يأتي قرار ألمانيا باعتبار (حزب الله) منظمة ارهابية، وحظر نشاطه على أراضيها، بعد أيام قليلة من بدء محاكمة عنصري استخبارات سوريين، بما يوحي أن الخطوتين تعكسان مراجعة لسياستها في الشرق الأوسط تلتقيان في نقطة مشتركة، هي التصدي الاستباقي لأعمال الإرهاب والتجسس والجريمة المنظمة التي تمارسها أذرع إيران في أوروبا. وحسب محللين أوروبيين فإن الحملة الألمانية على الحزب دفاعية وهجومية في آن واحد، تحركها معلومات أمنية متعددة المصادر عن مخطط لعمليات ارهابية، تستعد الأذرع الإيرانية لتنفيذها في الدول الاوروبية، لترويعها وابتزازها، وتستهدف بشكل خاص أهدافًا أميركية واسرائيلية، مستغلة انشغال أوروبا بجائحة كورونا، وتشكل ردًا انتقاميًا على الضربات الأميركية والاسرائيلية لمواقع وأهداف إيران وجماعاتها في العراق وسورية، منذ اغتيال قاسم سليماني وما تلاه حتى الضربتين الأخيرتين يوم الخميس الماضي في سورية خلال يوم واحد.
بالنسبة لهؤلاء المحللين فإن إيران وصلت إلى أضعف حالاتها، تحت تأثير سيف العقوبات الأميركية وتفشي فايروس كورونا، وانهيار نفوذها في دول المنطقة، وظهور مؤشرات على تراجع الدعم الروسي للدور الايراني في سورية.
لذلك تجد إيران ضرورة لتذكير العالم بقدرتها على توجيه ضربات تحت الحزام، بواسطة أذرعها، وخلاياها النائمة، لاسيما في أوروبا، انتقامًا من دولها بسبب تغير مواقفها منها، تحت الضغوط الأميركية. ومعروف أن أوروبا طالما كانت ساحة عمليات للاستخبارات الإيرانية لتصفية المعارضين، وفي العام 2017 اعتقلت الشرطة الألمانية جاسوسًا أفغانيًا – إيرانيًا يجمع معلومات حساسة عن نواب وساسة ألمان لقتلهم، ومنشآت أميركية وإسرائيلية لضربها. ومعروف أن إيران وحزب الله نفذا عمليات كثيرة في فرنسا والنمسا وألمانيا وهولندا وإيطاليا والدانمارك والسويد وبلغاريا وقبرص، لا تقتصر على الاغتيال والإرهاب السياسي، بل تتعداهما إلى الجريمة المنظمة كالإتجار بالمخدرات والسرقة وبث الدعاية المذهبية والأيديولوجية.
كانت ألمانيا من أكثر الدول الأوروبية قربًا من إيران وحزب الله، فالعلاقات الاقتصادية بين الدولتين اتسمت بالاتساع والازدهار طوال عقود. كما أن ألمانيا كانت قناة اتصال دائم لثلاثين عامًا، بين حزب الله وإسرائيل، ولعبت دورًا حاسمًا في صفقات (الحزب وإسرائيل) لتبادل أسرى ومعتقلين ورفات بدأت عام 1991، واستمرت لليوم، أبرزها صفقة 2004 وصفقة 2008. وثمة معلومات غير رسمية عن توسط الاستخبارات الألمانية لعقد صفقة ثلاثية إسرائيلية مع كل من نظام الأسد وحزب الله تمت عام 2012، تقبل إسرائيل بموجبها تدخل حزب الله في القتال في سورية دفاعًا عن نظام الأسد، بشرط عدم المس بأمن إسرائيل.
في ضوء هذه الأبعاد العميقة لعلاقات ألمانيا بإيران وحزب الله تبدو الخطوات الأخيرة انقلابًا دراماتيكيًا، أو إعلان حرب، على (الحزب) سبقته تهديدات إيرانية لألمانيا بسبب التصعيد الذي طرأ على موقفها المناهض لسياسة إيران النووية والتوسعية في الخليج والشرق الأوسط، بعد إطلاق إيران قمرًا اصطناعيًا للأغراض العسكرية، وبسبب المؤشرات المتزايدة على إحكام حزب الله سيطرته على لبنان الدولة والاقتصاد والسياسة ودفعه البلد للانهيار والتضحية باقتصاده قربانًا للأسد وخامنئي.
