هل يستطيع لبنان تقشير نفسه من أصوله ومراكز قوته؟ هذا أول سؤال تبادر إليّ عند سماع الخطابات العنصرية التي تنادي بلبنان “بيور” أو المجتمع اللبناني البيور، أي النقي من شوائب الجنسيات التي تطعّم بها، بمفهوم هتلر النازي الذي قاد العالم إلى أكبر حرب عالمية مثقلة بالدماء، وواحدة من أكبر جرائم التاريخ بحق اليهود والأقليات اللا-آرية. وفيما لا نعرف عن لبنان في أي مرحلة كان “بيور” كما يريده العنصريون، إذ هو تاريخياً قبلة الباحثين عن هواء نقي (فيزيائياً ومعنوياً) من كلّ الجنسيات العربية، قبل أن تُفسده حكوماته أخيراً. وتصريحات بعض مسؤوليه، وأبواقهم، المتاجرين بفشلهم، والمختبئين خلف ملف اللاجئين في لبنان ليست جديدة، أو مستحدثة، على الأقل في معناها، فهي تتشابه، في كثير من مضامينها، مع الدعوة والترحيب بالمجتمع السوري المتجانس التي أطلقها الرئيس السوري بشار الأسد عام 2017.
يُرجع الكاتب والباحث صقر أبو فخر عشرات العائلات اللبنانية إلى أصول سوريّة لا تتسع مساحة المقال لتعدادها جميعها من “آل الجميل إلى تويني وإدّة وصحناوي وعضّوم وصفير والزغبي وزيدان وواكيم وغانم وباخوس وزكا، إلى أمراء لبنان من آل أبي اللمع وأرسلان وحرفوش والبستاني وجنبلاط وصولاً إلى الشاعر سعيد عقل والسيدة فيروز”. أما عن أصول العائلات اللبنانية من أصل فلسطيني والتي أدّت أدواراً مهمة، ولا تزال، في حمل أعباء الاقتصاد اللبناني، وتعزيز إمكاناته المصرفية وحضوره الثقافي والإعلامي فهي كثيرة وعميقة الحضور، وتكاد تكون تلك الأسماء علامات في تاريخ لبنان، ما يجعل من الدعوة إلى استعادة مساحة لبنان البالغة 10452 كم مربع للبنانيين “بيور” وطرد من هم سواهم في مكانها وزمانها ليست دعوة إلى استعادة لبنان “سويسرا الشرق” بل لتقشير لبنان من أصوله ومراكز قوته.
يمكن ردّ بعض التصريحات اللبنانية “العنصرية” إلى الجهل أحياناً، أو المبالغة في إظهار الكراهية لمن يعدّونهم غرباء عنهم، أو الهروب من مسؤوليات سياسية والتعتيم على فساد حكومي، والمقصود فيه تحرير لبنان من تبعيات اللجوء السوري، في وقت لا يمكن أن يكون وراء الفخر بمجتمع متجانس حسب رؤية النظام السوري إلّا أنّه تنميط جديد لمعنى العنصرية، بأنه استباحة لتهجير واعتقال وقتل المخالفين بالرأي، على مبدأ قتل العرق الآخر، وهذا ما جرى تطبيقه في الواقع السوري على نطاق واسع خلال السنوات الـ11 الماضية، تحت عيون الكاميرات الحديثة وأسماعها، ومن دون الاستعانة بصور “ناسا” لسبر أعماق مأساتنا، والإبحار بتنوّع الجرائم المرتكبة بحق السوريين على كلّ جنبٍ وصوب.
عادة ما يتساوق الخطاب مع الفعل. من هنا، يمكن أن نستوضح أن ما جرى في عكّار شمالي لبنان في يوليو/ تموز 2021، وكذلك ما جرى سابقاً في مخيمات اللاجئين في بحنين – المنية في أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول 2020، وقبلها في مخيم الرائد، في محيط مدينة قب الياس، ومخيم تل السرحون في بلدة بر إلياس، لم تكن حوادث فردية عابرة، لأنها تتساوق تماماً مع تطوّر الخطاب العنصري الذي يلاحق السوريين، والإجراءات المتخذة بحقهم في لبنان. ولا يمكن التكهن بمدى فاعلية المطالبات بطرد السوريين، وحجم انعكاسها على حرائق جديدة في أجساد سوريين آخرين في أرجاء لبنان “لؤلؤة الشرق” المشتعلة.
