لوم الضحية‏

إدغار كاسكلا‏ *    ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏ليس من غير المألوف إلقاء اللوم على الضحايا مهما كانت المشاكل أو الصعوبات التي قد يواجهونها. في كثير من الأحيان، يشمل ذلك الأشخاص الذين لم يمتثلوا لأوامر ضباط الشرطة، ناهيك عن أن رجال الشرطة المختلفين ربما يصرخون بأوامر متناقضة بحيث لا يعرف الشخص إلى مَن يستمع. في الآونة الأخيرة، قتل جوردان نيلي بشكل مأساوي في نيويورك لأن سلوكه الغريب كان مُهدِّدًا لركاب مترو الأنفاق الآخرين. و”لحسن الحظ”، تدخل شخص ما لإخضاعه، ومن المؤسف حقًا أنه فقد حياته بسبب ذلك. لا يمكن إلقاء اللوم على الشخص الذي خنقه؛ كان كل ذلك حادثةً سيئة، كما تعلمون.

ولكن دعونا نوسع الإطار قليلاً وننظر في لوم الضحية بطريقة أكثر عمومية.‏

‏يبدأ الحوار مع أخيل مبيمبي في “نيكروبوليتيكس” (1) ‏‏Necropolitics‏‏ (2019) عندما يناقش كيف أعادت الرأسمالية والضرورة الاقتصادية لتحقيق الربح تشكيل النظام العالمي من خلال الاستعمار والعبودية. وقد تم نقل الناس قسرًا أو إجبارهم على الخروج من الأماكن التي كانوا يعيشون فيها ذات يوم ثم انتهى بهم المطاف وقد أُرسِلوا إلى أماكن أخرى من أجل تلبية مطالب العمالة. لم يرغب هؤلاء الناس في الانتقال، لكنهم استُعبدوا. ولم يرغبوا في العمل في المزارع حيث حلت الزراعات أحادية المحصول محل الاكتفاء الذاتي الذي كان يوفره صغار المزارعين الذين يزرعون وينتِجون لأسرهم ومجتمعهم، سوى أن هذا لم يكن المكان الذي يوجد فيه المال. وبمجرد انتقالهم، تم إخضاع هؤلاء الناس أنفسهم لممارسات الكراهية والعنصرية، حيث يجادل أولئك الذين يعيشون في الأراضي الجديدة بـ”أنتم لا تنتمون إلى هنا”. وفي الوقت نفسه، لا يسمح لأحد بأن ينطق بكلمات “الرأسمالية هي التي جلبتني إلى هنا”. ‏

في كتابها “‏‏الرأسمالية آكلة لحوم‏‏ البشر” Cannibal Capitalism (2022)، تخوض نانسي فريزر في مناقشة حول كيف أن لإعادة الإنتاج الاجتماعي في الرأسمالية تأثير متسلسل، حيث يتم استئجار أشخاص من البلدان الطرفية لتوفير الرعاية المنزلية في العالم المتقدم حتى يُتاح للنساء الأكثر تمتعًا بالامتيازات بحرية العمل الذي لا تعيقهن عنه واجباتهن العائلية. ولكن، يظل يتعين الوفاء بمهام تقديم هذه الرعاية، ولذلك يتم استئجار نساء من البلدان الطرفية ليكُنّ هن مقدمات هذه الرعاية، مما يتيح لهن بدورهن إرسال التحويلات المالية إلى الوطن و”مساعدة” أسرهن هناك. وقد تم إنشاء اقتصادات بأكملها، مثل الفلبين، على هذا المفهوم، بما في ذلك الحاجة الموسعة إلى توفير الرعاية الصحية للمسنين في البلدان الأكثر ثراء حيث السكان عند -أو تحت- معدل الإحلال.(2) وتحصل هؤلاء النساء –نساء في المعظم- على عمل ويحصلن على أجر، بينما يدمرن وحداتهن الأسرية من أجل الإبقاء على الطبقات العليا في المجتمع الرأسمالي سليمة.‏

وهكذا، في حين أن تقديم الرعاية يصبح ضرورة للنساء اللواتي يرغبن في العمل لأنه يمنحهن الشعور بالاستقلالية، ثمة ازدراء مواز لأولئك اللواتي يهاجرن ويسعين إلى الحصول على وضع اللاجئ لتولي تلك الأدوار نفسها في قلب النظام الاقتصادي العالمي. وتحاول النساء الهروب من عوالمهن الخاصة من الفقر والعنف، كما هو الحال حاليًا مع اللاجئات القادمات من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة، لكنهن يتعرضن للكراهية والازدراء بسبب استجابتهن لنفس المطالب التي خلقتها الرأسمالية. مرة أخرى، دعونا لا نقول اسم النظام الذي يسبب هذا المأزق. دعونا نلوم الضحايا بدلاً من ذلك.‏

