بعد انتهاءِ الحرب العالمية الثانية، وتسلمِ الولايات المتحدة الأمريكية تَّرِكةَ حلفائها في الحرب، كانتِ الانقلاباتُ العسكرية هي الأداةَ الأكثرَ نجاعةً لاستئصال الجذورِ العميقةِ للقوى الاستعمارية التقليدية التي زرعت هرميتَها المتغلغلةَ في عناقيدنا الاجتماعية منذ منتصفِ القرنِ التاسعَ عشرَ، وكان لابد من تبنِّي النمطِ الاشتراكي من قبل الحاكم العسكري ومعلمه الأمريكي؛ لاستئصال تلك الجذور وتغيير التركيبة الاجتماعية لإحداث حالةِ طلاقٍ بين الماضي والمتغيرات الجديدة. كذلك شكلتِ النظمُ العسكرية العصا الغليظةَ تجاه الملكيات التي أُرغمت على الانصياع للمعلم الجديد، وفكِّ ارتباطها سلمًا وبالتراضي مع المعلم القديم الذي صنعها في الأساس على مقاسه .ما ميز المرحلةَ اللا-عنفية أي مراحل السلم ومراحل الحروب في دول المنطقة بعيد الحرب العالمية الثانية عنوانٌ عريضٌ يُدعى “نادي أمراء الحرب” الذي يسمى تلطفًا بالحياة السياسية، والذي منذ ذلك التاريخِ وهو سيناريو متكررً تتقاذف من خلاله القوى العالمية ووكلاؤها الإقليميون الشعوبَ المغلوبَ على أمرها في مشهد نجده مستمرًا إلى يومنا هذا في كافة دول المنطقة ، ذلك أنّ هذا النادي أعاد بطريقة مدروسة مُحكمَةٍ تدجينَ الشعوب بطريقة بشعة، بحيث باتتِ الشعوبُ التي تُحكم من هذا النادي ضحيةَ الجرائمِ الاجتماعية الممنهجة أيام السلم وأيام الحرب، حتى إن الجرائم أيام السلم أشدُّ وطأةً ووحشية من الجرائم الاجتماعية أيام الحرب .
تقاسمُ مقدراتِ البلاد بين أمراءِ الحرب وملوكِ الطوائف هو شكلٌ اجتماعيٌّ-سياسيٌّ مبتكرٌ، سوف يتكرر في بلداننا مع تعديلات لطيفة تقتضيها التغيراتُ العالمية في الاقتصاد والتكنولوجيا و تأرجح كفة الصراع بين القوى الكبرى، هذا النادي دائمًا ما يكون له عناصرُ ثابتة، فهو يحتاج لترخيص من المنظومة العالمية، وأوصياء إقليميين ليحافظوا على قواعد اللعبة، وتقاسم بشراهة قلَّ نظيرُها للثروة أو عفوًا النهب المنظم لمقدرات الشعوب الحالية والمستقبلية، بمعنى النهب المبالغ فيه حتى تكون أجيالُ المستقبل رهينةَ ما نهبه هذا النادي في فترة زمنية قصيرة نسبيًّا.
ودائمًا المسؤوليةُ في التدمير الممنهج لشعوب المنطقة لا تقع على عاتق الجلادين والقتلة سواءً مَن لُطخت أيديهم بالدماء والقتل المباشر أو أصحابُ القفازات البيضاء الذين يسرقون تلك الشعوبَ بمهارة فائقة ليوظفوا من تلك الأموال من يوجهونهم ليقتلوا أبناء جلدتِهم تحت عناوين متنوعة؛ تارة تحت عنوان الطائفية، وتارة القومية، وأخرى الدين، وأحيانًا الأيديولوجيا، وأحيانًا كثيرة بحجة رص الصفوف لمجابهة العدو المتغير حسب الحاجة وقانون العرض والطلب! توجَّه المسؤوليةُ وأصابعُ الاتهام على الدوام للضحية أي الشعوب بحجج وتبريرات وشماعات متنوعة؛ تارة يلقون المسؤولية على الجهل، وتارة على الإلغاء، وتارة على صراع النهضة مع الرجعية، وأحيانًا على الدين، وأخيرًا شهوة السلطة… بين تلك المبررات والعناوين الخداعة ذُبحت الشعوبُ المتجذرةُ في هذه الأرض عبر آلاف السنين، وهُجرت، واُدلجت، ودمرت حضارتُها، ومسحت هويتها، أما ثرواتها، فأصبحت لعنةً عليها؛ لأنها الوقودُ الذي يمدُّ نادي أمراء الحرب بالحافز، ويجعله فيما بعد الهدف والغاية!
الوعي لا يكفي وحده لخلخلة وهزِّ أركان تلك المعادلة؛ لأن الركونَ للمصير المفروض من القاتل أصبح ثقافةً تتوارثها الأجيال تحت عنوان “مهارات البقاء وبراغماتية الحاجة” ، أما أمراء الحرب، فقد حولوا النادي من وسيلة إلى هدف، وأصبحوا أكثرَ شراسةً من أي وقت مضى في معاركهم التي وقودها الذي لا ينضب الثقافةُ الموروثة “مهارات البقاء وبراغماتية الحاجة”. في زمننا الحاضر بدأ بعض أمراء الحروب يُصابون بجنون العظمة، ويناكفون صانعيهم، والصانع يجلس فرحًا من تقمص هؤلاء الدمى للدور حتى أصبح جزءًا أصيلًا من شخصيتهم! نعم محركو الدمى الذين لم يخلعوا يومًا القفازات البيضاء إلا في استثناءات بسيطة، السعادة تغمرهم عندما تصبح الدمى من البراعة بمكان بحيث تؤدي الدور المطلوب منها دون عناءِ التوجيه أو تعب التحريك ممن يقف أعلى المسرح ثم تجلس بانتظار الدور التالي!
الفرقُ الوحيد بين الدمى وأصحاب القفازات البيضاء، هو إدراك ثقافةِ الضحية لا تأطير إجرام القاتل! عندما يدرك محركُ الدمى أن المتفرجين لا يصدقون العرض، وينتظرون الفرصة لتكسير المسرح فوق الدمى ومن يحركها من الأعلى، يصبح أقلَّ مبالغةً في امتهان الحضور وإذلالهم.
عندما ينتفض الحاضرون ليلعنوا الصمت القاتل، ويصرخ أحدُهم انتبه نحن نراك أنت ودميتك، وسنقفز يومًا من مقعد المتفرجِ المغلوبِ على أمره لنهدم هذا المسرح على رؤوسكم جميعًا عندها ستنتهي ثقافة “مهارات البقاء وبراغماتية الحاجة” التي توارثناها أجيالًا من بعد أجيال من غير رجعة.
ثقافة البقاء وبراغماتية الحاجة هي القاتلُ الخفي للجميع من دمى ومحركيها وجمهورها … وإنْ كان مَنْ دفع وسيدفعُ الثمنَ الأكبرَ المتفرجون الصامتون. ثورات الربيع العربي كانت أولَ صرخةٍ في مسرح الدمى، وأولَ ثورة على ثقافة “مهارات البقاء وبراغماتية الحاجة”، لذلك على الرغم من أننا في أول خطوةٍ من طريق طويل، لكن بالتأكيد تلك كانت أولَ صرخة في مسرح الجريمة منذ مئات السنين!