الزعيق على الإعلام من أصوات معروفة، أو مجهولة، لطرد السوريين والفلسطينيين، ومن في حكمهما، من لبنان، في حملة محمومة لتغطية حقيقة ما يمر به لبنان من هزيمةٍ داخليةٍ سببتها سياسات اقتصادية، وسلاح “منفلت”، وتدخلاته الخارجية في سورية واليمن والعراق، هدفها تعمية عموم الشعب عن الحلول الواجبة من جهة، وابتزاز المجتمع الدولي من جهة مقابلة، لزيادة حصة الفاسدين من لقمة عيش المهجّرين السوريين، جرّاء حرب إحدى أدواتها لبنانية الهوية والسلاح.
صحيحٌ أنه لا يمكن إنكار معاناة لبنان الدولة بمساحتها الصغيرة قليلة الموارد، والمتهالكة اقتصادياً وسياسياً، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ ذلك كان قبل النزوح السوري إليها، وخلاله، وربما ليس هناك أملٌ كثير لو خرج السوريون فعلياً أن يكون لبنان، بإداراته السياسية وتقاسماته الطائفية، في واقع أحسن، إلّا أنّ ذلك لا ينفي أنّ على الأمم المتحدة، الصامتة أمام عذابات السوريين في كلّ مكان، أن تتحرّك لإيجاد حلول واقعية للمأساة السورية، بدل الاستسلام لمسلسل اجتماعات اللجنة الدستورية، العاجزة عن تحرير نفسها من أجندات خارجية وتدخلات إقليمية، وعقد اجتماعاتها بقيادة سورية وإرادة سورية، حسب قرار تشكيلها، ما ينفي قدرتها على صياغة دستور يحرر بلادها.
تجنيب لبنان الدولة آثار استضافتها نحو مليون ونصف مليون من السوريين مرتبط بإيجاد حلّ للسوريين يخرجهم من لبنان، لكنّ ذلك الحل مرتبطٌ، في الوقت ذاته، بخروج لبنانيين وغير لبنانيين من سورية. وكان الأوْلى للمنزعجين من النازحين أن يوجهوا سهام انتقاداتهم إلى أبناء جلدتهم المقاتلين في سورية، الذين شاركوا في الحرب على السوريين منذ أيامها الأولى، ولهم إسهاماتهم الكبيرة في التأسيس لمشكلة النزوح، لا أن تتوجه السهام إلى ضحايا هاربين من عذاباتهم، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية “المتجانسة”.
كتبتُ مرة رسالتي إلى بيروت. وربما يجدر بي أن أعيد بعضاً منها: “إلى بيروت التي منحها محمود درويش أعذب قصائده، وأحبّها نزار قباني كإحدى عشيقاته، تلك المدينة الطاحنة، القاهرة، بيروت التي تطحن الجيوب والأرواح، وتقهر عشّاقها بالانتكاسات المتجدّدة، ربما خطاب الكراهية والعنصرية أحدها، يا بيروت، يا معشوقة السوريين، والفلسطينيين، والعرب، لن يهزّ صورتك بعض الأصوات النشاز، ولا يعكّر صفو وجهك التنافس على طرد السوريين من أصوات فاسدة، لأننا نثق أن بيروت، الجميلة القوية الحرّة، ستنتصر على بيروت المتأرجحة على حساسية ميزان الصراعات الطائفية والمصلحية الفاسدة، وعلى بيروت التي زعمت النأي بالنفس في حربٍ تأكل من دمها، وتعتاش على أرواح أولادها”.
المصدر: العربي الجديد