‏‏على نطاق أوسع من ذلك، يمكننا أن ننظر إلى الآثار المترتبة على النيوليبرالية التي امتدت الآن على مدى 50 عامًا من التاريخ. إذا صدّق المرء تعاليم آين راند Ayn Rand في السابق، وميلتون فريدمان Milton Friedman مؤخرًا، فإن تأثيرات الرأسمالية التي تعمل في ظل نظام المراكمة النيوليبرالي كانت واضحة بما يكفي. سوف يصبح الأغنياء أكثر ثراء، ولن تكون هناك مساعدة حكومية للمجتمع لأن الرأسمالية يجب أن تحفز الأداء الفردي ولا تعوض أولئك الذين يفشلون. إذا لم ينج الناس في بيئة المنافسة الشرسة هذه، حيث الكلاب تأكل الكلاب، فسوف يفشلون، وسوف يموتون في النهاية. لقد جعلتهم إخفاقاتهم في عدم كونهم حازمين وعدوانيين بما فيه الكفاية، غير ناجحين. إنهم ليسوا مهمين ولا أقوياء، وينبغي أن يكونوا كذلك.‏

وراءً في ثمانينيات القرن العشرين، تحدث عالم الاجتماع أولريش بيك Ulrich Beck عن ‏‏”مجتمع المخاطر”‏‏ (1980) Risk Society وكيف أن الرأسمالية في نسختها النيوليبرالية أصبحت تعني الآن أن الإنجاز الفردي وحده هو الذي يحدد مصير المرء. لن تكون هناك شبكة أمان اجتماعي لتمسك بأولئك الذين يفشلون. ببصيرة نافذة، كان بيك على حق. ولحسن الحظ، لم يكن زوال شبكة الأمان هذه سريعًا في أوروبا كما كان الحال في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك أميركا الشمالية. لكن الخطر ما يزال محدِقًا بنا على الرغم من أن النظام يولِّده أو يخلقه.‏

بينما أشاهد شبكة إخبارية قبل بضع ليال، كان هناك تقرير مطول حول كيفية وصول التشرد إلى مستويات وبائية في الولايات المتحدة، لا سيما في المدن الزرقاء حيث لم يفعل رؤساء البلديات الديمقراطيون أي شيء لمعالجة هذا الوضع. وكان من المفيد بشكل خاص في هذا التقرير معرفة أن الأشخاص الملونين و/ أو النساء هم الذين يقفون وراء عدم القدرة على حل المشكلة: عمدة نيويورك هو إريك آدامز، وهناك براندون جونسون في شيكاغو، ولوس أنجلوس لديها كارين باس، وهناك لندن بْريد في سان فرانسيسكو. والمعنى الضمني واضح: إنـ”هُم” يُنتخَبون بسبب هذه الرغبة المجنونة في دعم الاشتمال، ثم يفشلون لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون.‏

ما الذي ينبغي عمله؟ في عالم نيوليبرالي حيث يتم التعامل مع أي إجراء تقوم به الحكومة بريبة، أو بغضب، أو بكليهما، فإن الإجابة هي: لا شيء. وهكذا، من خلال عدم فعل أي شيء، تتحقق الرؤية النيوليبرالية الكبرى لعالم منقسم بين بعض الفائزين والكثير من الخاسرين. ويحتفل الفائزون في مونت بيليرين، أو ربما في دافوس هذه الأيام، بينما يجب على بقية المجتمع تلمس طريقه حول الخيام والأشخاص الذين يطلقون الفنتانيل على أرصفة سان فرانسيسكو. بالنسبة لراند، “أطلس هزّ كتفيه”(3) لأن هذا هو ما يفترض أن يحدث. إذا كنت ثريًا، فإنك تستحق كل ما لديك.‏