لا بد أن نلاحظ أن الخطوات الألمانية تتوازى وتتقاطع مع خطوات مشابهة صدرت عن الاتحاد الأوروبي وعن دوله الرئيسية كفرنسا وبريطانيا في الفترة الأخيرة. بدءَا من وصم الحزب بالإرهاب وانتهاء بحظر نشاطه، وإدانة السياسة الإيرانية بصورة تقلص كثيرًا المسافة الفاصلة بينها وبين المواقف الترامبية المعادية لإيران في الأعوام الثلاثة الفائتة. ومن البديهي أن السياسة الألمانية – الفرنسية هي التي توجه سياسات بقية الدول الأوروبية، ما ينذر بتعميم وتوسيع التحولات في المواقف الألمانية والفرنسية.
تؤسس هذه التحولات تغيرًا جذريًا في التعاطي الأوروبي والغربي مع إيران وأذرعها، وخاصة حزب الله الذي يعد أطول الأذرع، وأكثرها تنظيمًا وإحكامًا على الساحة الدولية، وتعتمد عليه طهران في تنفيذ سياستها الإرهابية حول العالم، وهو ما يفهم من رد الفعل العنيف الصادر عن طهران على الإجراءات الألمانية، كما لو أنها موجهة لها، لا لحزب لبناني.
لا ريب أن أوروبا تأخرت كثيرًا وتقاعست طويلًا، كما تأخرت وتقاعست الولايات المتحدة عن اتخاذ القرارات الحازمة والرادعة تجاه حزب الله الذي مارس كل أشكال الارهاب منذ نشأته قبل 40 سنة لصالح نظامي طهران ودمشق، وأوجد امبراطورية إجرامية وإرهابية تتحرك على مستوى العالم كله وأوجدت خلايا نائمة في كل الدول الأوروبية والأميركية والإفريقية، وأمسى يشكل خطرًا حقيقيًا عليها كافة، ولم يعد بد من مواجهته بنفس القوة التي أظهرتها مع تنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة – داعش في السنين الأخيرة.
إن أسطورة حزب الله كحركة مقاومة انتهت، مع انتهاء الحاجة له من الغرب واسرائيل التي ساعدته على بناء امبراطوريته، وسمحت له بالمشاركة في حرب إبادة الشعب السوري. وها هو ينتهي كحزب سياسي شرعي في لبنان على أيدي الانتفاضة اللبنانية، ويوشك أن ينتهي دوره كضامن للأمن مع اسرائيل. وسيتحول قريبًا في نظر العالم نموذجًا للإرهاب والإجرام والفساد وكأداة للأنظمة المارقة في حربها مع شعوبها، وقد تكشف الموساد قريبًا عن أسرار علاقاتها معه في قضائه عمليًا على المقاومة الوطنية اللبنانية اللاطائفية ضد إسرائيل منذ أواخر الثمانينات، وقيامها بالمقابل بتسليمه جنوب لبنان بشكل مفاجئ عام 2000، وتتويجه قوة عابرة للحدود نسفت استقرار الدول العربية من داخلها، ثم تحول منذ عام 2006 حارسًا وضامنًا للحدود اللبنانية – الإسرائيلية بنفس الفعالية التي حول الأسد بها الجيش السوري منذ 1974 حاميًا لحدود العدو وكلاهما تحت نفش شعارات المقاومة والصمود والتصدي !!
لعل اسرائيل كانت دائمًا حليفًا وداعمًا ومشغلًا لحزب الله، وقد يكشف أرشيف الموساد مستقبلاً أسرارًا مذهلة له في تمكين حزب الله على الساحة العربية. وإلا كيف ولماذا تغاضت الإدارات الأميركية منذ 1983 عن عملياته الكبيرة ضد قواتها ومنشآتها في لبنان وسلمت بشرعيته وانتصاره عليها..؟؟!
إن بدء اندحار حزب الله حاليًا، مؤشر قوي على نهاية عصر الارهاب الشيعي، ومؤشر على قرب انهيار نظام الارهاب العلوي، ومؤشر على بدء انحدار مشروع الامبراطورية الفارسية الرابعة، قبل أن يكتمل.