور، هو حصر النزاع وتنظيمه، بحيث لا يصل إلى مناطق مدنية ولا يتضرر منه المدنيون العراقيون أو يسقطون ضحايا بسببه. يتطلب مثل هذا الأمر التعاون الوثيق مع تركيا وليس رفع شكوى ضدها في مجلس الأمن الدولي ستعود على العراق بالضرر وليس بالنفع.
المصدر: النهار العربي