ثمة ضحيتان هنا. أولاً، المشردون وعدم الرغبة في فعل أي شيء لمساعدتهم، بما في ذلك إنفاق الأموال على السكن والرعاية الصحية (الجسدية والعقلية) التي لا يملكها معظم الناس. وعندما يتعلق الأمر باللاجئين اليائسين لمغادرة الأمكنة التي أتوا منها بسبب ظروف خارجة عن إرادتهم، فإن هذه المشاكل تقع على عاتق الحكومات والدول التي أتوا منها. هناك حاجة إلى عملهم، ومع ذلك، فإن قلة من الناس على استعداد لاستقبالهم. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل عما سيحدث عندما يصل عدد سيول الناس إلى مئات الملايين بمجرد أن يجعل تغير المناخ أجزاء معينة من الكوكب غير صالحة للعيش. هل تنفتح البوابات أمام اللاجئين؟ ليس في عالم التنافس الشرس حيث الكلاب تأكل الكلاب. لن تفعل. ثانيًا، يقع المسؤولون الحكوميون أنفسهم ضحية للنقد لأنهم “لا يفعلون أي شيء”. حسنًا، أتدرون؟ لا أحد يريدهم أن يفعلوا أي شيء. هذه هي النيوليبرالية. ولكن دعونا لا نتحدث عن ذلك.‏

*إدغار كاسكلا Edgar Kaskla: محاضر في العلوم السياسية في “كال ستيت لونغ بيتش”.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Blaming the Victim

هوامش المترجم:

(1) ‏نيكروبوليتكس Necropolitics:‏‏ هي استخدام القوة الاجتماعية والسياسية لإملاء كيف يمكن لبعض الناس أن يعيشوا وكيف يجب أن يموت البعض. كان أخيل مبيمبي، مؤلف ‏‏كتاب “عن ما بعد المستعمَرة” On the Postcolony‏‏، أول باحث يستكشف المصطلح بعمق في مقالته التي تحمل الاسم نفسه. و‏كان مبيمبي واضحا في أن “سياسة الموتى” هي أكثر من مجرد الحق في القتل؛ إنها أيضًا الحق في تعريض الآخرين للموت. وتضمنت وجهة نظره في ‏‏”سياسة الموتى”‏‏ أيضا الحق في فرض ‏‏الموت الاجتماعي أو المدني‏‏، والحق في استعباد الآخرين، وأشكال أخرى من العنف السياسي. نيكروبوليتيكس،‏ هي نظرية الموتى السائرين، وطريقة لتحليل كيف أن “‏‏الأشكال المعاصرة لإخضاع الحياة لقوة الموت‏‏” تجبر بعض الأجساد على البقاء في حالات مختلفة من الوجود بين الحياة والموت. ويستخدم مبيمبي أمثلة العبودية، والفصل العنصري، واستعمار فلسطين وشخصية الانتحاري لإظهار كيف أن الأشكال المختلفة لـ”سياسة الموتى”‏‏ على الجسد (الدولة، العنصرية، حالة الاستثناء، الإلحاح، الاستشهاد) تُسلم الناس إلى ظروف حياة محفوفة بالمخاطر.‏

(2) معدل الإحلال (أو استبدال) الأجيال: عدد الأطفال الذين يجب أن ينجبهم الزوجان على مدار سنوات الإنجاب من أجل استبدال نفسيهما.‏‏ وتذكر الأمم المتحدة أن معدل الاستبدال في جميع أنحاء العالم هو 2.1 طفل لكل زوجين.‏‏ ومع ذلك ، فإن بعض المناطق لديها معدلات أعلى أو أقل اعتمادًا على ما إذا كانت الدولة متقدمة أم لا ، حيث تحتاج البلدان الأقل نموًا إلى 2.3 طفل مولود لكل زوجين ليحلوا محل السكان.

‏(3) “أطلس هز كتفيه “Atlas Shrugged: هو عنوان رواية آين راند الصادرة في العام 1957، والعبارة مأخوذة من محادثة في النص بين الشخصيتين فرانسيسكو دي أنكونيا وهانك ريردن‏‏. ويلاحظ دي أنكونيا أنه كلما بذل أطلس جهدًا أكبر، “كان العالم أثقل على كتفيه”، وأفضل نصيحة يمكن أن يقدمها لتيتان هي مجرد “هز كتفيه”.‏ وموضوع الرواية، وفقا لآين راند، “هو ‏‏دور العقل في وجود الإنسان‏‏”. وتبين القصة أن العقل هو أصل كل المعارف والقيم الإنسانية -وغيابه هو أصل كل الشرور.‏

المصدر: (كاونتربنش) / الغد الأردنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى